حربُ الصورة: توظيف الصورة الصحفية في الحروب والثورات (5)

حربُ الصورة: توظيف الصورة الصحفية في الحروب والثورات (5)

news_144900_0

استُخدم تعبيرُ”الثورة” لوصف تحركات ٍشعبيةٍ من أنواعٍ عدة مثل “ثورة الزنج” و”ثورة القرامطة”، وقد استخدمها عربُ القرنِ العشرين المتأثرون بثورات عصرهم لفهم الماضي بمفاهيم الحاضر، وفي محاولةٍ للارتباط بتراثٍ ثورى مفترض يُكتب كأنه سيرةُ نضالِ الطبقاتِ المضطهدة. فكما أن هنالك ثورة الزنوج وثورة القرامطة، فهنالك أيضًا ثورةُ عمر المختار في ليبيا (1862-1931) وثورة الريف بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي في المغرب (1882- 1963)، وثورة الجزائر والثورة الفلسطينية وثورة 23 يوليو 1952 المصرية بقيادة جمال عبد الناصر (1918- 1970) وثورة 14 يوليو/ تموز 1958 بقيادة عبد الكريم قاسم (1914 – 1963).
وكما نهج الأوربيون إطلاق مصطلح “ثورة” على تمرّد العبيد بقيادة سبارتاكوس في روما القديمة (ثورة العبيد)، نهج اليسار الألماني منذ كارل ماركس تسمية الحركة الدينية بقيادة توماس مونتسر “ثورة الفلاحين”، بينما وضعها المؤرخون الأوربيون في إطار مفهوم “الإصلاح” أو الحركات الدينية الخلاصية التي تولدت منه بوصفه يشمل عملية متعدّدة الأبعاد والظواهر من حركاتٍ دينيةٍ واجتماعيةٍ واحتجاجيةٍ وثوريةٍ، وهذا يشير إلى الاختلاف بين نهج المفكّر وبين نهج المؤرّخ.
وقد أجرى حسن طوالبة عام 1984 دراسةً بعنوان مناقشة في النزاع العراقي الإيراني، واهتمت هذه الدراسة بالمنازعات والحروب التي قامت بين الدولتين إثر الخلافاتِ والتدخلاتِ من قِبلِ إيران على مرِ العصور التي تؤدي غالبًا إلى وقوعِ العدوان والحروب، وتطرقت الدراسةُ إلى مشكلةِ التدخلاتِ التي بدأت منذ وصولِ الخُميني إلى السلطة، والذي عملَ على تصديرِ الثورة الإيرانية إلى المنطقةِ العربية، وكذلك قامَ باعتداءاتٍ على العراق، حيث عملت إيران على تصعيدِ الأعمالِ الاستفزازية ضدَ العراق ودخول العراق حربًا لمدةِ ثمانِي سنوات، واستنتج الباحث أن الاعتداءاتِ الإيرانية على العراق والمنطقة العربية، أدّت إلى تأثيراتٍ سلبية على أمن الخليج وخرجت إيران هي الخاسرة بعد الحرب العراقية–الإيرانية سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا.
وفيما يلي نعرضُ لنماذجَ من استخدامِ الصورةِ الصحفية في تغطيةِ الثورات في مناطقَ شتى من العالم في التاريخيْن الحديث والمعاصر:

كان الهدفُ الأسمى لجميعِ الدول التي أمضت أكثرَ من عشرين سنةّ لإلحاقِ الهزيمةِ بالثورةِ الفرنسيةِ الأولى، هو الحيلولةُ دونَ اندلاعِ ثورةٍ ثانيةٍ على غرارِها، أو حدوثُ ما هو أسوأُ من

