يتفق الكثير من المراقبين والمؤرخين، وهم يستحضرون ذكرى تأسيس جامعة الدول العربية قبل 76 عاما والتي مرت بصمت هذا الأسبوع، على حقيقة مفادها أن الخلافات داخل البيت العربي باتت سيدة الموقف، وأن الواقع العربي المتشرذم لم يعد يوفر الغرض من وجود هذا الكيان بميثاقه التأسيسي الذي بسقوط مواد كثيرة منه في دائرة عدم الصلوحية قد تنتهي صلاحيات الجامعة كمؤسسة توحّد العرب عاجلا أم آجلا.
تونس – مرت العلاقات العربية – العربية في العشرية الأخيرة بالكثير من الأحداث التي شقت صف بلدان المنطقة، الأمر الذي أرخى بظلال قاتمة على عمل جامعة الدول العربية والتي تستحضر ذكرى تأسيسها قبل أكثر من سبعة عقود وهي ليست في أحسن أحوالها بالنظر لعدم قدرتها على توحيد العرب ضمن الميثاق الذي من أجله تأسست.
ويعتبر هذا الكيان الذي يتخذ من العاصمة المصرية القاهرة مقرا له منظمة إقليمية تضم دولا عربية تتوزع بين منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وينص ميثاقها التأسيسي على التنسيق بين الدول الأعضاء في الشؤون الاقتصادية ومن ضمنها العلاقات التجارية والثقافية، وأيضا التعاون العسكري والدبلوماسي، لتصل إلى العلاقات الاجتماعية والصحة وغيرها.
ومع أن المنطقة العربية شهدت أحداثا متواترة منذ نشأت الجامعة، فإن وجهات النظر بين القادة العرب في العديد من المواقف والقضايا التي تهم العرب لم تغادر مربع الانقسامات والخلافات لتصل في بعض الأحيان إلى قطع العلاقات الدبلوماسية، مما يطرح تساؤلات حول الجدوى من مواصلة الجامعة العربية وهي على هذا الوضع.
وسجلت العلاقات بين الدول العربية منذ 2011 تعثرات وأزمات كثيرة – وإن كانت هناك محاولات لرأب الصدع بين أعضاء وازنين في الجامعة – لا تشبه بشكل كبير الخلافات التي سبقت تلك الفترة، فصدمة “الربيع العربي” لا تزال تداعياتها تُحدث ببطء انشقاقات في أسس نظريات العمل العربي المشترك المنسجم في الرؤى نظريا في الفترة بين ستينات وسبعينات القرن الماضي، إلا أن درجة الانسجام اليوم تبدو متراجعة على نحو كبير.
ورغم أن الحماس لإنشاء كيان يجمع العرب الذي قادته ثماني دول حينها في مقدمتها مصر وسوريا والعراق في أربعينات القرن الماضي ليتوج بولادة الجامعة العربية في الـ22 من مارس 1945 في شكل مجموعة من الدول الناطقة بالعربية المستقلة حديثا من دول استعمرتها بهدف توثيق الصلات بين الدول العربية وتنسيق خططها السياسية تحقيقا للتعاون بينها وصيانة لاستقلالها وسيادتها، لكن الوضع في الوقت الحاضر يؤشر على دخول هذا التكتل في مرحلة الاحتضار.
وعلى إثر الانتفاضات العربية التي دمرت عدة دول، تعرض جوهر مفهوم العروبة ومعه الأسس التي قامت عليها الجامعة العربية لتهديد وجودي، وذلك في ظل تفاقم وتصاعد حدة السياسات الطائفية والقبلية في بيئة تتميز بتزايد التدخلات في الشؤون العربية من قبل إيران وتركيا وروسيا وغيرها من الدول.
