النفوذ الإيراني في العراق وآلية مواجهته

النفوذ الإيراني في العراق وآلية مواجهته

IRAn-In-iraq

شكّل الاحتلال الأمريكي والإطاحة بالرئيس العراقي الأسبق صدام حسين في 9نيسان/إبريل عام 2003م، فرصة تاريخية لإيران لتوسيع نفوذها في العراق، وتحويله إلى حديقةٍ أمامية لها تمارس نفوذها وتأثيرها على كل مفاصل النظام السياسي العراقي في مرحلة ما بعد صدام حسين بشقيه الحكومي وغير الحكومي، حيث عملت إيران على ترتيب الأوضاع السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية خدمةً لأمنها القومي، ومرتكزاً لتعزيز نفوذها الإقليمي، إذ أضحى العراق منطقة محرمة على الدول العربية، والسؤال كيف يمكن للدول العربية والإقليمية مواجهة إيران في العراق؟ الإجابة على هذا التساؤل تتطلب تشخيص مرتكزات القوة وآليات التنفيذ الإيرانية في العراق، ونتائجها، وما يجب القيام به لمواجهة هذا النفوذ في العراق.

ارتكزت استراتيجية النفوذ الإيرانية في العراق على عدة مرتكزات، ولعل أهمهما يكمن في الآتي: أولاً، عملت على توحيد الأحزاب الشيعية في العراق لكي تتمكن هذه الأحزاب من ترجمة أهميتها الديموغرافية إلى نفوذ سياسي، وبالتالي تعزيز السيادة الشيعية في بغداد. ثانياً: شجعت طهران أقرب حلفائها، أي فيلق «فيلق بدر» و «المجلس الأعلى الإسلامي في العراق» و «حزب الدعوة الإسلامية» والتيار الصدري، على المشاركة في الحياة السياسية والمساعدة في تشكيل المؤسسات الناشئة في العراق. ثالثاً: دعمت طهران مجموعة من الأحزاب والحركات المختلفة لتوسيع خياراتها وضمان تقدم مصالحها، بغض النظر عن الطرف العراقي الذي يصل إلى القمة.رابعاً: حولت الأراضي العراقية إلى ساحة لتصفية الحسابات من جانب الحرس الثوري الإيراني الذي اندفع بكل قوته نحو أراضي العراق. حيث قام “فيلق القدس” التابع له بتسليح وتدريب وتمويل المليشيات كفيلق بدر وجيش المهدي وكتائب حزب الله وعصائب أهل الحق التي لعبت دوراً بارزاً في تأسيس للطائفية والمذهبية وتقسيم الشعب العراقي.

أما فيما يتعلق بآليات تنفيذ استراتيجة النفوذ الإيرانية في العراق تتمحور على النحو الآتي:أولا، مارست إيران نفوذها في العراق من خلال سفارتها في العراق وعبر قنصلياتها في البصرة وكربلاء وأربيل والسليمانية، فالعراق في مرحلة الاحتلال الأمريكي إدرج في إطار الاستراتيجة الأمنية لإيران والدليل على ذلك أن سفيريها بعد ذلك التاريخ حسن كاظمي قمي وحسن دانائي فر، كانا قد خدما في فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، وهذا يعكس دور الأجهزة الأمنية الإيرانية في صياغة السياسة في العراق وتنفيذها. فالسفارة الإيرانية في بغداد هي من تدير العراق. ثانيا، تقديم الدعم للأشخاص والكتل السياسية في الانتخابات العراقية سواء كانت انتخابات نيابية أو انتخابات مجالس المحافظات. ولعل الانتخابات النيابية لعام 2010 مثال ساطع على ذلك، عندما ابعدت السيد إياد علاوي عن رئاسة الوزراء وإبقائها بيد نوري المالكي، فمن خلال مدة حكم المالكي”2006م-2014م” عمل صانع السياسة الإيرانية، على استعادة دور حامي رئيس الحكومة، الذي تمكن المالكي من لعبه، واستطاع من خلاله، توفير هامش أوسع من الحركة، في الداخل العراقي، وتحويل الدولة العراقية، إلى خط دفاع أول، عن السياسة الإيرانية في العالم العربي، التي أدت في نهاية سياساته الطائفية إلى سيطرة تنظيم داعش على المحافظات العراقية السنية في حزيران/يونيو من العام الماضي.

ثالثا: زرع علماء الدين العراقيين الذين تلقوا علومهم في مدينة “قم” الإيرانية في حوزة النجف العراقية، إذ أن هؤلاء العلماء مارسوا دوراً سياسياً من خلال الترويج لفكرة ولاية الفقيه الإيرانية في أوساط المجتمع العراقي لسيطرة عليهومن ثم السيطرة على شيعة العالم الإسلامي. رابعا: أسست إيران عشية العدوان الأمريكي على العراق في العام2003م، “قناة العالم” وبثت الأخبار والبرامج الترفيهية باللغة العربية للسيطرة على عقول وقلوب العراقيين، وقد عكست هذه القناة سياسة إيران الاعلامية وما ترغب ترويجه للعرب بشكل عام والعراقيين بشكل خاص.