أولًا: الثورات الديمقراطية
ليس مصادفةً أن مرحلةَ الثوراتِ الديمقراطية هي مرحلةُ الثوراتِ الوطنية المطالبة بالانفصال في الولايات المتحدة (1776-1783)، وأيرلندا (1782-1784)، وبلجيكا (1787-1790)، وهولندا (1783-1795). كانت هذه هي الحال حتى الموجات الديمقراطية الأخيرة في شرق أوربا وروسيا والبلقان، حيث أدت إلى انفصالِ كياناتٍ سياسيةٍ تبحث عن تجانسٍ على مستوى الهويّة أو عن هويّةٍ وطنيةٍ غالبة على الأقل، كشرطٍ لتأسيس الحكومة التمثيلية والتعددية السياسية والانتخابات. وقد أدى ذلك في حالة البلقان إلى كوارث وتطهير إثني.
وبعد الثورة الفرنسية التي تلتها الردّة الملكية – إذا جاز التعبير – عادت وانفجرت موجاتها الارتدادية في أرجاء أوربا، وخاصةّ بعد العهد النابوليوني وانحسار احتلالاته التي نشرت أفكارَ الثورةِ أيضًا. ويبدو أن المرحلةَ ما بين 1830 و1848، هي أكثرُ الحقبِ شبهًا بالحقبةِ العربيةِ الراهنة، من ناحية فكرةِ انتشارِ الثورة وحرصِ الحكوماتِ القائمة على اتخاذِ الخطواتِ الاحترازية لإحباطِها، وكذلك من ناحيةِ تحولِ الثورة وانتشار فكرة الديمقراطية في إطار الدولة الوطنية إلى صيرورةٍ تتضمن صعودًا وهبوطًا وأزماتٍ وغيرها. وفي كثيرٍ من الحالات الأوربية في القرن التاسع عشر، كان الدستورُ الديمقراطي يتحقّقُ في الدولة ٍ بعدَ فشلِ الثورةِ فيها، أي بعدَ فشلِها في إسقاطِ النظام.
وكتب إريك هوبزباوم عن هذه المرحلة يقول: نادرًا ما تجلى عجزُ الحكوماتِ التام عن التحكمِ في مسارِ التاريخ مثلما ظهرَ في جيلِ ما بعد 1815. لقد كان الهدفُ الأسمى لجميعِ الدول التي أمضت أكثرَ من عشرين سنةّ لإلحاقِ الهزيمةِ بالثورةِ الفرنسيةِ الأولى، هو الحيلولةُ دونَ اندلاعِ ثورةٍ ثانيةٍ على غرارِها، أو حدوثُ ما هو أسوأُ من ذلك، أى ثورةٍ أوروبيةٍ عامة على غرارِها. وتصدُقُ هذه المقولة حتى على البريطانيين الذين لم يكونوا متعاطفين مع الأنظمةِ الرجعيةِ المطلقة التي استعادت سلطاتُها في جميعِ أنحاءِ أوروبا، وأدركت أن عليها ألا تحيدَ عن سبيلِ الإصلاح أو تتحاشاه، لكنها كانت في الوقتِ نفسه تخشى اتساعَ النزعةِ الفرنسية أكثر مما تخافُ من أيةِ تطوراتٍ ٍ دولية ٍ طارئة ٍ أخرى. وعلى الرغمِ من ذلك لم يحدث قط في التاريخِ الأوربى، ولم يحدث إلا نادرًا في أي مكان من العالم ٍ، أن كانت النزعةُ الثوريةُ وبائيةً شاملةً إلى هذا الحد، وسريعةَ الانتشارِ بالعدوى التلقائية، أو الدعايةِ المنظّمة على السواء.

