تنامت مخاوف مقاتلي المعارضة السورية المدعومين من قبل الولايات المتحدة الأميركية، في الآونة الأخيرة؛ فبعد أن كانوا يعانون نقصا في السلاح وشحا في الأفراد، بدأ يلوح أمامهم الآن تهديد جديد ربما يعتبر أشد خطرا من السابق على وجودهم ذاته، تُمثّله الضربات الجوية الروسية التي يبدو أنّ واشنطن مازالت تعزف عن التّصدي لها.
وكان موقف الإدارة الأميركية التي فوجئت بسرعة تدخل موسكو المباشر وبقائمة أهداف روسية ضمت مقاتلين دربتهم المخابرات الأميركية، واضحا وجليا، أوّل أمس الخميس، حين أبدت عزوفا عن المخاطرة بحدوث اشتباك في الجو بين خصمي الحرب الباردة السابقين.
ورغم أنّ واشنطن تحملت عناء التأكيد على أنّها لا تزال تعتبر المعارضة “المعتدلة” عنصرا مهما لمستقبل سوريا، وأنها لن تتخلى عنها فإنّ الامتناع عن توفير غطاء جوي لها يمكن أن يلحق مزيدا من الضرر بهذه القوات التي تعيش وضعية متأزمة بالفعل على الأرض.
ولم يتحرك الرئيس الأميركي باراك أوباما عسكريا لدعم المعارضة خلال الحرب الدائرة في سوريا منذ أكثر من أربع سنوات، إلاّ فيما ندر، حيث لطالما أبدى ترددا في التوغل الأميركي المباشر في الصراع.
ويرى مراقبون أنّه حتى وإن رغب، فإنه قد يصطدم بحدود قانونية تفرضها عليه حدود سلطاته كرئيس. وبالتوازي مع ذلك تجد المعارضة السورية صعوبات جمّة في قتال قوات الجيش الموالية لنظام بشار الأسد، إذ تلاحقها الانقسامات الداخلية ويعلو نجم جماعات متشدّدة مثل تنظيم “الدولة الإسلامية” وجبهة النصرة المرتبطة بالقاعدة.
وبالمقابل قصف الطيران الحربي الروسي، في اليوم الثاني من ضرباته التي ينفذها في سوريا بتعلّة مجابهة تنظيم داعش الإرهابي، الخميس، معسكرا يديره مقاتلون مناهضون لنظام الأسد درّبتهم وكالة المخابرات المركزية الأميركية “سي.آي.إيه” حسبما صرّح به قائد تلك المجموعة لوسائل إعلام محلية ودولية. ويأتي هذا التصريح في الوقت الذي تصرّ فيه روسيا على أنّها لا توجّه ضرباتها سوى لاستهداف مقاتلي “الدولة الإسلامية”، عدو واشنطن وموسكو المشترك.
غير أنّ العديد من المسؤولين الأميركيين يرون أنّ هدف موسكو الرئيسي من هذه العمليات العسكرية هو دعم حليفها بشار الأسد الذي شارف نظامه على الانهيار قبل مدّة قصيرة بعد الضربات الموجعة التي وجّهتها له الفصائل المعارضة المقاتلة على الأرض والتي حقّقت تقدّما ميدانيا معتبرا خلال الفترة الماضية ارتعدت له أوصال النظام الذي سارع بالالتجاء إلى روسيا مطالبا إياها بتدخل عسكري يحفظ له بقاءه أو على أقلّ تقدير يضمن له عدم الانهيار بسرعة.
ومع تزايد الدور الروسي وفي ظل محادثات غير حاسمة جرت، منذ يومين، بين الجيشين الأميركي والروسي بشأن السلامة في الجو يبرز إجماع في واشنطن على أنّ الرئيس باراك أوباما ليس لديه الكثير من الخيارات الجيدة لتحويل الدفة لصالحه، خاصّة أنه لا يملك سلطة توسيع نطاق تسليح المعارضة المعتدلة، حيث يتسنى لها الدفاع بصورة أفضل عن نفسها أو إقامة مناطق يحظر الطيران فيها، وهو أمر طالب به عدد من منتقديه في الداخل، غير أنّ المسؤولين الأميركيين يشيرون إلى أنّ مثل هذه الإجراءات لها مخاطرها المتمثلة في تصعيد التدخل الأميركي وهو ما يخشاه أوباما.
بالمقابل يبدو أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يراهن على أنّ أوباما الذي يتملّكه القلق من احتمال انزلاق بلاده إلى حرب جديدة في الشرق الأوسط لن يردّ ردا عنيفا على الأرجح.
وقد قال آرون ديفيد ميلر مستشار شؤون الشرق الأوسط في إدارات ديمقراطية وجمهورية سابقة، في هذا السياق إنّ “بوتين يقرأ إدارة أوباما جيدا، وهو يعلم أنّه لم يرغب قط في أن يتخذ الدور الأميركي في سوريا طابعا عسكريا”.