وبناء على ما تقدم، وفرت مرتكزات وآليات استراتيجية النفوذ الإيرانية في العراق لإيران العديد من المزايا الاستراتيجية أهمها: أصبح العراق حديقة إيران الأمامية، فعلى الجانب الإقتصادي أصبح العراق أكبر شريك تجاري لإيران، إذ بلغت حجم التجارة بين الدولتين في نهاية عام 2014م، ما يقارب 12مليار دولار أمريكي. اذ ساهمت تلك التجارة بتخفيف حدة العقوبات الدولية التي فرضت على ايران جراء تعنتها ببرنامجها النووي، حيث فتح العراق أسواقه على مصرعيها للصادرات الايرانية تلك الصادرات التي الحقت الضرر بالقطاعات الزراعية والصناعية الخفيفة في العراق.أضف إلى ذلك احتلت العملة الإيرانية “التومان” المرتبة الثالثة في سوق تبادل العملات العراقية، خاصة في بغداد ومدن جنوب العراق، بعد الدينار العراقي والدولار الأميركي، لتزيح الدينار الأردني، الذي كان إلى وقت قريب المفضل في السوق العراقية بعد العملة الأميركية. وتضافرت عدة أسباب سياسية واقتصادية لزحف التومان الإيراني وإغراقه للتعاملات التجارية في أغلب مدن الجنوب، أبرزها قطع الطريق البري مع الأردن، وتوقف التجارة بين البلدين. وقد وصلت سطوة الاقتصاد الايراني في العراق حتى على مستوى صرف العملة الايرانية إذ إنها تصرف بعيداً عن قيمتها العالمية في الأسواق العراقية.

في حين النفوذ الاجتماعي يتجسد في جانب “اللغة” التي باتت تفرض وجودها على التعاملات التجارية في محافظات العراق الجنوبية، إذ إن اللغة الفارسية يتحدث بها نسبة كبيرة من المجتمع العراقي في تلك المحافظات، وتعتبر ثاني لغة في التعاملات التجارية والاقتصادية بالنسبة للباعة أو حتى أصحاب المركبات
أما النفوذ السياسي يمكن أن نلمس مؤشراته بوضوح في أمرين أولاهما تصريح الذي أدلى به علي يونسي مستشار الرئيس الإيراني حسن روحاني بأن العراق وعاصمته بغداد كانت ولاتزال عاصمة الامبراطورية الفارسية وهي جزء من حضارتنا وثقافتنا على حد قوله، ثانيهما عندما اندلعت الانتفاضة السورية في منتصف آذار/مارس عام2011م، فالهيئة الحاكمة في سوريا والممثلة برئيسها بشار الأسد كانت تتهم وباستمرار من قبل رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي، بأنها ترعى وتمول وترسل الإرهابيين إلى العراق، تحولت بعد الانتفاضة السورية وبأمر من إيران إلى أكبر داعم له ماديا وعسكريا ومليشاوياً.

يتطلب مواجهة النفوذ الإيراني في العراق تضافر عدة عوامل من أجل نجاحه، ويمكن اجمالهم بالآتي: أولاً: بناء تحالف إقليمي: يضم كل من المملكة العربية السعودية ودولة الامارات العربية المتحدة ومصر وتركيا، لأنه من الصعوبة بمكان لإحدى هذه الدول مواجهة إيران بمفردها.فمن الناحية العملية يواجه هذا البناء تحديات في تحقيقه نظرا؛ للخلافات العميقة ما بين مصر والامارات العربية المتحدة من جانب وتركيا من جانب آخر، وهنا تضطلع المملكة العربية السعودية بمهمة هذا الحلف لخبرتها التاريخية في هذا المجال، فالرياض التي عرفت لعقود كيف تهندس العلاقات بين مصر وسورية على رغم تصادم سياساتهما في كثير من القضايا، يمكنها أن تكرر التجربة بين الرئبس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس المصري عبدالفتاح السيسي. ظل القاء الثلاثي بين المملكة العربية السعودية ومصر وسورية يعمل لعقود على رغم التعارض بين الدولتين الأخيرتين في الموقف في قضيتي فلسطين ولبنان، منذ “جبهة الصمود والتصدي”، إلى حروب اللبنانيين. ومن الحرب العراقية-الإيرانية إلى العلاقات مع الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين والعلاقات مع تركيا قبل صعود حزب العدالة والتنمية. ولائحة الخلافات كانت طويلة، لكنها لم تفسد ود هذا اللقاء. والقيادة الجديدة في المملكة العربية السعودية بقيادة الملك سلمان بن عبدالعزيز بدت على مستوى التحدي في ردها على سياسات إيران.فقد راهنت الأخيرة ربما على انشغال هذه القيادة على ترتيب الوضع الداخلي بعد رحيل الملك عبدالله، وسعت إلى إرباكها في اليمن ومياه الخليج العربي. يمكن الرياض أن تجمع بين القطبين السنيين الكبيرين في منطقة الشرق الأوسط على رغم ما بينهما من فروقات. إذا كان هدف الدول الثلاث الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية في أية تغييرات بعد التوقيع على الاتفاق النووي بين إيران و”مجموعة خمسة زائد واحد”، وما قد تسفر عنه الحرب على الإرهاب التي لا يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية راغبة في الرمي بثقلها لتغيير المعادلة على الأرض.