ثانيًا: الثورة الفرنسية
لم تعزز الثورةُ الفرنسية مفهومَ الدولةِ الوطنية في شأنِ وجودِ حدودٍ سياسيةٍ واضحة وأرضٍ متواصلةٍ يحكمُها نظامٌ إداري وقانوني واحد فحسب، بل أصبحَ مفترضًا أن الدولةَ تمثلُ أمةً هي عبارة عن مجموعةٍ لُغوّيةٍ واحدةٍ. كانت هذه هي حال فرنسا بعد الثورةِ الفرنسية، وفي ظلِ نابليون.
ولم تكتفِ الثورةُ بتمكينِ الدولةِ الوطنية، فقد اندثرت دولٌ وإمبراطورياتٌ في المرحلة ما بينَ بدايةِ القرنِ التاسعِ عشر ومنتصفِه. لقد اندثرت الدولةُ الإمبراطورية الرومانية المقدسة، واندثرت جمهورياتٌ مثل جنوا والبندقية في نهايةِ القرنِ الثامنِ عشر، وانخفضَ عددُ المدنِ والدولِ الألمانيةِ الحرة.
كما قادت النمسا تحالفَ أوربا الرجعية ضدَ نابليون بعد هزيمته في العام 1815. وكانت صاحبةَ الموقفِ الداعي لإخمادِ جميعِ الحركاتِ والثوراتِ بصورةٍ فورّيةٍ لمصلحةِ النظامِ القديم منذ العام 1820، ونادرًا ما اتضحَ عجزُ الحكوماتِ والأنظمة عن ضبطِ مسارِ التاريخ كما حصل بعد العام 1815، فقد كان هدفُ جميعِ الحكومات التي حاربت الثورةَ الفرنسية من العام 1789 حتى العام 1815 أن تمنعَ نشوبِ ثورةٍ أخرى شبيهةٍ بها في أوربا.
ولكن الثورةَ جاءت على موجاتٍ: كانت الموجةُ الأولى ما بينَ الأعوامِ 1820- 1824 في إسبانيا ونابولي واليونان، وقد نجحت في اليونان وحدها، ثم نشبت ثوراتٌ موازيةٌ في أمريكا اللاتينية، وانفصلت البرازيل عن البرتغال في العام 1822، فتحررت غالبيةُ دول أمريكا الجنوبية عن إسبانيا في تلك المرحلة، واشتهرت فيها أسماءٌ مثل سيمون بوليفار وسان مارتن وآخرون.
ثم جاءت الموجةُ الثوريةِ الثانية عام 1830، ثم الموجةُ الثورية الأكبر عام 1848 والتي أُطلق عليها “ربيعُ الشعوب”، وهذه التسمية استُخدمت في شرقِ أوربا والعالمِ العربي وأماكنَ أخرى من العالم في عصرِ الثوراتِ الديمقراطية. وكان من السهل تسميتُها جميعًا “ثورات” بسببِ الثورةِ الفرنسية، سواءَ نجحت أو لم تنجح، وكانت في غالبيتها الساحقة مدبّرةّ أو مخططّةّ، بمعنى أن تتحوّلَ من انتفاضاتٍ إلى ثورات، وهي الفترةُ التي شهدت تطورَ المخابراتِ الداخلية والعملَ التجسسى البوليسي لمنعِ تخطيطِ الثورات أسوةّ بالثورةِ الفرنسية.
