الفقر في العراق.. بين عجز صنَّاع القرار ويأس المواطن

الفقر في العراق.. بين عجز صنَّاع القرار ويأس المواطن

الباحثة شذى خليل*

يعتمد مفهوم الفقر على ثلاثة مؤشرات، هي الصحة، والتعليم، ومستوى المعيشة، وهناك مكوِّنان مهمان لابد من أن يبرزا في أي تعريف لمفهوم الفقر، وهما: مستوى المعيشة، والحق في الحصول على حد أدنى من الموارد، ويمكن التعبير عن مستوى المعيشة بالاستهلاك لسلع محددة، مثل الغذاء والملابس أو السكن، التي تمثِّل الحاجات الأساسية للإنسان وتسمح بتصنيف أي فرد لا يحققها ضمن دائرة الفقر.
أما الحق في الحصول على الحد الأدنى من الموارد، فهو لا يركز على الاستهلاك بقدر تركيزه على الدخل، أي الحق في الحصول على هذه الحاجات أو القدرة في الحصول عليها.
البنك الدولي، في أكتوبر/تشرين الأول 2015، قام بتحديد خط الفقر الدولي بـ1.9 دولار في اليوم لكل شخص، أي أن الناس الذين يعيشون تحت خط الفقر ليس لديهم ما يكفي لتلبية احتياجاتهم الأساسية.
وعادة ما تحدد البلدان خطوط الفقر الوطنية، وتستخدم خطوط مجموعة من أفقر البلدان لتحديد خط الفقر المدقع الدولي البالغ 1.9 دولار في اليوم، أما خط الفقر النسبي، فيُحدَّد تبعًا للموقع النسبي للفرد والأسرة ضمن المجتمع المعني، وطبقًا لذلك يُحدَّد خط الفقر النسبي بنسبة معينة من الدخل المتوسط، كأن يُحدَّد بنصف الدخل المتوسط أو بالحد الأعلى لدخل 10% من السكان الأدنى دخلًا، وبهذا، فإن خط الفقر النسبي يتغيَّر بتغيُّر الدخل من بلد لآخر أو من وقت لآخر بالنسبة للبلد ذاته.
يعاني العراقيون، أزمة مالية خانقة جراء تراجع أسعار النفط، الذي يغطي 95% من نفقات الدولة، بفعل جائحة كورونا التي شلت قطاعات واسعة من اقتصادات العالم، حيث يعيش المواطن منذ عام واحدة من أقسى الفترات على المستوى الاقتصادي، إذ زادت نسب الفقر والبطالة بشكل ملحوظ نتيجة تفشي فيروس كورونا وتدهور أسعار النفط عالمياً، حيث يعيش نحو ربع سكان العراق تحت خط الفقر، وفق آخر دراسة أجرتها وزارة التخطيط العراقية بالتعاون مع البنك الدولي، وفي آخر إحصاء أعدته وزارة التخطيط مطلع العام الجاري 2021، يبلغ تعداد سكان العراق نحو 40 مليوناً و150 ألف نسمة، وقرابة 10 ملايين إنسان في البلاد يعيشون بأقل من دولارين في اليوم، بحسب وصف البنك الدولي لخط الفقر.
وفي يناير/ كانون الثاني الماضي، أكد مستشار رئيس الوزراء العراقي للشؤون المالية مظهر محمد صالح، أن نسبة الفقر في البلاد بلغت 30 بالمائة، مبيناً أن “الفقراء منهم مهجرون قدماء وعاطلون عن العمل، إضافة إلى أن هناك أكثر من مليوني عائلة أضيفت إلى النسبة نتيجة جائحة كورونا التي اجتاحت العالم”، حيث تضررت مصالح العاملين في القطاع الخاص وأصحاب المشاريع الصغيرة، مثل عمال المطاعم والشركات الأهلية وسائقي النقل العام وعمال البناء وغيرهم، جرّاء الإجراءات الوقائية التي اتخذتها السلطات من حظر تجوال وغيرها.
وحسب تقرير لوزارة التخطيط العراقية نهاية العام الماضي، تصاعدت نسبة الفقر في البلاد، وذكر التقرير ان تداعيات فيروس كورونا، تسببت بإضافة 1.4 مليون عراقي جديد إلى إجمالي أعداد الفقراء وأن “عدد الفقراء بموجب هذا الارتفاع، بلغ 11 مليونا و400 ألف فرد، بعد أن كان قبل الأزمة حوالي 10 ملايين فرد”، وأوضح أن “نسبة الفقر ارتفعت إلى 31.7 في المائة، والتي كانت 20 في المائة في عام 2018”.
الفقر في المناطق الجنوبية:
قال أحمد حمه رشيد، عضو اللجنة المالية في البرلمان العراقي، إن “نسبة الفقر في العراق اقتربت فعليا من 40% وخصوصاً في المحافظات الجنوبية من العراق بسبب الإجراءات الوقائية للحد من جائحة كورونا وارتفاع الأسعار وهبوط سعر الدينار أمام الدولار، بالإضافة إلى غياب فرص العمل في البلاد، مما انعكس سلبا على الواقع المعاشي للمجتمع، حيث تفاقمت المشكلات الاجتماعية والصحية”، وتزايدت حالات الانتحار نتيجة وصول المواطن العراقي إلى حالة من اليأس في توفير لقمة عيش كريمة له ولأفراد عائلته”.
وكما معروف ان البصرة هي مركز صناعة النفط في العراق، ومع هذا تعاني حالة الفقر المدقع والبطالة وغياب النظام الصحي الذي تعاني منه مدينة البصرة -ثاني المدن العراقية الكبرى- رغم أنها تضم أكبر الحقول النفطية في العراق، وتطفو نسبة 90% من مساحتها فوق بحر من النفط، وتنتج نحو 3.4 ملايين برميل يومياً، كما أنها المنفذ البحري الوحيد للعراق والمطل على الخليج العربي. غير ان ثروات المحافظة لا تجلب على سكانها سوى “المزيد من الآثار القاتلة من الأمراض والبطالة ونقص في الحرث”.
وتتأثر المناطق الجنوبية التي تسيطر عليها الأحزاب والمليشيات الموالية لإيران، التي تحتكر الوظائف والأموال والقطاعات الخاصة والحكومية، ولعل البصرة وميسان والناصرية هي الأكثر من حيث نسب الفقر، إضافة إلى المناطق المحررة من سيطرة تنظيم “داعش” الإرهابي، وتحديداً مدينة الموصل، التي تتراجع فيها الخدمات ولا تزال غالبية أهلها الذين عادوا إليها بلا مصادر رزق بسبب الخراب.
ففي البصرة اللهب الذي يخرج من الآبار النفطية لا يشكل بالنسبة للمعدمين الذين يعيشون قربها، سوى تذكير لهم بعجزهم عن المشاركة في الثروات التي تقبع تحت أقدامهم.
إن السكان الذين لا يبعدون عن الحقول الغنية بالنفط أكثر من بضعة أميال يعيشون وسط الطين والقذارة، وتعج الشوارع بمشاهد العربات التي تجرها الحمير، فضلا عن أن معدلات الإصابة بمرض السرطان هناك هي الأعلى في البلاد، والمياه المالحة تصيب الناس بالأمراض.
ومن المشاكل التي تعترض تلك القرى أن بعضها يعد ملكية حكومية لا يسمح فيها بالبناء لأنها تحتضن آبارا نفطية، فيضطر الناس للعيش في منازل من الخشب مسقوفة بالبلاستيك، كما أنه لا يوجد عمال لجمع القمامة التي تترك تحت الشمس لتتعفن، ولا يوجد نظام صحي، فتترك الفضلات في الخارج، لتجذب بحيرات المياه خارج كل منزل الآلاف من الذباب.
وتؤكد مصادر حتى بعد طلب المسؤولين فرض دولار على كل برميل لصالح المنطقة، فإنه لا يُسمح ببناء مساكن جديدة أو مكاتب أو حتى إصلاح المزارع لأن كل شيء يطفو على بحر من النفط الخام.
اما ما يخص محافظة نينوى وتحديدا مدينة الموصل الشمالية وبعد تحريرها من تنظيم داعش الإرهابي، ما زالت تعيش حالة مساوية من الفقر والحرمان والبطالة والعواقب في الأثر الكبير الذي طال الرعاية الطبية، إذ دُمرت بالكامل العديد من المرافق الصحية في المدينة ذات المليون ونصف المليون نسمة نتيجة النزاع وأصبح هؤلاء السكان في محنة مواجهة جائحة كوفيد- ١٩ المميتة، الموصل المنكوبة تصارع كورونا.. فقر وبطالة وموت، وبحسب آخر الإحصائيات الحكومية التي أعلنت تدمير 12 مستشفى حكوميًّا من أصل 14، كما تعرض 76 مركزًا صحيًّا للقصف من أصل 98 في عموم مدينة الموصل، هذه المدينة كانت مشهورة على مستوى العراق بمستشفياتها العملاقة، وكانت أيضًا معروفة بأطبائها المهنيين والمحترفين والمختصين.
كانت الموصل تضم أهم المستشفيات الحكومية بسعة 4600 سرير قبل يونيو/ حزيران 2014. لكن عدد الأسرَّة انخفض بعد الحرب عام 2017 إلى 1700 سرير مخصصة لـ3.7 مليون إنسان في عموم محافظة نينوى.
