استغلت روسيا الانسحاب الاستراتيجي المرتقب للولايات المتحدة من المنطقة وقدمت نفسها حليفا بديلا يمكن الوثوق به. وتجسد التناقض الصارخ في منطق الحضور الروسي عندما قدمت دول صراع سد النهضة، إثيوبيا والسودان ومصر، الحليف الروسي على أنه الضامن لحقوقها في حصة النيل.
وفي الوقت الذي ذهبت فيه وزيرة خارجية السودان مريم المهدي إلى موسكو، بحثا عن دعم روسي في موضوع سد النهضة ومقايضة ذلك بورقة القاعدة العسكرية الروسية التي من المزمع أن تقام على ساحل البحر الأحمر، أعلنت إثيوبيا عن توقيع اتفاقية تعاون عسكري مع روسيا لرفع كفاءة الجيش الإثيوبي وتعزيز التعاون اللوجستي والتكنولوجي.
ويعتقد مراقبون أن روسيا تستفيد من حاجة الدول الثلاث إلى دعم دولي قوي في موضوع سد النهضة من أجل الحصول على مكاسب استراتيجية دون أن يصدر منها موقف واضح من الموضوع قد يفهم منه أنها منحازة إلى هذه الجهة أو تلك.
مارتا لويجي: الموقف الروسي مؤيد لإثيوبيا في مختلف القضايا والساحات الدولية
وقالت وزيرة الدولة بوزارة الدفاع الإثيوبية مارتا لويجي إن التعاون المشترك مع روسيا تعزز بعد المناقشات التي أجراها رئيس الوزراء آبي أحمد مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وإن الحكومة الروسية قدمت دعمًا لأديس أبابا خلال عمليات الجيش الإثيوبي في إقليم تيغراي.
وأضافت الوزيرة أن الموقف الروسي كان مؤيدا لإثيوبيا في مختلف القضايا والساحات الدولية، ومن بينها الانتخابات العامة الإثيوبية وسد النهضة.
ولم يخف وزير الخارجية المصري سامح شكري خلال مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره الروسي سيرجي لافروف رغبة مصر في أن تساعد روسيا على وقف الإجراءات الأحادية من جانب إثيوبيا في ملف سد النهضة.
وقال شكري إن “روسيا أظهرت استعدادا لاستمرار التنسيق معنا في إطار التوصل إلى اتفاق بشأن سد النهضة يحقق مصالح الدول الثلاث”.
وتحاول الخرطوم من جانبها أن تطرق الباب الروسي من أجل معرفة قدرات موسكو في الضغط على أديس أبابا.
وقالت مصادر دبلوماسية سودانية لـ”العرب” إن “الخرطوم تسعى لوضع ملف سد النهضة ضمن مفاوضات عبر تحريك الجمود في موضوع القاعدة البحرية الروسية على ساحل البحر الأحمر، وهو اتفاق تم التوصل إليه في عهد الرئيس السابق عمر البشير قبل الإطاحة به”.
ويفسح رهان الدول الثلاث على وجود دور روسي في الأزمة المجال أمام موسكو لتعزز حضورها الذي تراجع كثيرا في منطقة القرن الأفريقي منذ تفكك الاتحاد السوفييتي، وتحرص إدارة الرئيس فلاديمير بوتين على استعادة هذا الحضور في إثيوبيا والصومال، ما يجعلها تبدو متمهلة. لكن ذلك لن يرضي الولايات المتحدة التي تراهن مصر والسودان على صداقتها في ملفات أخرى غير سد النهضة.
وأكد أستاذ العلاقات الدولية في المجلس الدبلوماسي التابع للخارجية السودانية عبدالرحمن أبوخريس أن السودان اضطُرّ إلى التراجع عن الموقف السابق الخاص بالقاعدة الروسية، وأن التغييرات التي حدثت على الساحة السياسية ورغبة الخرطوم في ممارسة أكبر قدر من الضغوط على أديس أبابا في ظل الموقف الأميركي المبهم تدفعان باتجاه تسريع تمرير الاتفاقية.