ويشبه انتشار إطلاق تسمية “ثورة “فى تلك المرحلة على أي انتفاضة شعبية حال وقوعها، ما حدث مع الحركات الاحتجاجات العربية التي أطلقت على نفسها مسمى “ثورة”، وقد تحولَ بعضُها إلى ثورةٍ بالفعل، ولكن ليس بسببِ التسميةِ طبعًا. وقد اشتعلت الثورةُ في العالمِ الغربى في ثلاثِ موجاتٍ رئيسةٍ: “جاءت الموجةُ الأولى بين العاميْن 1820و 1824، وتمثلت مراكزُها في الجانبِ الأوربي من حوضِ البحرِ الأبيض المتوسط: في إسبانيا (1820)، ونابولي (1820)، واليونان (1821). وقد أُخمدت هذه الثوراتُ في جميعِ البقاع باستثناءِ اليونان، التي أخذت ثورتُها شكلَ التحررِ من “الاحتلالِ التركي”، الأمر الذي ألهبَ القومياتِ كلِها في أوربا، وجعلها تصطفُ خلفَ الثورة في الصيغةِ الشهيرة للفنان دولاكروا” الحريةُ تقودُ الناسَ في الشوارع”، وفي قصائد اللورد بايرون.
وجاءت الموجةُ الثانية من المدِ الثوري بين العاميْن 1829 و1834 لتتركَ آثارَها على جميعِ أرجاءِ أوربا وشرقيْ روسيا وعلى قارة أمريكا الشمالية. وكان نتيجةُ هذه الموجة هزيمة ّ نكراء لحقت بالقوى البرجوازية التي كانت تروّج لسياساتٍ اصطدمت بالحركاتِ الداعية إلى حقِ الاقتراعِ العام، فقد تعرّضت لأعمالِ الشغبِ التي كانت تقومُ بها فئاتُ المتذمرين من رجالِ الأعمال أو من صغارِهم أو من البرجوازيةِ الصغيرة وبواكيرِ الحركاتِ العُمالية. وكان نظامُها السياسى في بريطانيا وفرنسا وبلجيكا متشابهًا في جوهرِه: مؤسساتٌ ليبرالية تحدّ من ديمقراطيتِها المؤهلاتُ التي ينبغي أن تتوافرَ في الناخبين مثل التملُكِ والتعليمِ في ظلِ مَلكيةٍ دُستوريةٍ.
وحدثت الموجةُ الثالثة الأضخم في عام 1848 نتيجةَ الأزمةِ التي تراكمت آثارُها على مدى عُقودٍ في المجتمعِ الجديد الذي أنتجته سياساتُ البرجوازية. وقد اندلعت الثورةُ في وقتٍ واحدٍ تقريبًا، وانتصرت (مؤقّتًا) في فرنسا وإيطاليا والدول الألمانية، كما أثّرت بصورةٍ متقطعة في أيرلندا واليونان وبريطانيا. ولم يكن ثمة ما هو أقربُ إلى مفهومِ الثورةِ العالمية التي كان يحلم بها الثوريون من هذه الانتفاضاتِ العفوية. وما كان العامُ 1789 إلا مجرّدَ انتفاضةِ شعبٍ واحدٍ بدا الآن وكأنه “ربيعُ الشعوبِ” في القارةِ الأوروبية برُمتِها. لقد اكتشفت الثورةُ الفرنسية أو اخترعت الحربَ الشاملة، أي حشد جميع موارد الأمة من خلالِ التجنيدِ والتقنين، وممارسةِ السيطرة الحازمة على الاقتصاد، وإلغاءِ الفوارقِ بين الجنود والمدنيين كامتيازات طبقية للفرسان. ولم يتضح هولَ التداعياتِ التي خلّفها هذا الاكتشافُ إلا في هذه الحقبةِ التاريخية. فبينما كانت الحروب الثورية بين العاميْن 1792 و 1794 ظلّت حالةّ استثنائيةّ، فإن أغلبَ المراقبين في القرنِ الثامنِ عشر لم يفهموا معناها، وخَلُصَتُ النتائجُ التي توصلوا إليها إلى القولِ: إن الحروبَ تؤدي إلى الثورات، وأن الثوراتِ تَكسِبُ حروبًا يستحيلُ كسبَها.