وتفيد الممارسات التاريخية في حقل العلاقات الدولية بأنه بالامكان قيام هذا النوع من التحالف، لاسيما إذا ظهر خطر يهدد دول الإقليم. كخطر تقدم النفوذ الإيراني في المشرق العربي والتباهي بالسيطرة على أربع عواصم عربية واحدى هذه العواصم كانت ولا تزال تمثل عاصمة الامبراطورية الفارسية وهي امتداد لثقافتها وحضارتها. ومن الأمثلة التاريخية على هكذا نوع من الأحلاف فعلى سبيل المثال وليس الحصر
1-التحالف البريطاني الروسي في نهاية القرن التاسع عشر ضد ألمانيا: كانت بريطانيا وروسيا تتنافسان وتتصارعان من أجل المزيد من السيطرة على إيران في اطار ما اصطلح عليه في ذلك الوقت باللعبة الكبرى، ولكن هذا الصراع والتنافس حيّد جانباً وتعاونا في مواجهة حينما ألمانيا التي ظهرت كقوة بازغة بعد وحدتها في العام 1870
2- التحالف الذي جمع الغرب الرأسمالي مع الشرق الشيوعي في مواجهة ألمانيا الهتلرية: إذ أقلقتهما انتصارات هتلر في أثناء الحرب العالمية الثانية، الأمر الذي دفعهما للتحالف لمواجهته، والانتصار عليه، على الرغم من خلافاتهما السياسية والاقتصادية والفكرية، إذ أطلق خبراء العلاقات الدولية على هذا النوع من التحالف “بالتحالف الغريب” نظراً لصعوبة تحقيقه على المستوى النظري، لكن الواقعية السياسية في أثناء الحرب العالمية الثانية فرضت على الدول ذو الميول الاشتراكية والرأسمالية تحييد خلافاتهما والتعاون معا، وهذا ما حدث.

ثانيا- استعادة الدور العربي الرسمي في العراق، وهذا يتطلب تكثيف الدعم الدبلوماسي من خلال إعادة فتح سفارات الدول العربية لتحقيق توازن الوجود مع إيران
ثالثا- دعم مشروع قانون الحرس الوطني: وتعد الولايات المتحدة الأمريكية من الدول الداعمة لإقراره إذ دخلت سفارتها في بغداد على الخط في نقاشات قانون الحرس الوطني. الذي شهد صراعا كبيرا داخل أروقة البرلمان العراقي بين الكتل السنية التي تدفع إلى إقراره كوسيلة لتحقيق التوازن مع قوات الحشد الشعبي الطائفية، وقوى شيعية تربطها علاقات مع إيران تحاول عرقلته. ولعل مرد إيران وكتلها وميليشياتها من إقرار مشروع القانونبأنه سيفقدها السيطرة على المحافظات العراقية ذات الطابع السني كالموصل والأنبار وصلاح الدين وديالى، كون كل محافظة ستشكل حرسها من أبناء المحافظة فقط. وبالتالي سيقطع الطريق على ايران ويحرمها من اتصالها البري الوحيد بسوريا وشرق البحر المتوسط.

رابعا-إنشاء فضائية موجهة للشعب العراقي تهدف إلى تنوير الرأي العام العراقي بشكل خاص والعربي بشكل العام بالدور السلبي الذي تلعبه ايران بالعراق من الجانب السياسي والأمني والاقتصادي والتركيز على قضايا الفقر والجوع والفساد الذي تدعمه إيران، وتعمل على التقريب بين مكونات المجتمع العراقي وخاصة بين السنة والشيعة إذ أوصلت إيران الاستقطاب الطائفي بينهما لدرجة غير مسبوقة وأحداث تفجير المرقدين في العام2006م، يعتبر أحد الأدلة على سياسة ايران الطائفية القائمة على تفجير الوضع الداخلي العراقي.

خامسا- تقديم الدعم المالي والسياسي لحكومة حيدر العبادي، ويتجسد الدعم المالي بتقديم القروض أو المنح لاسيما بعد تراجع أسعار النفط مما فاقم الأزمة المالية في العراق، وأدى إلى تأخير رواتب قوات الأمن والموظفين والمدنيين، لذا يمكن أن تشكل دول الخليج العربي وفي مقدمتهم المملكة العربية السعودية طوق نجاة لبغداد. أما الدعم السياسي فيتلخص بتأييد إصلاحات العبادي السياسية والاقتصادية والإدارية خاصة إذا علمنا بأن الميليشيات المدعومة من إيران، ككتائب حزب الله وفيلق بدر وعصائب أهل الحق، لديها كلها مصلحة في عرقلة تلك الإصلاحات.

مما تقدم نخلص بالقول إن انهاء النفوذ الإيراني في العراق يعد بداية النهاية للمشروع الإيراني التوسعي في العالم العربي، فمن العراق تبدأ وتنتهي المواجهة.

وحدة الدراسات العراقية