عبدالرحمن أبوخريس: واشنطن لم تمارس ضغوطا على إثيوبيا، ما يبرر الاتجاه إلى موسكو
وأضاف أبوخريس في تصريح لـ”العرب” أن “الولايات المتحدة لم تمارس ضغوطا قوية على إثيوبيا لإرغامها على وقف ملء السد بشكل أحادي ودعمت الذهاب مرة أخرى إلى البيت الأفريقي دون أن تقدم آليات جديدة للحوار، وأدرك السودان ومصر بعد جلسة مجلس الأمن الخميس الماضي أن حصيلة تحركاتهما الدولية جاءت ضعيفة، ما يتطلب إدخال تعديلات عبر التحرك باتجاه دوائر لها تأثير قوي على إثيوبيا”.
وقال مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا خلال جلسة مفتوحة لمجلس الأمن مساء الخميس “دعونا نعقد جولة من المفاوضات لتسوية الخلافات حول السد برئاسة الاتحاد الأفريقي في نيويورك، لاسيما أن كل الأطراف المعنية اجتمعت هنا”.
وبدا موقف المندوب الروسي في مجلس الأمن الذي ناقش أزمة سد النهضة أخيرا منحازا إلى إثيوبيا، ورافضا أي عمل عسكري ضدها في أزمة السد، وكاشفا عن علاقات وثيقة بين موسكو وأديس أبابا نسجت خيوطها في الفترة الماضية.
وجاءت زيارة المهدي إلى موسكو بعد أيام من عقد اللجنة الفنية العسكرية الروسية – الإثيوبية اجتماعها الحادي عشر بأديس أبابا لتعزيز التعاون العسكري بين البلدين.
وذكر أبوخريس أن انفتاح السودان على روسيا يأتي ضمن محددات السياسة الخارجية التي ترفض الانحياز بشكل تام إلى طرف على حساب آخر وتدحض أي محاولة لحصرها في تكتلات بعينها، ويشي بأن الدولة السودانية تذهب في اتجاه يضمن تحقيق مصالحها دون أن يؤثر ذلك على علاقاتها مع قوى أخرى.
وعلى الرغم من أهمية التحرك السوداني نحو موسكو إلا أنه قد يجد نفسه في مأزق تجاه علاقة الخرطوم بواشنطن التي تدخلت لعرقلة المصادقة على الاتفاق العسكري مع روسيا، وقدمت ما يثبت جديتها في أنها طرف داعم للسودان في المرحلة الانتقالية، حيث سارعت إلى إخراجه من اللائحة الأميركية للدول الراعية للإرهاب.
عصام دكين: السودان لم يتلق دعما عسكريا من واشنطن، ما يدعم التعاون مع موسكو
ويقول متابعون إن الولايات المتحدة متناغمة مع روسيا في مسألة القواعد العسكرية وثمة تفاهمات عديدة بينهما، ما يعني أنه من غير المستبعد أن يتم التوصل إلى صيغة تفاهم تقبل بها جميع الأطراف لعدم حدوث تهديدات أمنية أو سياسية في هذا الشأن، وإن الأمر سيتطلب حنكة دبلوماسية من الخرطوم لإحداث توازن بين مصالح كل من واشنطن وموسكو.
ولدى دوائر سودانية اقتناع بأن بلدهم سيستفيد من التواجد الروسي في البحر الأحمر على المدى القريب إذا نجحت موسكو في الضغط على إثيوبيا، وهو أمر يصعب الجزم بنتائجه فقد يدخل السودان في متاهة اللعب على المحاور المتناقضة التي انتهجها نظام الرئيس السابق عمر البشير وأدخلته في أزمات كثيرة.
ولفت المحلل السياسي السوداني عصام دكين إلى أن الصراع الأميركي – الروسي يشتد حول السودان وأن السلطة الانتقالية وجدت أن الحل المناسب هو عدم إغلاق المنافذ أمام روسيا وتدشين تعاون استراتيجي مشترك في المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية، على أن تكون القاعدة “فلامنغو” على البحر الأحمر مدخلا لتطوير هذه العلاقات.
وأوضح دكين في تصريح لـ”العرب” أن “من مصلحة السودان أن يكون في صف الولايات المتحدة، لكن هناك محددات مرتبطة بطبيعة تسليح الجيش الذي يعتمد بشكل أساسي على الأسلحة الروسية. هذا بالإضافة إلى أن السودان لم يتلق دعما عسكريا من الولايات المتحدة، ما يجعل هناك حاجة إلى التعاون مع موسكو إلى حين تنفيذ الوعود الأميركية التي تسعى لإحداث توازن عسكري في شرق القارة الأفريقية”.
صحيفة العرب