لقد حفّزت الثورةُ الفرنسية ثوراتٍ عديدة حتى في أمريكا اللاتينية بعد العام 1808، كما حفّزت حركاتٍ وطنيةٍ ديمقراطية في الهند، وأطلقت أفكارَ النهضةِ والحداثةِ في الدولة العثمانية والولايات العربية العثمانية التابعة لها.
لقد كانت الثورةُ الفرنسية ثورةً وطنية لا ديمقراطية فحسب. وليس ذلك من قبيل المصادفة؛ فقد نشأت الديمقراطيةُ الحديثة من خلالِ وعي الأمة بسيادتها كّأمةٍ عبرَ حقوقِ المواطنين في مقابل الصيغةِ السابقة التي لا تؤلّفُ فيها امتيازاتُ أرستقراطية الأقلية من جهة، وانعدامُ الحقوقِ لدى الرعيّةِ من جهة أخرى. وقد رافق ذلك صعودُ وترسيخُ الشعورِ الوطني، ونشرُ اللغةِ القومية، وتهميشِ اللغاتِ واللهجاتِ المحلية، وتوحيدُ نُظمِ التعليم والإدارة، والقضاءُ على الاستقلالِ الإقليمي والمحلي للأُسقفيات، ونسفُ الهيئاتِ الوصائية التقليدية الإقطاعية الطابع، وتعميمُ التجنيدِ الإلزامي والنشيد الوطني.. وغيرُ ذلك من مركّباتٍ تحوّلت إلى مميزاتِ الحركاتِ القومية لاحقًا.
وقد ارتبطت ثورةُ 1820- 1848 بعمليةِ تنميةِ الشعورِ الوطني، وبلورةِ القومية نفسها في حالاتٍ مثل اليونان وبولندا وأيرلندا وهنغاريا والصرب وبروسيا وغيرها، أي أن هُويّة الثوراتِ الديمقراطية أسهمت في بلورةِ القومية كجماعةٍ لحماية الحقوق السياسية، إذ قادت الحركات الوطنية أحيانًا إلى تبني الديمقراطية.
ويمكن القولُ إن أفكارَ الثورةِ الفرنسية ومبادئِها في الفترةِ ما بيْن عاميْ 1789و 1917، أي حتى ثورةِ أكتوبر الاشتراكية، كانت هي موضوعُ الصراعِ في أوربا بين قوًى مناصرٍة لهذه المبادئ وقوًى معاديٍة لها. ومن هنا تطورت معظمُ التعبيراتِ والمفردات المتعلقةِ باليسار واليمين والديمقراطية والليبرالية. وما يميلُ البعضُ إلى نِسيَانِه هو أن مظاهرَ ومفرداتِ الظاهرةِ القومية جاءت من هناك. فقد كانت ثورةُ 1879علميًا ثورةً وطنية في تأسيسِ أمّة، وهكذا كانت ثورات 1848 أيضًا، التي لم تكن ثوراتٍ ديمقراطيةً فحسب، بل ثوراتٍ وطنية في الوقتِ ذاته. ومن هنا نشأت فكرةُ القانونِ الدستوري، ونموذجُ تنظيمِ المدن، وسُبلُ الإدارةِ الحديثة ونظامُ القياسِ المتري، وحملتها جيوشُ نابليون إلى سائرِ دولِ أوربا وشرقِ المتوسط.

