المناوئون للتسوية الليبية يهددون بعودة داعش من البوّابة الجنوبية

المناوئون للتسوية الليبية يهددون بعودة داعش من البوّابة الجنوبية

لا يرتبط خطر عودة داعش في جنوب ليبيا برغبته في خلق مناخ مناسب لرجوعه من تلك المنطقة في البلاد وبناء نفسه من جديد، إنما أيضا بأهداف خاصة بأطراف من خارج ليبيا وداخلها مثل تنظيم الإخوان الليبي الذي يسعى لاستغلال التنظيمات المتطرفة للحصول على مكاسب سياسية وتوظيفها في مهاجمة الجيش الليبي والوقوف حجر عثرة أمامه حتى لا يتمكن من بسط سيطرته وتحقيق الأمن في البلاد.

فرضت الأوضاع في الجنوب الليبي نفسها على طاولة مؤتمر برلين 2 الذي ناقش سبل تقديم الدعم الأمني والعسكري للقضاء على التنظيمات الإرهابية وعصابات الجريمة المنظمة هناك، خاصة بعد التفجيرات التي نفذها تنظيم داعش الإرهابي مؤخرا في هذا النطاق الجغرافي الحيوي.

لم يغب عن داعش انعكاسات تأجيج الأوضاع بجنوب ليبيا على المستوى الدولي، ولذا يحظى إقليم فزان بأهمية غربية متزايدة، نظرا للتهديدات المباشرة التي تمس الأمن الأوروبي، في ما يتعلق بفرنسا وإيطاليا في حال تمركزت بتلك المنطقة ميليشيات مسلحة وكيانات تمارس الإرهاب والإجرام المنظم العابر للحدود.

كثف داعش الراغب بشدة في لفت الأنظار وإثبات الحضور على المستوى الدولي من عملياته خلال الفترة التي سبقت انعقاد المؤتمر، وبعد تنفيذه لعملية انتحارية بمدينة سبها أسفرت عن مقتل ضابطين وإصابة خمسة أشخاص في السادس من يونيو، عاد بعدها بأيام معلنا مسؤوليته عن هجوم آخر قُتل فيه ضابط بلواء شهداء الواو.

فرع داعش في ليبيا يغير استراتيجياته من حرب العصابات إلى العمليات الانتحارية بالتزامن مع تمدد التنظيم في غرب أفريقيا

يدل أسلوب تنفيذ العمليات الأخيرة لداعش عبر تفجيرات انتحارية خلاف استراتيجيته القتالية التي ميزت عملياته السابقة بإقليم فزان وهجماته على المواقع العسكرية خلال شهري يونيو ومايو من العام الماضي، على أن التنظيم طور من نفسه وأعاد هيكلته ليواكب التحولات التي صبت في صالح فرعه في غرب أفريقيا، معلنا عن الجنوب الليبي كأرض جهاد وطلب شهادة.

تحول فرع تنظيم داعش في ليبيا من حرب العصابات وعمليات الكرّ والفرّ إلى العمليات الانتحارية بالتزامن مع تمدد التنظيم الرئيسي في غرب أفريقيا والساحل والصحراء مغزاه تهيؤ الجنوب الليبي مترامي الأطراف لخلق مناخ جهادي مناسب قادر على الإسهام في ما يصبو إليه تنظيم داعش من التمدد وتوسيع النفوذ داخل أفريقيا.

وحرص الفرع الليبي على إظهار سرعة تكيف مع الظروف الجديدة ولفت الأنظار إلى المقدرة على تجنيد عناصر من المهاجرين الأفارقة لإثبات عدم تأثره بالصعوبات البالغة، التي واجهها في التحرك والتواصل بعد الهجمات التي تعرض لها من قبل القوات الأميركية العاملة في أفريقيا (أفريكوم) والعمليات التي نفذها الجيش الوطني الليبي وأسفرت عن القضاء على أنشط عناصره وأهم قادته وفي مقدمتهم أبوعبدالله الليبي “أبومعاذ التكريتي” الذي تم قتله في سبها في سبتمبر من العام الماضي.

