أبيض وأسود عن فلسطين وإسرائيل

أبيض وأسود عن فلسطين وإسرائيل

حتى أولئك منا الذين لم يسمحوا لنفورهم من الرئيس السابق دونالد ترامب بأن يجعلهم ينظرون إلى الرئيس جوزيف بايدن من خلال نظارات وردية، تفاجأوا بسرور بسلوكه في ما يتعلق بالأمم المتحدة، ومنظمة الصحة العالمية، و”الأونروا” -وحتى في القضايا المحلية. ومع ذلك، من المؤسف أننا لم نتفاجأ كثيرًا بمراوغته الفاترة تجاه الهجوم الإسرائيلي الذي شُن مؤخراً على غزة، ولم نندهش كثيراً حتى من رد فعله الصامت على الاعتداء على المسجد الأقصى وحي الشيخ جراح. إن فكرة “كل السياسة محلية” هي بديهية في السياسة الأميركية. ولا ينطبق ذلك على شيء أكثر مما ينطبق على سياسة الشرق الأوسط، حيث يوازن تأثير جماعات الضغط والمانحين الواقع على الأرض. في الماضي، لو كان اللوبي المؤيد لإسرائيل يعلن أن التفاح يحلق مرتفعاً من الشجرة بدل أن يسقط، لكان الكونغرس سيوافق على ذلك، لكن ذلك لم يعد مضمونًا الآن.
في الأسابيع القليلة الماضية، أصبحت العديد من الخيوط الشرق أوسطية متشابكة بطريقة يتعذر فصمها. ولم يكن تقرير منظمة “هيومن رايتس ووتش” عن الفصل العنصري الإسرائيلي ثوريًا في مفهومه. لكنه أسهم، في السياق الحالي، في إحداث ثورة في الخطاب الليبرالي الأميركي، الذي تلقى المساعدة إلى حد كبير من عمل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الجاد لإضفاء الحقيقة على هذا الادعاء في الأسابيع التي تلت ذلك. بعد كل شيء، لا شيء يتحدث عن الفصل العنصري بطريقة أبلغ من صور البلطجية من بروكلين وهم يقومون بغزوات منزلية ضد الجدات الفلسطينيات في حي الشيخ جراح.
على الرغم من أنه كان تحويلياً بلا شك، فإن تصنيف “الفصل العنصري” كان، بعد كل شيء، تنازلًا متأخرًا كثيرًا عن الواقع. قبل سنوات عديدة، كنت قد ناقشت في “تقرير واشنطن”، ميل منظمة “هيومن رايتس ووتش” إلى تخفيف ضرباتها عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، وهو ما أرجعتُه إلى الحساسية تجاه قاعدة مانحيها. وكانت لدى “منظمة العفو الدولية” نقاط ضعف مماثلة -حيث رفضت وصف مردخاي فعنونو، المُبلغ عن المخالفات النووية الإسرائيلية، بأنه سجين رأي لسنوات عديدة طويلة من حبسه الانفرادي.
جاء تقرير “هيومن رايتس ووتش” في أعقاب وثائق مماثلة من الأمم المتحدة خنقها الضغوط الأميركية، وليس أقلها واحدة أعدتها اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا)، والتي كان قمع الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، لها في العام 2017 نذيرًا بخضوعه اللاحق للولايات المتحدة وإسرائيل. وقد استقالت رئيسة (الإسكوا)، ريما خلف، احتجاجاً على ذلك القمع.
لكن الشيء الذي كان غائباً من النقاش هو أهمية ودقة قرار الأمم المتحدة الأصلي الذي صدر في العام 1975 بأن “الصهيونية هي شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري”، الذي ذكّر بأن الجمعية العامة كانت قد أدانت حتى قبل ذلك، في كانون الأول (ديسمبر) 1973، من بين أمور أخرى، “التحالف غير المقدس بين عنصرية جنوب إفريقيا والصهيونية”. وفي ذلك الحين، تم إسقاط الإشارة إلى العنصرية بسبب الضغط الدبلوماسي الهائل الذي مارسته إدارة جورج إتش. بوش (الأب)، الذي بينما كان عائماً دولياً بسبب هزيمة العراق في حرب الخليج الأولى، فإنه كان متوجهاً إلى هزيمة محلية على يد اللوبي المؤيد لإسرائيل بسبب رفضه منح ضمانات القروض الأميركية لبناء مستوطنات لليهود السوفيات المتجهين إلى إسرائيل. وكان ذلك فشلاً. فقد تمكن من إلغاء القرار، لكن (إيباك) وشركاءها لم يغفروا له -أو للسيناتور بوب دول- دفاعهما عن واشنطن ضد جحافل جماعات الضغط الصهيونية التي هبطت على مبنى الكابيتول.
بإعادة القضية إلى الوطن، كان هناك اتفاق في ذلك الوقت على أن تبقى “الكتلة السوداء” في الكونغرس صامتة بشأن هذا التحالف مقابل دعم اللوبي في القضايا المحلية. وكان من شأن زيارة الثائر الجنوب أفريقي المناهض للفصل العنصري، نيلسون مانديلا، إلى الولايات المتحدة والأمم المتحدة بعد إطلاق سراحه في العام 1990، أن تضع الثعلب حقًا في قلب الدجاج. لكن الدجاج بقي صامتاً. كان هذا الرجل، الذي أصبح موضوعاً للتملق والثناء العالميين، يشير مرارًا وتكرارًا وبشكل استفزازي إلى دعمه للفلسطينيين. ولو كان مجرد أندرو يونغ، أو جيسي جاكسون، هو الذي يقول نفس تلك الأشياء، لكان اللوبي ووسائل الإعلام قد شنوا عليه حملة إعدام سياسي. لكنهم أدركوا بذكاء أن اغتيال الشخصية المعتاد لن يؤثر على مكانة مانديلا، وإذا كان ثمة أي شيء، فسيؤدي ذلك إلى المزيد من نشر آرائه فحسب.
