في السنوات الخمس الأخيرة، تحول العراق خاصة إلى بؤرة مفضلة للميليشيات، حيث وجدت فيه بيئة جاذبة لأنشطتها مستغلة عدة عوامل، بحسب الخبراء الأمنيين المتابعين للشأن العراقي، أبرزها ولاؤها وقربها من طهران وغياب أو ضعف السيطرة الحكومية الأمنية للحد من نشاطاتها، إضافة لاستثمار الميليشيات الوضع الاقتصادي المتردي لإيران، ومحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه عبر الدخول على خط العمل والاستثمار في مجالات تهريب النفط وتجارة المخدرات والالتفاف على العقوبات الأميركية على طهران.
لقد جعلت إيران من العراق منطلقاً لخدمة استراتيجياتها وركيزة أساسية لبنيتها الأمنية الإقليمية، وتوظيف هذه الميليشيات لشنّ حروب بالوكالة كما هو الحال في سوريا والعراق واليمن وغيرها. ويعكس تضخم نشاط هذه الميليشيات المدعومة من إيران، حالة التصدع التي يعاني منها البنيان المؤسساتي الرسمي في العراق بعد عام 2003، والتي أدت إلى انتشار الأجنحة العسكرية الطائفية، رغبة من طهران في إعادة رسم حدود السياسة والمصالح والقوة في عراق ضعيف ومحدود التأثير في محيطه الإقليمي والدولي، جراء ما تمتلكه هذه الميليشيات من قوة ونفوذ يفوق إمكانات الدولة وقدراتها.
حاليًا، تسعى إيران تخريج جيلا جديدا من الميليشيات في العراق أصغر حجما وأكثر نجاعة حيث شرعت إيران في تطبيق أسلوب جديد في استخدام الميليشيات في العراق وتوظيفها في مقارعة خصومها ضمن صراع النفوذ الذي تخوضه هناك، يقوم على تقليص الاعتماد على الميليشيات الكبيرة المعروفة وانتقاء صفوة من بين عناصرها لتشكيل فصائل أصغر حجما وأكثر نجاعة وموثوقية.
وجاء ذلك بعد أن ظهرت مشاكل في استخدام الميليشيات المعروفة بسبب تضخم حجمها وانكشاف أدوارها واستعصاء إدارتها على القيادة الجديدة لفيلق القدس ضمن الحرس الثوري الإيراني بعد مقتل الجنرال قاسم سليماني الخبير المتمرّس بشؤون الميليشيات وبطريقة التحكّم فيها، بالإضافة إلى شكوك في حدوث اختراقات في صفوف تلك الميليشيات قد تكون سهّلت الوصول إلى سليماني وتصفيته مطلع العام الماضي بضربة جوية بطائرة أميركية دون طيار قرب مطار بغداد الدولي.
وقالت وكالة رويترز في تقرير لها إنّ إيران شكلت فصائل جديدة في العراق تضم عددا قليلا من المقاتلين وإنّ تلك الفصائل المستحدثة هي المسؤولة عن الهجمات الأخيرة التي استهدفت مواقع عراقية يوجد فيها خبراء عسكريون أميركيون واستُخدمت فيها طائرات دون طيار.
وقال محرّرا التقرير جون دافيسون وأحمد رشيد استنادا إلى مصادر، بينها مسؤولون في العراق وقادة فصائل مسلّحة، إنّ إيران قلّلت الاجتماعات والاتصالات بينها وبين الفصائل الكبيرة وتوقفت عن دعوة قادتها إلى طهران، وإنّها انتقت المئات من المقاتلين الموثوق بهم من بين كوادر أقوى حلفائها في الميليشيات وشكلت فصائل نخبوية ومخلصة بشدة.
وطبقًا لموقع “ديفنس وان” الأمريكي، قال الجنرال بول كالفرت، قائد قوات التحالف التي تقودها الولايات المتحدة في والعراق: “أعتقد أن هناك تهديدين رئيسيين لدولة العراق حاليًا، أحدهما هو مليشيات الولائية، الموالية لإيران، والثاني الاقتصاد، حيث إن ترك الاثنين بدون رقابة سيبدد المكاسب التي تم تحقيقها بالعراق”. وأفاد “ديفنس وان” بأن شبكات المليشيات المتغيرة باستمرار في العراق أحبطت صناع السياسات الأمريكيين والعراقيين في عدة إدارات.
وقال كالفرت إن “إيران تسعى بلا شك لتحويل العراق إلى دولة تابعة ووكيل لها.. هناك نهج ذو شقين.. محاولة الهيمنة عبر التأثير على التكتلات السياسية المتحالفة مع إيران، وثم عبر القوات بالوكالة”، أي جماعات المليشيات التي تتلقى الدعم والتوجيه من طهران.
وتم تدريب الجماعات الجديدة العام الماضي على حرب الطائرات دون طيار والمراقبة والدعاية عبر الإنترنت والتواصل مباشرة مع ضباط في فيلق القدس. وجاء التكتيك الإيراني الجديد ردّا على سلسلة من النكسات التي تعرّضت لها إيران في العراق وكان أشدّها وقعا وتأثيرا مقتل سليماني الذي كان يسيطر بشكل وثيق على الميليشيات الشيعية مخلّفا فراغا لم يستطع خَلَفه إسماعيل قاآني سدّه لقلّة خبرته بالساحة العراقية سياسيا وأمنيا.
عدم قدرة الحرس الثوري الإيراني على إدارة الميليشيات الشيعية العراقية المتضخّمة حجما وعددا، وعدم التحكّم فيها بنفس القدرة والكفاءة كما كانت عليه الحال قبل مقتل الجنرال قاسم سليماني، وانكشاف تلك الميليشيات وأدوارها للداخل والخارج، وبروز إمكانية حدوث اختراقات في صفوفها، عوامل دفعت إيران إلى تقليل اعتمادها على الميليشيات الكبيرة والاستعاضة عنها بميليشيات مستحدثة أصغر حجما وأكثر موثوقية ونجاعة.
جماع القول، ستظل الميليشيات الطائفية في العراق وغيرها من الدول تعمل على تعزيز المصالح الجيوستراتيجية لطهران، وسيظل وجودها يُشكل تهديداً لهيبة الدولة وقدرتها على اتخاذ القرار ورسم السياسات. وأغلب الظَّن أن إيران ستستمر في دعم هذه المليشيات سعياً منها إلى تعظيم نفوذها في الدول التي يوجد فيها ميليشيات موالية لها، وهو ما يحملها على المطالبة بالانسحاب الأمريكي الكامل من العراق، والسعي إلى مزيد من الإمساك بالقرار اللبناني، مع استخدام أوسع للوكيل الحوثي في البحر الأحمر.
وحدة الدراسات الإيرانية