كانت روسيا قد اتخذت منذ البداية موقفاً معارضاً، فرفضت الاشتراك في التحالف من منطلق أنه لا يلبي مطالبها الاستراتيجية في المنطقة، لكن في ظل التحولات التي تشهدها الساحة الدولية من الأزمة السورية واتجاه الدول المتصارعة إلى التوصل لاتفاق ينهي هذه الأزمة، فقد برز موضوع «داعش» كأهم العناوين في المرحلة المقبلة، وبخاصة بعد أن بدأت روسيا تخشى من صعود التيار الإرهابي التكفيري، ووصوله إلى عدد من الجمهوريات الإسلامية التابعة لها، مثل الشيشان وداغستان، كما تخشى وصول هذه التنظيمات الإرهابية إلى جمهوريات آسيا الوسطى المجاورة، الأمر الذي سينعكس سلباً عليها، ولاسيما أنها خاضت حرباً هائلة ضد التطرف الإسلامي في الشيشان عام 1999.
ولذلك قررت الانخراط في الحرب ضد الإرهاب في الشرق الأوسط، وتلاقت رغبتها هذه مع الولايات المتحدة التي تملك نفس المخاوف من وصول التطرف إلى أوروبا، وحتى إلى الأرض الأمريكية نفسها، وأعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في27 سبتمبر/أيلول 2015، أن روسيا والولايات المتحدة في طريقهما إلى حل وسط بشأن «داعش»، وأن مواقفهما متقاربة من الحرب ضده، والواقع أن هذا الحل الوسط يعني إرجاء الحديث عن الانتقال السياسي في سوريا إلى ما بعد القضاء على الإرهاب فيها، وهذه هي سياسة روسيا منذ مدة، أمّا الولايات المتحدة فكانت تصر على رحيل النظام أولاً.
ولعل الذي أدى إلى تغير السياسة الأمريكية هو الإدراك بعدم القدرة على تغيير الوضع الميداني في ظل الموقف الروسي المساند للنظام السوري، في الوقت الذي تتمدد فيه التنظيمات المتطرفة، وعلى رأسها «داعش» و«النصرة».
كما أن البرنامج الأمريكي لتدريب معارضين سوريين قد فشل بعد أن انضم معظم هؤلاء إلى التنظيمات المتطرفة بعد وصولهم إلى سوريا.
وجاءت أزمة اللاجئين لتلقي بثقلها على دول غرب أوروبا ولتدفع هذه الدول للبحث عن حل يحول دون تدفق المزيد من هؤلاء، ومن هنا بدأ الحديث عن حل سياسي في سوريا بمشاركة النظام السوري، وانتقلت مواقف الدول الكبرى إلى الحديث عن عمل عسكري دولي بمشاركة الجيش السوري، ضد الإرهاب.
وفي يوم الأربعاء 30 سبتمبر/أيلول، وافق مجلس الاتحاد الروسي بالإجماع في جلسته، على طلب الرئيس فلاديمير بوتين السماح باستخدام القوات الجوية الروسية خارج حدود البلاد، وقال مدير الديوان الرئاسي سيرغي إيفانوف إن القرار يسمح باستخدام القوات الجوية الروسية في سوريا، وعلى الفور شنت الطائرات الروسية 20 غارة على 8 أهداف لتنظيم «داعش» في سوريا، بينها مخازن أسلحة ومراكز قيادة، وقد أبلغ وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو شركاء روسيا في منظمة معاهدة الأمن الجماعي بماهية الأهداف التي تعكف الطائرات الحربية الروسية على تدميرها في منطقة الشرق الأوسط.
وقطعاً أن هذه هي البداية، حيث إن الغارات والاستهدافات سوف تتصاعد مع مرور الأيام، فروسيا لا تتصرف بمفردها، بل بموجب إرادة جماعية عالمية تحققت أخيراً في الجمعية العامة، وتشاركها جميع الدول الغربية. ولعل الخاسر الأكبر من هذا الاتفاق الدولي غير المسبوق، سيكون تنظيمي «داعش» و«النصرة» اللذين سيختفيان من الوجود بعد أن يقطع عنهما الدعم والمساندة وتضرب قواعدهما وخطوطهما الخلفية، ولن يكون أمام المنضمين إليهما سوى الموت أو الاستسلام.
كما أن التنظيمات الأخرى في سوريا سيكون مصيرها مشابهاً، أمّا الرابح من ذلك كله، سيكون روسيا التي دعمت منذ البداية النظام السوري ودافعت عنه في المحافل الدولية، ومنعت الولايات المتحدة من توجيه ضربة عسكرية ضده، وتمكنت أخيراً من الوصول إلى اتفاق مع الأمريكيين يعترفون فيه بفشلهم في الاستراتيجية تجاه سوريا.
إن انتصار روسيا، في الملف السوري، يؤكد تراجع القوة الأمريكية في المنطقة والعالم، فلأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية تكسر الإرادة الأمريكية من قبل دولة أخرى، فدائماً كان للولايات المتحدة اليد الطولى، فمثلاً في الحرب الأهلية في اليونان، عام 1946، تصارع الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة، فدعم السوفييت وحلفاؤهم في أوروبا الشرقية، الحزب الشيوعي اليوناني للوصول إلى السلطة في أثينا، ووقفت الولايات المتحدة، بعد أن انسحبت بريطانيا، وحدها تدعم الحكومة اليونانية الشرعية، وقدمت لها 600 مليون دولار، في ذلك الوقت، ونجحت في النهاية، بالانتصار، وقُضي على الثورة الشيوعية، وتم تثبيت الحكم الشرعي الذي لايزال قائماً حتى اليوم في اليونان.
لكن هذه الإرادة الأمريكية قد ضعفت اليوم، بفعل الديون الهائلة المترتبة على الخزانة الأمريكية، ما جعلها تنكفئ عن دورها الريادي في العالم، وهذا ما أكد عليه الرئيس باراك أوباما، عندما قال، في خطابه، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، إن الولايات المتحدة الأمريكية لن تستطيع حل المشاكل الدولية وحدها.
محمد خليفة
صحيفة الخليج