نادى ” روبيسبير” بمبدأ “الحربِ في القصور والسلامِ في الأكواخ ” كتعبيرٍ عن توجهاتِ الثورةِ الفرنسية

ثالثًا: الدعاية والفكر الثوري الفرنسي
كانت فرنسا المنطلقُ الأول للفكرِ الثوري الحديث الذي تجلى وأنتج الثورةَ الفرنسية الكبرى عام 1789، وبعدها ثوراتُ أوربا سنوات 1830 و1948. ولقد مرَ هذا الفكرُ بعدةِ تطوراتٍ وهو ما يفسرُ تجددَ الثورة في هذا البلد خلال تلك السنوات، حيث مر بمرحلة الليبرالية ثم اليعقوبية وأخيرًا الاستبدادية، لذلك تعددت مدارسُهُ وأيديولوجياتُه وقادتُه، فاختلفت التعريفاتُ والمفاهيم.
وقد أرست الثورةُ الفرنسية ضد الملكية مفهومَ الدعاية، وقد أنشأت حكومةُ الثورة وزارةَ الدعاية، ونادى ” روبيسبير” بمبدأ “الحربِ في القصور والسلامِ في الأكواخ ” كتعبيرٍ عن توجهاتِ الثورةِ الفرنسية، وقد استخدمَ نابليون بونابرت “الدعايةَ الصحفية” بين جيوشِه والبلاد التي فتحَها وذلك لرفعِ الروحِ المعنوية بين الجنودِ الفرنسيين، ولتعريفِ الشعوبِ التي دخلَها أغراضَ حملاتِه؛ فأصدر صحيفتيْن في إيطاليا، وصحيفتيْن أيضًا في مصر حين دخلها في العام 1798.

رابعًا: الثورات في العالم الإسلامي
لقد تبين في الثورات أكثر من أى وقت مضى أن الهُويةَ العربية قائمةٌ وتجمعُ العربَ من المحيطِ إلى الخليج، فالثورةُ الأكبر في العالمِ الإسلامي كانت في إندونيسيا وهي بالمناسبة شبيهةٌ بالثورةِ المصرية، لم تدفع أحدًا إلى التحركِ ثوريًا، في حين أن ثورةً في دولةٍ عربية صغيرة مثل تونس، سرت مثلَ تيارٍ كهربى في جسدٍ عربي ضعيف، ولكنه مُوصِلُ للهمومِ والآمالِ والأفكار والأحلام. ولا يمكن انتقالُ أملِ وحلمِ الثورةِ عربيًا من دون المشترك العروبي بينَ الأقطارِ العربية.
وفي مرحلةِ التحرر الوطني الأولى في النصفِ الأول من القرن العشرين، استلهم عددٌ من الوطنيين قيمَ الثورةِ الفرنسية، ألم يكن شعارُ الثورةِ السوريةِ الكبرى (1925- 1927) هو الحرية والإخاء والمساواة، وهي نفسُها قيمُ الثورةِ الفرنسية؟

