كان الاستعمار الاستيطاني أصل العديد من الدول الحديثة، بما فيها الولايات المتحدة، وكندا، وأستراليا ونيوزيلندا. ومع ذلك، ثمة اختلاف مهم بين معظم الدول الحديثة التي تأسست على هذا النموذج وبين إسرائيل.
في المراحل الأولى من نمو المستعمرات الاستيطانية، مثل تلك الموجودة في أميركا الشمالية أو أستراليا، كانت علاقات الوافدين الجدد مع السكان الأصليين تخيم على وعيهم. كانت عملية مصادرة ممتلكاتهم مطولة وتعامل المستوطنون مع مقاومتهم كتهديد، لا سيما في المناطق الحدودية حيث التقى المجتمعان. وشجع هذا الواقع على نشوء درجة عالية من التضامن بين المستعمِرين حتى وقت متأخر من عملية الاستيطان: فقد سكنوا في نهاية المطاف أرضًا كانت موطنًا لشعوب أخرى، وكانوا يخشون مقاومة السكان الأصليين ونشأت تواريخهم وتشكلت من خلال تجربتهم كمستعمِرين.
بطبيعة الحال، كل المجتمعات تتطور وتتغير. وفي بعض الحالات، كما حدث في كينيا، أو ما أصبحت الآن زيمبابوي وماليزيا، كان المستوطنون قليلي العدد للغاية مقارنة بالسكان الأصليين، وفي النهاية حصل الأخيرون على الاستقلال. وفي مناطق أخرى، حيث أصبح المستوطنون يشكلون الغالبية العظمى من السكان، تأسست دول مستقلة جديدة، مثل الولايات المتحدة وكندا وأستراليا. وعلى مر الأجيال، بدأ الناس الذين نشأوا كمستعمِرين يفكرون في أنفسهم على أنهم من السكان الأصليين وأن الأراضي التي عاشوا عليها هي بلا شك أراضيهم هم. وتميل مجتمعاتهم إلى التطور مثل مجتمعات البلدان الأخرى. وعندما لم يعودوا يواجهون “تهديدات خارجية”، ظهرت أولويات جديدة في صدارة حياتهم، حيث ظهرت مؤسسات وهياكل مجتمعية لم تعد مقيدة بالضرورات الاستعمارية.
على وجه الخصوص، يمكن أن تصبح النزاعات الطبقية داخل هذه المجتمعات حادة للغاية. وفي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، عندما كانت هناك حدود، كانت الصراعات الطبقية صامتة ومهمشة إلى حد ما، حيث أعطت قدرة الناس على الهجرة غربًا الأمل في حياة أفضل للذين ليست لديهم أملاك في الشرق، كما ساعدت على الإبقاء على أجور العمل في الساحل الشرقي مرتفعة مقارنة بأوروبا. ولكن، مع إغلاق الحدود، شهدت الولايات المتحدة صراعات عمالية بقوة أكبر من مثيلاتها المعتادة في “العالم القديم”.
كان عدد قليل من مجتمعات المستوطنين في موقع وسيط بين هذه الأنواع. وشكل الأشخاص من أصل المستوطنين أقلية كبيرة ضمن مجموع السكان، وأثبت تطبيع وجودهم -إما كدول مستقلة عن السكان الأصليين أو كسكان مستعمِرين مهيمنين بشكل كبير- كونه مسعى بالغ الصعوبة. وفي حالة جنوب إفريقيا، تم استبعاد السكان الأصليين أولاً من السلطة وحُرموا من حيازة جزء كبير من أراضيهم. ثم بعد ذلك، في ظل نظام الفصل العنصري، تم إقصاء الأغلبية السوداء من السلطة على بلادها بتصنيف أفرادها كمواطنين في أوطان المستعمِرين، الذين ليس لهم حق في أراضي جنوب إفريقيا البيضاء على الإطلاق، على الرغم من أن معظمهم استمروا في العيش والعمل هناك.
تشكل إسرائيل دولة حديثة العهد تاريخياً كدولة استعمارية-استيطانية. ولو أن الصراع الذي أعقب تصويت التقسيم الذي أجرته الأمم المتحدة في العام 1947 قد أدى إلى توسيع الدولة اليهودية المقترحة إلى الحدود التي حققتها إسرائيل فعلياً، وإنما مع بقاء الفلسطينيين الأصليين في مواقعهم، لكانت قد ضمت أغلبية فلسطينية واضحة تحتفظ بملكية الغالبية العظمى من أراضيها الصالحة للسكن بسهولة، ما يحد من نطاق توطين الوافدين اليهود الجدد، ولكان على الدولة الجديدة عندئذٍ أن تختار بين أن تصبح دولة ديمقراطية لمواطنين متساوين، بغض النظر عن الجنسية أو الدين، أو إنشاء نسختها الخاصة من نظام الفصل العنصري.
كان السبب الوحيد لعدم حدوث ذلك في ذلك الوقت هو أنه تم طرد الغالبية العظمى من الفلسطينيين مما أصبح بعد ذلك إسرائيل. وكانت شروط الدولة الجديدة لتكون ديمقراطية هي استبعاد السكان الأصليين من أراضيها، الذين لا يمكن الوثوق بأنهم سيوافقون على تجريدهم من ممتلكاتهم. ولم تكن هناك حاجة إلى شيء مضر بالمكانة الدولية والصورة الذاتية لإسرائيل كنظام رسمي للفصل العنصري، لأن بقايا الشعب الفلسطيني الذين يعيشون داخل حدودها منذ العام 48 ليسوا في وضع يمكنهم من الاعتراض على أي شيء رغبت في فعله، وكان هناك إجماع واسع النطاق بين غالبية المستوطنين الجدد على استبعادهم من السلطة.
