الوضع القلق الذي يمرّ به حزب السيّد اليوم، ليس متأتيا فقط من كونه مؤسسة تعمل لصالح الأجنبي (الإيراني) على الأراضي اللبنانية وتنفّذ أجندته وتتحرّك من أجل أوراقه التفاوضية حول الملف النووي والعقوبات وتعقيدات المحاور في المنطقة، بل لأنه حين قرّر أن يسيطر على الدولة، لم يكن لديه مشروع للحُكم يواكب المستوى الذي كان لبنان قد وصل إليه قبل ظهور حزب الله إلى الوجود. فلبنان المتشكّل كبلد للحريات والسوق المفتوحة واللعبة الديمقراطية، حتى في أحلك أزمنتها حين تحولت إلى محاصصة طائفية، يعتبر نموذجا متقدما على غيره من البلدان المحيطة به. ولم تكن ولادة عصر حزب الله إذاك إلا وأدا للحياة العامة اللبنانية بكل تجلياتها، الإعلام والتجارة والثقافة والدور الجيوسياسي.
مشروع حزب الله يتعارض كليّا مع فكرة لبنان، ومع كل ما يمكن أن يفكّر فيه أي لبناني، حتى أولئك الذين طحنتهم الحرب وخرجوا منها يبحثون عن سبل للعيش، فقبلوا الانخراط في أطر عشائرية وطائفية هشّمت ملامحهم، لن يستطيعوا الاستمرار في غض الطرف عما قاد حسن نصرالله وحزبه لبنان إليه.
لبنان في انهيار متفاقم، وحزب الله يبحث عن المزيد من الغوص في التراب السوري، تحت القصف والاستهداف المتواصل للمقاتلات الإسرائيلية التي تمسح الخارطة السورية بشكل دائم بحثا عن الميليشيات الإيرانية، كل ذلك وميليشيا حزب الله مكملة في طريق اللاعودة، وجائزة الترضية التي يقدّمها حسن نصرالله لا تعدو كونها شحنات وقود إيراني عبر البحر. لكن هل هذا فقط ما حقّقه الحزب من تواجده الميليشيوي في سوريا؟ بالتأكيد لا.
التصاق حزب الله بمخططات خامنئي والحرس الثوري، صحيح أنه أبعده كليّا عن الحالة اللبنانية والعربية بالعموم وجعله في مواجهة مستمرة معها وكأنه حزب فارسي، إلا أنه جعله أحد المستفيدين من لعبة التقاسم التي تجري في المنطقة، لاسيما صفقة الغاز المصري الذي سيعبر الأردن ويمرّ بجنوب سوريا، حيث درعا، ليصل إلى الأراضي اللبنانية. إذن فحزب الله يحقّق ما وعد اللبنانيين به، ويجلب إليهم الغاز ويحلّ مشاكل الطاقة، لكن كيف؟ باحتلال حوران وتهجير سكانها. وهذا المشهد بحدّ ذاته يعكس الكيفية التي تُرسم بها الحدود في هذه المرحلة ما بين مكونات المشرق. حدودٌ تُرسم بالدم، كما قال ذات يوم الزعيم الكردي مسعود البارزاني، وحدودٌ أخرى تُرسم بالغاز، كما يحاول حزب الله أن يقول ويفعل.
ثمن ذلك، لن يكون مجرّد هروب إلى الأمام، وتأجيل للمواجهة المحتومة مع من يجدون أنفسهم اليوم مرغمين على مغادرة بيوتهم وأراضيهم في حوران، إلى المجهول، بل في أن هذا المسلسل الوظيفي لن تكون له نهاية، وإن بدت في هذه الأوقات مكافأة يتلقاها حزب الله لوقوفه إلى جانب نظام الأسد في سوريا بأوامر من إيران، مكافأة يعتقد من صمموها أنها سوف ترفع من أسهمه في الشارع اللبناني وتعزّز هيمنته أكثر.
حسن نصرالله هبط من مشروع المقاوم إلى مقام الميليشوي المرتزق، يتصرّف في سوريا واليمن، كشركة “بلاك ووتر” لبنانية لا أكثر
ولكن أي حظ سيكون للسيّد وحزبه في لبنان أفضل من حظ المرشد وجمهوريته الإسلامية في إيران؟ الفارق في الحجم لا أكثر. ولكن هندسة الحالتين واحدة، فإيران الآن ليست سوى ميليشيا مضخّمة عن تلك الميليشيات التي تحرّكها ومن بينها حزب الله اللبناني وحزب الله العراقي والحوثيون والفواطم والنجباء والحشد الشعبي وغير تلك الدمى التي يجري التحكّم بها عن بعد، دون النظر إلى أوضاع المواطنين المعيشية الفاعل الأول في ترسيخ الاستقرار الاجتماعي. وكما أن الشعوب في إيران على صفيح ساخن، يشتكون الفاقة وانعدام المتطلبات الأساسية، فإن اللبنانيين على صفيحهم الساخن أيضا، وباتوا ينظرون إلى سعر رغيف الخبر كما لو كانوا يراقبون سعر الذهب والنفط.
ماذا بعد صفقة الغاز؟ وما الذي ستحلّه من مشاكل في لبنان؟ وهل اقتصر الانهيار على الكهرباء والطاقة؟ أم أن نظاما بأكمله يعاني الشلل في عهد “الرئيس القوي” كما يطيب لبعض المسيحيين تسميته؟ فريق منهم يريد لهذا الرئيس وعهده المزيد من التدهور كي يقول بعد حين “ها نحن ذا” الذين بوسعنا إنقاذ البلد دون أن نضع أيدينا بيد حزب الله وإيران. ولكن حتى يأتي ذلك الحين لن يبقى من لبنان الذي نعرف شيء يذكر.
يبدو الأمر وكأن فرصة تاريخية أعطيت للشيعة العرب، للانطلاق من حال التماهي مع المحيط، إلى زمن يطرحون فيه تصوراتهم عن الحكم والدولة. وهاهو “الماكيت” العراقي ماثلا أمام أنظار العالم، هو إسلام سياسي أيضا، ولا أهمية إن اختلف المذهب وتباينت الطائفة، فالمرشد هنا والمرشد هناك، والهرمية القدسية هي التي تمسك بالمقود، والتحدي الكبير القادم، لن يكون مقتصرا على مواجهة كيف تدار الدولة، بل كيف يدار المجتمع؟ وهي أيضا من الاستحقاقات المؤجلة على جدول أعمال حزب الله، الصدام قادم، وأولى نذره ستكون داخل المجتمع الشيعي اللبناني ذاته، فمن يسمع تصريحات رئيس مجلس النواب وزعيم حركة أمل الشيعية نبيه بري، ومعها المواقف العديدة لمعارضي نهج حزب الله من مثقفين وسياسيين شيعة، سيدرك أن الكيل طفح، وأن الحياة المدنية وتعدّدها والحق بالاختلاف فيها لن تكون لقمة سائغة للسيدّ ومعاونيه وورثتهم في المستقبل.
وبينما تخلو الساحة تباعا من زعامات شيعية كبرى، أحدثها رحيل رئيس المجلس الشيعي الأعلى في لبنان عبدالأمير قبلان، يبقى أن أكبر الخاسرين في حرب الأعوام العشرة الماضية في سوريا هو حسن نصرالله، الذي هبط من مشروع المقاوم إلى مقام الميليشوي المرتزق، والذي يتصرّف في سوريا واليمن، كشركة “بلاك ووتر” لبنانية لا أكثر، متناسيا أنه بسياساته تلك إنما يجرّ معه هيبة العمامة السوداء إلى صورة نمطية ستبقى تلاحقها لقرون قادمة.
العرب