لفتت هجمات داعش التي تُعد الأولى من نوعها بعد الهدوء الذي نجم عن اتفاق وقف إطلاق النار بين الفرقاء الليبيين في أكتوبر الماضي إلى الأطراف صاحبة المصلحة في ضرب المسار السياسي وعدم حدوث استقرار في ليبيا بهدف عرقلة الانتخابات المقررة في 24 ديسمبر المقبل.

ولا ترتبط عودة خطر داعش في الجنوب الليبي فقط برغبة التنظيم الذاتية في إعادة التموضع وبناء نفسه من جديد، إنما أيضا بأهداف خاصة بأطراف خارج ليبيا وداخلها كتنظيم الإخوان الليبي الذي يسعى إلى استغلال التنظيمات التكفيرية المسلحة للحصول على مكاسب سياسية وتوظيفها في مهاجمة الجيش الليبي والوقوف حجر عثرة أمامه حتى لا يتمكن من بسط سيطرته وتحقيق الأمن.

ينذر حرص بعض القوى الخارجية والكيانات في الداخل على استمرار النزاع وعدم حدوث توافق سياسي يفضي لتوحيد وبناء مؤسسات الدولة بتفجر بؤر ساخنة في مناطق تمركز داعش بالجنوب وفي العديد من المناطق الليبية المستهدفة، وينذر أيضا بعواقب وخيمة بشمال وغرب أفريقيا، وهو ما يؤثر بالسلب على أمن دول أوروبا التي لا تفصلها حدودها الجنوبية إلا بضعة كيلومترات عن الساحل الليبي.

لذلك سارع الجيش الوطني الليبي بالتزامن مع انعقاد مؤتمر برلين 2 إلى إطلاق عمليته العسكرية في جنوب غرب البلاد لتحقيق جملة من الأهداف في عدة اتجاهات في مقدمتها تفويت الفرصة أمام بعض الأطراف لاستغلال هذه التطورات سياسيا لأنها ضالعة في تهيئة الجنوب الليبي لداعش للتمركز فيه للتشكيك في قدرات الجيش، علاوة على ما تمثله العملية على المستوى الدولي، حيث التقاطع مع أهداف دول أوروبا الحريصة على تحقيق الأمن في جنوب ليبيا، ومع الدول الأفريقية الداعية لضبط الحدود لعدم تمكين ميليشيات من دول أفريقية من اتخاذ جنوب البلاد ساحة خلفية لشن هجمات عليها.

كشفت عمليات الجيش الليبي الأخيرة عن حضور ثلاثة تنظيمات إرهابية رئيسية تنشط بالمنطقة، وهي داعش الذي يسعى لتنظيم صفوفه وامتلاك قاعدة للتمركز جنوبا لشن عمليات بالداخل الليبي بعد أن فقد أهم معاقله في سرت وبنغازي ودرنة، والقاعدة الذي كان يقاتل في السابق في درنة، علاوة على خلايا تابعة لبوكو حرام التي جرى نقل بعض عناصرها إلى ليبيا بعد التفوق الداعشي في نيجيريا للحصول على التدريبات اللازمة لاستعادة القوة والعودة لنشر الفوضى في منطقة الساحل الأفريقي.

وضع إطلاق عملية الجيش الليبي العسكرية الأخيرة التي استهدفت تمركزات داعش في الجنوب المجتمع الدولي ودول أوروبا أمام مسؤولياتهم، فالتقاط داعش أنفاسه وإعلانه عن نفسه في جنوب البلاد وراءه مؤشرات في سياق الرسائل التي تبعث بها الأطراف الداعمة والممولة لتلك التنظيمات بإمكانية تصاعد الصراع الليبي-الليبي مجددا، وهو ما لا يهدد فحسب ليبيا إنما استقرار المنطقة بأسرها ويعقد العلاقات الدولية على مسارح أخرى.

منافسة القاعدة
Thumbnail
جعلت التطورات الأخيرة في الساحل والصحراء من الجنوب الليبي، تحديدا قرب الحدود مع الجزائر وتشاد، ساحة مستهدفة لإعادة تموضع تنظيم داعش بغرض حسم صراع النفوذ والتمدد في أفريقيا بين القاعدة وداعش واستكمال الأخير لمشروعه المتخيل بهذه المنطقة المترامية، خاصة وأن الجنوب الليبي بمثابة همزة الوصل الجيوسياسية بين ليبيا ودول أفريقيا جنوب الصحراء، حيث يلتقي جغرافيا مع حدود أربع دول، وهي تشاد والسودان والنيجر والجزائر.