ربما كانت إسرائيل محدودة داخل حدودها للعام 1948 لتسلك، بمرور الوقت، المسار الذي سارت فيه الولايات المتحدة وكندا وأستراليا. بحلول الستينيات، كانت النزاعات الطبقية داخل المجتمع اليهودي الإسرائيلي تتزايد، وأصبحت التوترات بين اليهود العلمانيين/ المتدينين، والأشكناز/ الشرقيين أكثر وضوحًا، وكان الأفراد الذين ولدوا في فلسطين/ إسرائيل يرتقون في سلم القيادة. وفي العام 1966، تم إنهاء الحكومة العسكرية التي كان يعيش في ظلها الفلسطينيون المواطنون في داخل إسرائيل -في إشارة إلى أن الحكومة تعتقد أن وسائل السيطرة الأقل تطرفاً أصبحت كافية الآن. ولم يتم تخصيص الكثير من التفكير للفلسطينيين في الأماكن الأخرى من فلسطين، حتى من قبل أجهزة المخابرات: فقد بدا أن مصيرهم قد خُتم، ولم تكن لمشاعرهم ورغباتهم أي عواقب ملموسة.
ومع ذلك، لم تبق حدود إسرائيل ثابتة. وقد انقطع الاتجاه نحو التطبيع نتيجة لحرب 1967، ولا سيما بسبب استمرار نظام الاحتلال والاستعمار في الضفة الغربية وقطاع غزة الذي أعقب ذلك. وأكدت المقاومة الفلسطينية أن الشعب الفلسطيني لم يختف أو يندمج في المجتمعات العربية الأخرى. وأدى معدل النمو المرتفع للسكان الفلسطينيين تحت الحكم الإسرائيلي، مقارنة بالسكان اليهود الإسرائيليين، إلى تغذية المخاوف من “المسألة الديموغرافية”، حيث يصبح الإسرائيليون اليهود أقلية مرة أخرى في فلسطين التاريخية، كما هم الآن في الحقيقة.
كان الانسحاب من الضفة الغربية وقطاع غزة سيسمح لإسرائيل بالحفاظ على أغلبية يهودية كبيرة داخل حدودها، لكنها لم تفكر أبداً في الانسحاب الكامل. وتغذت شهيتها للاحتفاظ بالسيطرة على دعائمها الأيديولوجية، ما أدى إلى إنشاء مستوطنات داخل الأراضي المحتلة حديثًا في العام 1967. وكان من المحتم أن تثير هذه المستوطنات معارضة شديدة من الفلسطينيين، لا سيما عند بنائها على مقربة شديدة من التجمعات السكانية الفلسطينية، على أراض مأخوذة من مالكيها الفلسطينيين أو من مستخدميها التقليديين. ولا عجب في أن تكون المستوطنات قد أصبحت أرضًا خصبة للتطرف العنصري والقومية العدوانية اليهودية، حيث تصبح الرواية أكثر تصلباً على نحو متزايد لتصبح “نحن في مقابل هم”.
غالبًا ما تم وضع تمييز بين المستوطنين الأيديولوجيين، المدفوعين بآراء قومية، وبين المستوطنين غير الأيديولوجيين، الذين انتقلوا إلى الضفة الغربية بسبب الحوافز المالية، والإسكان منخفض التكلفة والبيئة الأفضل، لكن هذه الفروق لا تهم كثيرًا في واقع الأمر. بمجرد الاستقرار في منزل في الضفة الغربية، من غير المرجح أن تدعم العائلات اليهودية السياسيين الذين يبدو أنهم ينتهجون سياسات قد تضر بقدرتهم على البقاء هناك. ولذلك، لا ينبغي أن يكون مفاجئًا أن الأغلبية الساحقة منهم تقدم دعمها الانتخابي لأكثر الأحزاب شوفينية: بين المستوطنين، يبدأ القبول السياسي بالليكود وينتهي بمؤيدي سياسات مئير كهانا العنصرية التي كانت محظورة في السابق. ومع اتساع أعداد المستعمرين ونفوذهم، قاموا بجر مركز السياسة الإسرائيلية أكثر فأكثر نحو القومية المتطرفة والعنصرية، ما دفع المجتمع الإسرائيلي ككل بعيدًا عن التطبيع. ومع وجود كل أخطاء مجتمعهم أمامهم، من المرجح أن يقول الأميركيون الذين يدركون ما يحصل في إسرائيل/فلسطين: “هذا ليس نحن”.
وسوف تصبح الأمور أسوأ فقط مع استمرار نظام الاحتلال والاستعمار والقمع. وسيكون الطريق إلى التطبيع للأغلبية اليهودية في إسرائيل فقط من خلال الانفصال عن الفكر والممارسات السائدة، وكذلك من خلال احترام حقوق الفلسطينيين وإنسانيتهم، وهو ما لن يحدث من دون مقاومة فلسطينية فعالة، وإعادة للاصطفافات داخل السياسة الإسرائيلية، وضغط خارجي قوي.
الغد