خامسًا: الثورة البلشفية 1917
علينا أن نذكر أن ثورة أكتوبر 1917 في روسيا، والتي تفجرت وأدت إلى استسلامِ البلاشفة بالقّوة، كانت مشروطةً بثورة مارس 1917، فهى التي شكّلت مقدّمةً لثورةِ أكتوبر. فبعدَ ثورةِ مارس، لم نكن لندري ماذا كان يمكن أن يحدثَ تاريخيًا لو اتبعت ثورةُ مارس إصلاحَ نظامِ الحكمِ بدلًا من الثورةِ عليه؟ ربما كان من الممكن أن ينشأَ عن ذلك نظامٌ ديمقراطي. أما الثورةُ البلشفية التي حسمت ازدواجيةَ السلطة بالقوة فقد أنشأت نظامًا ديكتاتوريًا شموليًا. وبالعودة إلى نظريةِ الحالةِ الثورية، يمكن اعتبارُ حكومةَ كيرنسكي تعبيرًا عن الانشقاقِ في داخلِ الطبقةِ الحاكمةِ البرجوازية بين التحالفِ مع النظامِ الملكي والتمردِ عليه.

سادسًا: ثورة 1919
رَسَخَ قدمُ الصورةِ الصحفية بأنواعِها المختلفة في فترة النهضة التي بدأت بالثورةِ الوطنية عام 1919، فقد كان من مظاهرِ هذه النهضة تقدمٌ فني وصناعي لجوهرِ التصوير في مختلفِ نواحيه، إذ ظهرت الأفلامُ المصرية وانتشرت المجلاتُ المُصورة، وكان لهذا أثرُه المحتوم على الصحفِ فأصبحت الصورةُ من عناصرِها الرئيسية.
ولعبت الصحافةُ المصرية دورًا كبيرًا في مناقشةِ أسسِ الوحدة بين المسلمين والأقباط، ونشرِ مظاهرِ الوحدةِ السياسية من خلالِ الأشكالِ الصحفية المختلفة ومعالجةِ ما يسيءُ إليها، ومع اندلاعِ الثورة، زخرت صفحاتُ الصحفِ بالأخبار والمقالات والصور، التي تصفُ وتباركُ مظاهرَ الوحدةِ السياسية بين المصريين من أتباعِ الدياناتِ السماويةِ الثلاث في المظاهرات والمقابلات والاجتماعات السياسية في المساجد والكنائس، التي تصدرها رجالُ الدين، ورفرفَ عليها شعارُ الثورة: الهلالُ يحتضنُ الصليب. وبهذا أسهمت الصحفُ في نشرِ مشاعرِ الوحدة وتعميقِها في مختلفِ أرجاءِ الوطن. ونشرت “الأخبار” و”اللطائف المصورة” صورةَ مظاهرةٍ قادَها القمص مرقص سرجيوس والشيخ محمد الغنيمي التفتازاني، وشارك فيها فريقٌ من أعضاءِ جمعيةِ “اتحاد الشبان المسيحيين” وتصدرَ هذه الصور العلمَ المصري ومعه “العلم الجديد الذي جمع الهلالَ والصليب.
ولما صدرَ قرارُ الإفراج عن الزعماءِ المنفيين، في 7 أبريل 1919، أفاضت الصحفُ في وصفِ مظاهرِ الابتهاج، التي شاركَ فيها رجالُ الدينِ الإسلامي والمسيحي. واستخدموا أماكنَ العبادة كمراكزَ للالتقاء. وأفادوا من هذه المناسبة لدعمِ معاني ومشاعرِ الوحدة. وتابعت الصحفُ بالخبر والتعليق والصورة مواكبَ شهداءِ هذه المظاهرات، التي تقدمها رجالُ الدينِ من المسلمين والمسيحيين. وقالت صحيفةُ “الأخبار” “إن كثيرًا من موظفي السكة الحديد اجتمعوا في كنيسةِ الفجالة القبطية، وقرروا تأليفَ لجنةٍ لإدارةِ حركةِ الإضرابِ عن العمل”.
كانت العلاقةُ بين الصحافةِ المصرية وثورةِ الشعبِ المصري في سنة 1919علاقةً عضوية قائمةً على التأثيرِ والتأثرِ المتبادليْن. فقد أثرت الصحافةُ في مجرياتِ الثورة وأفكارِ الثُوار، وفي الوقتِ نفسِه تأثرت الصحافة – سياسيًا واقتصاديًا وفنيًا– بحوادثِ الثورةِ وتطوراتِها، والقراراتِ والإجراءات التي اتخذتها السلطاتُ البريطانية والمصرية تجاهها. وكان التفاعلُ بين الصحافةِ والثورة قويًا وعميقًا إلى درجةٍ يصعبُ معها الفصلُ بينهما. وقد أدت أحداثُها إلى أن أصبحت الصورُ بأنواعها من المعالمِ الإخراجية المهمة في الصحفِ المصرية، وأدى تكرارُ استخدامِ هذه العناصر إلى إتقانِ إنتاجِها وإخراجِها بشكلٍ ملحوظ، فظهرت في الصحفِ صورٌ فوتوغرافية لرؤساءِ الدول المتحاربة في أثناء الحرب العالمية الأولى وصورٌ أخرى لبعض المناظر المتعلقة بعمليات القتال، ثم رسخت قدمُ الصورةِ الصحفية بأنواعها في فترةِ النهضة التي بدأت بالثورةِ الوطنية عام 1919.
وكان من مظاهرِ هذه النهضة تقدمٌ فني وصناعي جوهره التصوير في مختلفِ نواحيه، إذ ظهرت الأفلامُ المصرية وانتشرت المجلاتُ المصورة، واستمر حرصُ “الأهرام” خلالَ تاريخِه الطويل أن يكون كبارُ المصورين المعروفين من بين أعضاءِ قسمِ التصوير به أو من المتعاونين مع هذا القسم، حين استعان بالمصور الموهوب “يوسف الحيالي” الذي التقط أوائلَ الصورِ التي نشرتها جريدةُ “الأهرام” عن ثورة 23 يوليو 1952فى يوم 24 يوليو التالي للثورة، ثم موريس يوسف وفريد تبراكي ونشر صورهما في أواسط الخمسينيات من القرن الماضي.

اتسمت لعلاقةُ بين الصحافةِ المصرية وثورةِ الشعبِ المصري في سنة 1919علاقةً عضوية قائمةً على التأثيرِ والتأثرِ المتبادليْن

سابعًا: ثورة العشرين في العراق “تلعّفر”
وقد ثارَ الجدلُ حولَ الأسبابِ التي جعلت المنطقةَ العربية بعيدةً عن التأثرِ بتلكَ الموجات، حيث بدت المنطقةُ حينئذٍ محصنةً ضدَ التأثيراتِ الديمقراطية، ويبدو أن الخصوصيةَ السياسية والاجتماعية والثقافية للعالمِ العربى، قد أسهمت مع غيرها من الأسباب في ترسيخِ أنظمةِ الحكمِ التسلطية في المنطقةِ العربية لعقودٍ طويلة، الأمرُ الذي جعل السياسيين الأكاديميين يتحدثون عن “الاستثناءِ العربي”، ووظفَ بعضُهم المُعطى الثقافي ذاهبًا إلى أن الديمقراطيةَ ثقافةٌ مدنية وليست بناءً سياسيًا.
ولعل التطوراتُ الأخيرة في المنطقةِ العربية أظهرت زيفَ هذه الرؤية الأكاديمية، حيث كتبت صحيفةُ “نيويورك تايمز” New York Times الأمريكية ودون تمييز عن الأحداث عن الاحداث السياسية التي شهدها العراق سنة 1920ومنها ثورة تلعّفر، وأحداث دير الزور، والحركة التي قام بها محمود البرزنجي في شمال العراق ضد الإنجليز، كذلك الأحداث التي رافقت ثورة العشرين في الفرات الأوسط. وكانت صحيفةُ “نيويورك تايمز” عندما تشيرُ إلى أحداثِ ثورةِ العشرين في العراق تذكر أنها إما ثورة أو انتفاضة ضد الإنجليز في حالِ حصولِها على الأخبار بصورة مستقلة، أما إذا حصلت على أخبار العراق من لندن أو من أقوال الساسة الإنجليز نجدها تستخدم اصطلاحَ (تمرد) أو عصيان.
وتُعد ثورةُ العشرين في العراق من الثوراتِ المهمة في الوطنِ العربي، بحيث قامت الصحفُ الرئيسيةُ في العالمِ الغربي بنقلِ أخبارِ هذه الثورة يوميًا وعلى صفحاتِها الرئيسية، إذا ما استثنينا الصحفَ الفرنسية، لأنها كانت منشغلةً بنقلِ أخبارِ الجيوشِ الفرنسية في سوريا.
ثامنًا: الثورة اليمنية
سادت اليمن موجةً من القلاقلِ والاضطرابات العنيفة لمدةٍ طويلة إلى الحدِ الذي أصبحت تُشكلُ فيه نمطًا مألوفًا للحياةِ فيها. فالشقاقاتُ والثورات والمشاحنات من جانبِ المطالبين بالإمامةِ كان أمرًا متوقعًا. غيرَ أنه من ناحيةٍ أخرى كان يجري قمعُها من حينٍ لآخر باتخاذِ إجراءاتٍ انتقامية عنيفة. وقد مكّنت أجهزةُ الراديو (الترانزستور) الرخيصة المستوردة من عدن من وصولِ الدعايةِ المصرية المكثفة إلى الشعبِ اليمني. كما هيأت إذاعةُ “صوتِ العرب” أذهانَ الشعبِ اليمني للثورة خلالَ عدةِ شهور، وفي يوم 26 أبريل عام 1962 – على سبيلِ المثال – دعا المذيع إلى القيامِ بالثورة في وجهِ الإمام أحمد، وفى اليوم نفسه الذي تُوفي فيه الإمام – وبشكلٍ عارض- أُذيعت على الهواء كذلك دعوةً أخرى للقيامِ بالثورة ضدَ حُكمِ الإمام.

تاسعًا: الثورة الصينية
أمّا الثورةُ الصينية فقد اندلعت في 19 ديسمبر 1946، وفي سنة 1949 نجحت الثورة الشيوعية في الصين واعترف قائدها ماوتسي تونج Maotse Toung بالفياتمنة Vietminh ودعمها ماديًا ومعنويًا، فاكتسبت بذلك الثورة الفيتنامية بُعدًا دوليًا آخر من شدة الضغط على فرنسا الاستعمارية.
وكان أهم ما ميّزَ الساحةَ العالمية، بداية ما عُرِفَ بالحربِ الباردة بين المعسكريْن الشرقي والغربي. وفى إطار هذه الحرب أسهمَ المعسكرُ الشرقي أحيانًا في تدعيمِ بعضِ الحركاتِ التحررية عسكريًا وسياسيًا، وذلك بهدف إضعافِ الخصم مثلما حدثَ في الهندِ الصينية والثورةِ المصرية التي قامت يوم 23يوليو 1952، كما أن المعسكرَ الغربي شَكّلَ هو الآخرُ حجرَ عثرةٍ ضدَ من يقفُ في وجهِ الإمبريالية، والتي اتخذت أساليبَ جديدة أكثر تنظيمًا، كما هي الحالُ في تكتلِ الحلفِ الأطلسي الذي تأسسَ يوم الرابع من أبريل 1949، وكذلك بعض المشاريع الاقتصادية ذات الطابع السياسي.

أ.د. شريف درويش اللبان أ. سارة أحمد يسين

المركز العربي للبحوث والدراسات