من المحير للعقل حقاً تصور الخريطة الذهنية لبايدن وفريقه، بما في ذلك سفيره الجديد الذي يبدو ملتزماً بالضمير في الأمم المتحدة أثناء تجوالهم في حقل ألغام علاقة إسرائيل والولايات المتحدة الحالية مع وجود حركة “حياة السود تهُم” كستارة خلفية. لدى قلة منهم، إذا كان ثمة أحد، أي أوهام حول حسن نية نتنياهو أو نزاهته الأخلاقية. إنهم يعلمون جميعًا أنه مخادع لا أخلاقي، وانتقامي، وحثالة كاذب. لكنهم كانوا سيصوتون، في وقت من الأوقات، من أجل حمايته واثقين من أن الناس الوحيدين الذين يلاحظون خيانتهم لمبادئهم المعلنة سوف يكونون إسرائيل ومناصريها.
ومع ذلك، حتى وقت قريب بينما واجه الرئيس باراك أوباما محور ترامب-بيبي، كانت العصابة المؤيدة لإسرائيل حول بايدن تعلم أنها تقف على أرض صلبة في السياسة الداخلية. سوف يعطي “التجمع الأسود” رخصة لأوباما، بينما التجمع المؤيد لإسرائيل من بين بقية الديمقراطيين سوف “يقف إلى جانب إسرائيل” بشكل موثوق، وإن كان ذلك يعني بضعَ رشات من البخور على مذبح السلام وحقوق الإنسان.
على الرغم من الازدراء الذي يهيله قادتها على الأمم المتحدة، فإن إسرائيل تعلم أن الطريق إلى لاهاي تمهده قرارات الأمم المتحدة، وليس أقلها قرارات مجلس الأمن، التي ألقوا محاضرات عنها عندما تكون إيران أو العراق هي الإطار. كان بإمكان بايدن، بل كان ينبغي عليه دعم اجتماع مجلس الأمن والقرار الذي كان يطرحه الأعضاء الآخرون. ويمكننا أن نكون على يقين من أن التهديد الضمني بفعل ذلك هو الذي أدى إلى قبول نتنياهو المتأخر بوقف إطلاق النار في غزة.
وهكذا، يبدو أن وقف إطلاق النار في غزة انطوى على بعض المشي الجدّي على حبل مشدود بالنسبة لبايدن. ويحتمل كثيراً أن يكون قد ألمح إلى التهديد بقطع الخط الأزرق السميك وإدانة إسرائيل، ولكن مع حفظ ماء الوجه بعدم ذكر ذلك علنًا. وكتحذير لنتنياهو وإيماءة للفلسطينيين، أعلنت وزارة الخارجية عن إعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس الشرقية.
ولكن، ضع في اعتبارك ما تغير في السياسة الأميركية. تشير موجة المد التي أطلقهتا حركة “حياة السود تهُم” إلى أن العديد من مكونات الائتلاف الديمقراطي لبايدن يرون أوجه تشابه مباشرة غير مريحة بين الشرطة الإسرائيلية المدرعة والجنود الذين ينقضون على المتظاهرين ويقتحمون المساجد وبين أنصار ترامب المنفيين ذاتياً، الذين يتصرفون مثل حراس “كو كلوكس كلان” في حي الشيخ جراح. وفي موازاة ذلك، تعني النجاحات التشريعية لليسار أن هذا لم يعد الحزب الديمقراطي التابع لـ”آيباك”.
من خلال إدانته لإسرائيل، “يخاطر” بايدن بتنفير الناس الذين يعتقدون أن ترامب ما يزال الرئيس، الذين شوهدوا آخر مرة وهم يقتحمون مبنى الكابيتول هيل. وكان السفير الإسرائيلي السابق لدى الأمم المتحدة، داني دانون، واضحًا تمامًا بهذا الخصوص: يجب أن تركز إسرائيل على هؤلاء الإنجيليين وهي تدرك أن استثمار “آيباك” وأنصار إسرائيل المتشددين في الحزب الجمهوري اليميني الأكثر إثارة للاشمئزاز على الإطلاق، قد أدى إلى نفور الجناح الليبرالي للديمقراطيين، بما في ذلك يهوده أنفسهم.
يعرف بايدن تلك الجماعات التي كادت أن تفوز في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، التي كان دعمها ضروريًا لانتصاره. ومع سجله في دعم “حق إسرائيل في الدفاع عن النفس”، لم يكن يريد أن يرضخ لحركة “حياة السود تهُم” والمؤيدين للفلسطينيين، لكنه لم يكن في وضع يسمح له بعزلهم أيضاً.
إنها فكرة تجمّد الأطراف، لكنَّ من الممكن أن تكون تقنية الضغط بالركبة على الرقبة، التي نشرها المدربون الإسرائيليون لقوات الشرطة الأميركية، هي التي أطلقت دورة الأحداث التي بدأت من مقتل جورج فلويد، ذهاباً إلى تصاعد الاحتجاجات، وإلى وقف نتياهو المتردد لإطلاق النار في حرب غزة الأخيرة.

الغد