وممّا يُصعب الأمر على الولايات المتحدة ما قالته مصادر لبنانية من أنّ مئات من القوات الإيرانية وصلت إلى سوريا للانضمام إلى حملة برية كبرى الهدف منها هو دعم بشار الأسد وضرب القوات المعارضة الموجودة على الأرض التي تدعمها وتدربها واشنطن.
وقد أفادت العديد من التقارير المتفرقة بأنّ وكالة المخابرات المركزية الأميركية تدير ما يبدُو ظاهريا أنّه برنامج تدريب سري لفصائل سورية معارضة معتدلة في نظر الدول الغربية التي دعمت ثورة الشعب السوري على نظام بشار الأسد. وهذه الخطّة منفصلة عن برنامج تدريب وتجهيز يجريه الجيش الأميركي بهدف بناء قوة معارضة سورية تقاتل تنظيم الدولة الإسلامية المتشدد.
ويرى مراقبون أنّ ذلك البرنامج قد أخفق إخفاقا تامّا ولم يتمكّن المشرفون عليه من تحقيق أهدافه المنشودة لعدّة أسباب واعتبارات أبرزها تلكّؤ الموقف الأميركي وعدم وضوح الرؤية اللذين ساد سياسة الرئيس باراك أوباما طيلة أربع سنوات من عمر الأزمة السورية، وإحجامه عن القيام بخطوات عملية وناجعة لقلب الكفة لصالح الفصائل المعارضة، مما فتح المجال شاسعا أمام الروس ليتدخلوا دون رادع.
وعلى الرغم من أنّ جوش إيرنست المتحدث باسم البيت الأبيض قد هاجم، خلال مؤتمر صحفي عقد مؤخرا، روسيا بسبب “القصف العشوائي لأهداف المعارضة السورية”، وقال إنّ ذلك يعبّر عن “سوء حسابات خطير”، لكن عندما سأله صحفيون إن كانت الولايات المتحدة ستفعل شيئا ما أو ستقدم على خطوة عملية ما لحماية المعارضة من الضربات الجوية الروسية، قال “أعتقد أن العبء هنا يقع على روسيا”.
ولم يستبعد إيرنست إمكانية أن تواجه روسيا، التي تخضع بالفعل لعقوبات أميركية في ما يتعلق بالأزمة الأوكرانية، عواقب دبلوماسية لتحرّكاتها في سوريا، وإن كان لمّح إلى أن موسكو ستعاني أكثر إن هي “انساقت في صراع طائفي يمتد لسنوات في سوريا”.
ويبدو أنّ فحوى الرسالة القادمة من إدارة أوباما، التي تتحرك جهودها لتدريب وتجهيز المقاتلين المعتدلين بوتيرة بطيئة وعلى نحو يفتقر في الغالب للكفاءة، هي أنّ على تلك المجموعات الدفاع عن نفسها في الوقت الحالي في وجه الضربات الجوية الروسية.
وقال مسؤول أميركي، خيّر عدم ذكر اسمه، إنّ إدارة أوباما تراجع التبعات القانونية لتدخل روسيا المباشر في الصراع السوري. وفي وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) امتنع بيتر كوك أكثر من مرّة عن التحدث عن احتمال الاستغاثة بالولايات المتحدة للدفاع عن المعارضة السورية المعتدلة لدى تعرضها لهجوم روسي، وقال إنّ هذا “افتراض”.
وأثار مسؤولون عسكريون أميركيون كبار المخاوف الأميركية من اختيار روسيا للأهداف في اتصال عبر دائرة تلفزيونية مغلقة مع نظراء روس الخميس المنصرم. وتركزت المكالمة بين الطرفين، والتي وصفها البنتاغون بأنها كانت ودية، على سبل إبقاء الطائرات الأميركية والروسية بمعزل عن بعضها البعض أثناء قيام الجيشين بحملات متوازية ذات أهداف متعارضة. وتريد واشنطن من روسيا أيضا أن توافق على التوقف عن ضرب أهداف المعارضة المعتدلة.
وتساءل السناتور الأميركي الجمهوري جون ماكين، الذي يرأس أكبر لجنة عسكرية بمجلس الشيوخ والمنتقد الدائم لسياسة أوباما الخارجية، عن المنطق من مثل هذا التنسيق الذي يعرف في اللغة العسكرية باسم “الفصل بين القوات”. وقال ماكين “هل نحاول الفصل بين القوات خلال عمليات جوية روسية تستهدف مقاتلين دربتهم الولايات المتحدة؟ وهذا ما يراه مراقبون أمرا غير معقول بتاتا.
صحيفة العرب اللندنية