يعني تكريس داعش حضوره في الجنوب الليبي إسهاما مهما في إخراج “دولة داعش” بالصحراء الكبرى إلى النور، بالنظر إلى ما يمكن أن تقدمه هذه الساحة فائقة الأهمية من الناحية الاستراتيجية من خدمات تمركز وتدريب ودعم لوجستي لفصائل التنظيم التي شرعت في بناء قوتها تدريجيا في كل من تشاد والنيجر والسودان.

يُعد الجنوب الليبي المنطقة المناسبة للكثير من التنظيمات الإرهابية والمرتزقة الأجانب، حيث يسمح الموقع الجغرافي بتأمين مناطق اختباء وتدبير خطط انتشار وعبور من خلال الحدود المشتركة مع كل من تشاد والجزائر والنيجر، فضلا عن كونها المنطقة الأكثر مثالية بالنسبة للمرتزقة والتكفيريين لنقل مسلحيهم إلى خارج وداخل الأراضي الليبية.

ويطمح داعش في استثمار استيلاء فرعه في غرب أفريقيا على أراضي بوكو حرام بالنظر إلى حاجة تنظيم الدولة الماسة للساحة الليبية بغرض محاصرة نفوذ “تحالف نصرة الإسلام والمسلمين” الموالي للقاعدة بدءا من النقاط الساخنة بالجنوب الليبي عبر تشاد ومالي وصولا إلى مناطق تمركز داعش بشمال نيجيريا.

الموقع الجغرافي للجنوب الليبي يسمح بتسلل عناصر داعش وانتشارهم داخل البلاد عبر الحدود المشتركة مع تشاد

يخشى قادة داعش أن تصب المتغيرات على الساحة الأفريقية خاصة ما يجري في تشاد ومالي في صالح منافسه القاعدي تحالف نصرة الإسلام والمسلمين، خاصة فرعه تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي الذي لا يزال قويا ومتماسكا، ويراهن على نشاطاته وحضوره القوي بالنيجر ومالي والجزائر على وصل هذا النفوذ ومده إلى داخل ليبيا.

قد تدفع الاضطرابات في تشاد لإصدار المجلس العسكري الانتقالي قرارا بسحب قواته من مالي، ما يقلل من فعالية مناهضة جماعة نصرة الإسلام والمسلمين المنتشرة في وسط وشمال مالي خاصة أن جنود مينوسما التشاديين العاملين في إطار قوات حفظ السلام الدولية مشهود لهم بالكفاءة في مواجهة مقاتلي هذه الجماعة الموالية للقاعدة.

من المرجح أن ينشط مسلحو حركة نصرة الإسلام والمسلمين لانتهاز فرص الأوضاع السياسية المضطربة في تشاد ومالي لإضعاف البعثة الأممية والنيل من الجنود التشاديين بغرض هز استقرار مالي والانطلاق منها للإمعان في عملياتهم العنيفة داخل عمق تشاد والتي حددها زعيم جماعة نصرة الإسلام والمسلمين إياد أغ غالي كهدف رئيسي منذ العام 2017على ضوء العلاقات الوثيقة بين تشاد وفرنسا.

استباق داعش لإعلان وجوده بقوة بالجنوب الليبي معناه التقدم بخطوة عقب ما أحرزه التنظيم بمراكزه بغرب أفريقيا لحرمان القاعدة من الاستفادة من الأوضاع المضطربة بدول الساحل والصحراء.

إذا كان القاعدة تحيّن الفرصة لتحقيق أهدافه الكبرى عبر التوسع بدول غرب أفريقيا الساحلية وبدأ فعليا في استخدام بوركينافاسو ومالي كمنصات انطلاق لهذا الغرض، فداعش تحرك فوريا لمحاصرة تلك الطموحات بما يشبه الكماشة بدءا من تمركزاته بجنوب ليبيا.

تقابل التنافس بين القادة وداعش على الحضور وإثبات الوجود في ليبيا والمراكز المهمة في تشاد ومالي والنيجر والاستحواذ على الحيز الاستراتيجي الذي يمكنهما من تنفيذ عمليات كبرى بمنطقة الساحل الأفريقي، ظروف غير مواتية داخل ليبيا ربما تعوق الجيش الليبي عن أداء مهامه بالشكل المطلوب.

يخدم التنافس الإقليمي والدولي مصالح وخطط توسع تلك الجماعات التكفيرية المسلحة، خاصة مع انطلاق تركيا من ليبيا للتنافس مع روسيا وللضغط من على الوجود الفرنسي المناهض للجماعات الإرهابية في بعض الدول الأفريقية مثل تشاد ومالي والنيجر وتصميم تركيا على تحويل دول الساحل إلى أفغانستان فرنسا.

يظل جنوب ليبيا بشقيه الشرقي والغربي رغم مجهودات الجيش في تأمينه ومكافحة نشاطات التهريب والجريمة المنظمة والإرهاب في ربوعه، أرضا خصبة جاذبة للتنظيمات المتطرفة لمساحته الشاسعة وقربه من مناطق حدودية، تتيح لها الاتصال بالجماعات القريبة منها بدول الجوار.

يمكن أن يتأثر الجنوب الليبي بالأحداث الجارية في تشاد خاصة بعد مقتل الجنرال إدريس ديبي الرئيس التشادي السابق الذي كان حليفا قويا في مكافحة الإرهاب بالمنطقة، خاصة مع إعطاء تشاد التي كانت المورد الرئيسي للمقاتلين الأكفاء لمجموعة دول الساحل الخمس الأولوية لملفات أخرى داخلية بخلاف جهودها ضد فصائل داعش.

من شأن هذه المحفزات أن تمنح داعش في الجنوب الليبي الكثير من الثقة خاصة بعد تأكيد مقتل زعيم بوكو حرام أبوبكر شيكاو أثناء مواجهة ومطاردة مع مقاتلي داعش، ما يعني هيمنة الأخير على مساحات واسعة من غرب أفريقيا ورجحان كفة داعش في ميزان القوى بمنطقة الساحل الأفريقي.

عمليات الجيش الليبي كشفت عن حضور ثلاثة تنظيمات إرهابية رئيسية تنشط بالمنطقة تسعى لتنظيم صفوفها وامتلاك قاعدة للتمركز جنوبا لشن عمليات بالداخل الليبي

وشجع هذا التطور خلايا داعش في جنوب ليبيا للبدء في تنفيذ عمليات هدفها استقطاب عناصر تكفيرية من دول عربية وأفريقية بالإشارة إلى أنها منطقة آمنة، تمهيدا لإعلانها قاعدة جديدة للعمليات كخطوة على طريق إقامة ولاية فزان وهو طموح داعش في هذه المنطقة تعويضا عن هزيمته في سرت.

يؤدي تمركز داعش بقوة بجنوب ليبيا مع افتراض سير مخططه بطول منطقة الساحل والصحراء وغرب أفريقيا وفق ما يأمله ما يعني تمتع فرع ليبيا بإسناد إقليمي نوعي، إلى امتلاك التنظيم خلال فترة زمنية قصيرة بنية اقتصادية قوية من جراء عوائد عمليات التهريب وابتزاز المهاجرين وطلب الفدى بعد الخطف واحتجاز المدنيين عند نقاط التفتيش غير القانونية، ويتيح له هذا الحضور المفترض مستقبلا استهداف الحقول النفطية لاسيما حقلي الشرارة والفيل الواقعين في قلب الصحراء.

ويجابه داعش في الجنوب الليبي العديد من التحديات التي قد تقلل من فرص تحقق ما يطمح إليه، وعلى الرغم من أن التضاريس وامتدادها الجغرافي قد ساعدت التنظيم في بداياته على التشكل، إلا أن المساحات المفتوحة من الممكن أن تجعله هدفا سهلا لقوات الجيش في حال تنفيذها لعمليات عسكرية متطورة ومكثفة بهدف القضاء عليه.

على الرغم من الخلافات والتناحر السياسي فإن بروز خطر داعش قد يخلق رؤية أمنية موحدة بين الفرقاء الليبيين تمكن الجيش من مواصلة عملياته العسكرية ضد التنظيم في الجنوب، فضلا عن كسب ولاء زعماء القبائل المؤثرين ما يضعف مقدرته على تنفيذ مخططه في المنطقة.

العرب