وبحلول منتصف العقد الماضي لم تثبت أي دولة عربية حصانتها ضد الحركات التوسعية التي تدعي قلب المعطيات التاريخية والطائفية والإثنية، وأصبحت أغلب الدول الأعضاء تواجه مشاكل جمة في فرض سيادتها تتضح ملامحها أساسا في الانقسامات الداخلية بين السنة والشيعة على امتداد المشرق العربي ودول الخليج.
ويمكن ملاحظة ارتفاع حجم الخلافات بين الدول العربية وخاصة في ما يتعلق بالأزمات في اليمن وسوريا وليبيا، فضلا عن تباين المواقف حول الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي والذي اتخذ منعطفا جديدا مع صفقة القرن التي تبناها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب وما تلا ذلك من اتفاقات التطبيع الدبلوماسي بين أربع دول عربية هي الإمارات والبحرين والمغرب والسودان مع إسرائيل.
ويتضح عجز الجامعة عن أداء دورها على النحو المطلوب منها في فشلها في إصلاح حالة فتور العلاقات بين السعودية والإمارات والبحرين ومصر من جهة، وقطر من جهة أخرى بعد المقاطعة الخليجية في العام 2017 قبل أن تعود العلاقات بين هذه الدول ولكن بحذر بعد قمة العلا التي عقدت مطلع العام الحالي.
كما أن عدم القدرة على التقريب بين الفرقاء السياسيين في ليبيا لرأب الصدع في ما بينهم والذي أثر على الدولة النفطية التي تحولت إلى مسرح للحرب، وأيضا الفشل في حل الصراع السوري الذي دمر الدولة بعد تدخل قوى إقليمية في مقدمتها تركيا وروسيا وإيران، وكذلك ما يحصل بالنسبة إلى اليمن، تدل على أن الجامعة العربية لم يعد بمقدورها المسك بزمام الأمور.
وحتى قبل “الربيع العربي” كان الوضع القائم قد تعرض كذلك للتهديد بسبب وجود حركات مسلحة سلفية جهادية تتخطى الحدود وتقاتل الأنظمة، إلى جانب مساهمة التحالفات مع دول خارج المنطقة العربية في التصدعات الداخلية داخل الدول غير المتجانسة.
وتاريخيا هناك شواهد على عجز هذا الكيان عن القيام بدوره على أكمل وجه عبر تطبيق بند مهم في ميثاقه وهو التوسط في حل النزاعات التي تنشأ بين الدول الأعضاء أو النزاعات بين دوله وأطراف ثالثة، إذ لم تتمكن الجامعة العربية من إيجاد أي حلول لخلافات مستمرة بين المغرب والجزائر منذ ستينات القرن الماضي وليزداد منذ منتصف تسعينات القرن الماضي، وأيضا بين العراق والكويت قبل الغزو الأميركي للعراق في 2003.
وتشكل مؤشرات انخفاض التمثيل الرسمي للقادة العرب في السنوات الأخيرة أثناء انعقاد مؤتمرات القمة لمجلس الجامعة العربية السنوي، فضلا عن مقاطعة بعض الزعماء لها، بوادر أزمة تتجه إلى التفاقم بشكل أكبر خاصة على مستوى تضرر متوقع لتمويل الجامعة في حال زيادة الاختلاف حول الالتزامات المالية المخصصة للمنظمة العربية.
ولقد نجم عن صمت الجامعة العربية تجاه التهديدات الإقليمية المتزايدة تآكل مصداقيتها باستمرار، حيث أن بعض الدول رفضت استضافة القمة السنوية كتعبير منها عن امتعاضها لما تقوم به، مما يشي بأن إعادة هيكلة هذه المنظمة أضحت أمرا حتميا لإعادة زخمها بما يتلاءم مع مواقف الأعضاء خاصة وأن المنطقة مقبلة على تحديات كثيرة في المستقبل.
شواهد تاريخية على عجز الجامعة العربية عن القيام بدورها عبر تطبيق بند التوسط في حل النزاعات بين الدول الأعضاء أو النزاعات بين دوله وأطراف ثالثة.
العرب