ويقول خبراء إن إعادة إعمار المدينة يتطلب عدة مليارات من الدولارات، وأن عمليات الإعمار قد تطول إلى نحو عشر سنوات، وما زالت المناطق القديمة في الجانب الأيمن من الموصل تحتوي على نحو 8 أطنان من الأنقاض، وأكثر من 300 ألف طن من مخلفات الحرب، أبرز المستشفيات التي تعرضت للقصف إثر العمليات العسكرية، هو مستشفى ابن سينا التعليمي الذي يعد أكبر مستشفى في محافظة نينوى، وثاني أكبر مستشفى بعد مدينة الطب في العاصمة بغداد، ويُضاف لقائمة المستشفيات المهدمة مستشفيات السلام والجمهوري والبتول ومستشفى الأورام السرطانية.
تفتقر الموصل لمقومات الرعاية الأساسية مثل الأمن والتعليم والأمن الغذائي، وخدمات طبية، حيث تستقبل دار رعاية الأيتام وذوي الاحتياجات الخاصة في مدينة الموصل 51 طفلًا فقط، من أصل 300 ألف طفل مشرد أو فاقد للمعيل، وهذا يُنذر بحدوث أزمة صحية كبيرة بعد انتشار كوفيد-19.
ويؤكد بعض المراقبين إن “أكثر من نصف مناطق محافظة نينوى بلا خدمات، والنازحون الذين اضطر بعضهم إلى العودة إلى مناطقهم الأصلية يعانون حالياً من بطالة وفقر في الوقت الذي لا يبدوا فيه أن السلطات تحتسبه في بياناتها وتجهل أشكاله ووضعه”، وأن “معظم المناطق المحررة من داعش لم تعد تحتوي على مصادر رزق، فإلى جانب احتكار الأعمال لجهات محددة، حزبية ومسلحة، فهناك التهديدات الأمنية التي تحد من اللجوء إلى العمل في النقل أو افتتاح متاجر ومحال تجارية”.
وفقًا لآخر إحصائيات الجهاز المركزي للإحصاء التابع لوزارة التخطيط، فإن أكثر من 20% يقبعون تحت خط الفقر، فيما تصل نسبة البطالة بين فئة الشباب إلى 22.7%، كما كشفت وزارة العمل والشؤون الاجتماعية تزايد نسبة الفقر في البلاد بسبب جائحة كوفيد-19
العراق لم يكن فقيراً في أي مرحلة من مراحله، سواء قبل عام 2003 أو بعدها، ولكن هناك فساد وسرقة للمال العام والخاص، وهناك سياسات مالية خاطئة تسيطر عليها أحزاب توالي جهات خارجية تعمل على نهب ممتلكات العراقيين، وهو ما يؤدي في العادة إلى زيادة في معدلات الفقر”.
وسعت الحكومة العراقية خلال الأشهر الماضية إلى السيطرة على نسب الفقر، التي ارتفعت بفعل انتشار فيروس كورونا وانخفاض أسعار النفط وتوقف أغلب المشاريع في جميع القطاعات الاقتصادية، ما أدى إلى خسارة شريحة واسعة من العاملين بالأجر اليومي مصادر دخلهم، إلا أن الحال لم يتحسن، وفقاً لخبراء، وهو ما يستوجب على الدولة إدارة ملف الفقرة بكل دقة، حيث ان الظروف الذاتية والموضوعية التي يمر بها الاقتصاد العراقي تحتاج إلى ترابط وثيق جدًّا بين الدولة والقطاع الخاص وأطراف العمل من حيث التخطيط والتمويل والتنفيذ والمتابعة، والأهم والذي اصبح معضلة هو القضاء على الفساد من خلال القضاء على المليشيات وتقوية مركزية الدولة بالسيطرة على إيراداتها ومواردها.
ويتطلب تنشيط قطاع التجارة الخارجية والاستفادة من قدرات العراق الاقتصادية، وبالذات النفطية منها، تطبيق سياسة اقتصادية مرنة تتجاوز تأثيرات الأيديولوجيات، وتعطي الأولوية للمصلحة الوطنية عبر إقامة علاقات اقتصادية مع الدول المجاورة كافة، وبما يحقق المصلحة الاقتصادية.
ختاما.. وفي ضوء التطبيقات العملية التي يشهدها العراق في الميدان الاقتصادي، وبخاصة منذ سنة 2003 وحتى 2020، فإن ظاهرة الفقر في العراق لم تعد مشكلة اقتصادية وقتية أو اجتماعية عابرة، بل تحولت إلى مأزق دائم يواجه صانع القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في البلاد، وعندئذ لابد من التفكير مليًّا في إعادة النظر بكل المؤسسات والضوابط التي هيمنت على دوائر صنع القرار في العراق تمهيدًا لإقرار معالجات ذات جدوى اقتصادية مثمرة لإشكالية ظاهرة الفقر في العراق، سواء أكان ذلك في المدى المنظور أم على الصعيد الاستراتيجي.

 

وحدة الدراسات الاقتصادية

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية