عندما شكلت الولايات المتحدة والهند وإسرائيل والإمارات العربية المتحدة مجموعة عمل مشتركة جديدة للتنسيق الاستراتيجي خلال أكتوبر الماضي وضع تلاقي أربع دول مقارنات مع الحوار الأمني الرباعي بين الولايات المتحدة واليابان وأستراليا والهند.
ويقول الباحث الهندي سي. راجا موهان في تقرير لمجلة فورين بوليسي الأميركية إن بعض الوقت سيمر بالتأكيد قبل أن تصل رباعية الشرق الأوسط الجديدة، والتي لا تزال مجرد مجموعة عمل بين وزراء الخارجية حتى الآن، إلى شدة وعزيمة نظيرتها الشرقية التي عقدت بالفعل قمتين للزعماء هذا العام.
لكن الحوار الأمني الرباعي بدأ أيضا كممارسة متواضعة بين كبار المسؤولين في 2007. وأشار وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى المصالح المتداخلة بين البلدان الأربعة في “الطاقة والمناخ والتجارة والأمن الإقليمي” كهدف للرباعي الجديد. وقال إن الشكل الجديد سيعزز “القدرات التكميلية في العديد من المجالات” لإنجازات جديدة في الشرق الأوسط.
ويجعل إدراج الهند هذه المجموعة مميزة. وقال وزير الخارجية الهندي إس جايشانكار في تصريحاته لمحاوريه في الاجتماع الأول إن علاقات بلاده مع الدول الثلاث “من بين أقرب العلاقات لدينا، إن لم تكن الأقرب”.
شريك مرحب به
يقول راجا موهان إن اعتبار الهندِ الولايات المتحدةَ وإسرائيل والإمارات من بين أقرب شركائها الاستراتيجيين، وكونها على استعداد للاعتراف بذلك علنا وبقائها مستعدة للعمل مع هذه البلدان في المنطقة، يعدّ انعكاسا لمدى تحول سياسة الهند الخارجية في الشرق الأوسط؛ فلطالما كان ابتعاد الهند عن الولايات المتحدة وإسرائيل ودول الخليج في ما يتعلق بالقضايا الإقليمية هو الوضع الطبيعي في الشرق الأوسط.
ومن المثير للاهتمام أيضا تطلع واشنطن وتل أبيب وأبوظبي إلى بناء شراكة مع نيودلهي، والتي لطالما كانت هامشية في تطورات الشرق الأوسط. وأصبحت الهند التي تتسع بصمتها في السياسة الخارجية الآن شريكا مرحبا به للولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين.
سي. راجا موهان: رباعية الشرق الأوسط الجديدة تتويج لسياسة الهند
ويمثل التجمع الجديد في الشرق الأوسط التقارب المتزايد بين المصالح الهندية والأميركية في آسيا. وتبدو نيودلهي التي وقفت في الماضي ضد سياسات واشنطن في شرق آسيا والشرق الأوسط مستعدة الآن للعمل معها لتحقيق الاستقرار في المنطقتين. وإذا ظهرت الحاجة إلى تحقيق التوازن في الصين باعتبارها الصمغ الذي يربط الرباعية معا في شرق آسيا، فإن الوضع يبقى أكثر تقلبا وتعقيدا في الشرق الأوسط؛ حيث لا تبحث الولايات المتحدة عن مستفيدين غير فاعلين ضمن مظلتها الأمنية بينما تعيد تشكيل تحالفاتها وتعيد ترتيب أولوياتها العالمية. وهي تريد شركاء راغبين في مشاركتها مثل هذه التوجهات وقادرين على ذلك، وتبرز الهند على رأس القائمة.
وقدّم التحول السريع في علاقات الهند مع إسرائيل والإمارات (وهما حليفان رئيسيان للولايات المتحدة في المنطقة) تحت قيادة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أساسا جديدا للمشاركة بين الدول الأربع؛ فبعد أن سهّلت واشنطن اتفاقات أبراهام لسنة 2020 جذبت واشنطن الهند إلى ما يسميه البعض بالفعل “الاتفاقات الهندية الإبراهيمية”.
ويقول راجا موهان إن إضافة الولايات المتحدة للهند إلى شبكتها من الحلفاء والشركاء الآسيويين تعدّ بالنسبة إليها نهجا جديدا وغير متوقع لتعزيز مكانتها في المنطقة. لكن المنظور طويل المدى يشير إلى شيء آخر يتعلق بمنطق جغرافية الهند؛ ويوحي إلقاء نظرة خاطفة على الخارطة ببروز الهند الطبيعي في كل من شرق آسيا والشرق الأوسط. وتبدو البلاد، بصفتها قوة رئيسية في نقطة ارتكاز آسيا وسط المحيط الهندي، في وضع جيد لتشكيل النتائج الجيوسياسية في كلا المنطقتين.
وتستعيد الهند دورها التاريخي في شرق آسيا والشرق الأوسط من خلال العودة إلى المنطقتين؛ حيث لعبت الهند المستعمرة دورا رئيسيا في الهيمنة البريطانية على المحيط الهندي والمناطق المجاورة لها حتى منتصف القرن العشرين. ووفرت القاعدة التي أمكن لبريطانيا من خلالها السيطرة على إمبراطوريتها والدفاع عنها، وتعزيز عولمة المنطقة، والحفاظ على نظام أمني إقليمي. وقدمت الهند الموارد العسكرية لبريطانيا لتحقيق الاستقرار في أجزاء كبيرة من آسيا.
وفي تذكير بهذا الدور افتتح جايشانكار زيارته لإسرائيل بوضع إكليل من الزهور على قبور الجنود الهنود الذين ضحوا بحياتهم خلال الحرب العالمية الأولى.
ونفى العديد من المراقبين في الهند وخارجها الروابط التجارية والعسكرية العميقة بين الهند والشرق الأوسط باعتبارها مشوّهة بالسياق الاستعماري. ومع ذلك يؤكد بعض المؤرخين على مركزية الهند في الإمبراطورية البريطانية.
ونشهد في الوقت الراهن إعادة إنشاء تلك الروابط بين الهند والقوة الغربية المهيمنة اليوم (الولايات المتحدة) من قناة السويس إلى بحر الصين الجنوبي. ولكن على عكس الحقبة الاستعمارية عادت الهند إلى المنطقة كعنصر فاعل مستقل له سياسة خاصة به. وتتفاوض من نيودلهي على تعاون الهند مع الولايات المتحدة، على عكس ما كان قائما في ظل استعمار البريطانيين؛ حيث لا تساعد الهند في دعم إمبراطورية دولة أخرى وإنما تعمل على تعزيز مصالحها في المنطقة.
سياسات متغيّرة
الهند قدمت الموارد العسكرية لبريطانيا لتحقيق الاستقرار في أجزاء كبيرة من آسيا
كانت سياسة الهند الخارجية في الشرق الأوسط مدفوعة بالحاجة إلى النأي بنفسها عن تراث الاستعمار البريطاني. وتعمّدت الهند التخلّي عن دورها الأمني في المنطقة وعن دورها المركزي في العولمة الاقتصادية في المحيط الهندي.
ووضعت الهند المستقلة نفسها ضد تحالفات ما بعد الحرب مثل حلف بغداد (سينتو)، حين كانت واشنطن تهدف إلى احتواء الاتحاد السوفييتي على جانبه الجنوبي وملء الفراغ الذي نشأ عندما انسحب أول رئيس وزراء للهند بعد الاستقلال جواهر لال نهرو من السياسة الأمنية في المنطقة. وفي المقابل كانت باكستان عضوا مؤسسا لسينتو إلى جانب إيران والعراق وتركيا وبريطانيا، لكنها لم تستطع شغل مكان الهند غير المقسمة، ولم يدم الحلف طويلا.
وكانت أمام الهند نافذة زمنية وجيزة لإعادة النظر في إحجامها عن أن تكون مزودا للأمن الإقليمي في 1968، عندما أعلنت بريطانيا أنها ستنسحب من معظم مناطقها الاستعمارية شرق السويس. ومع ذلك كافحت نيودلهي للتوفيق بين أيديولوجيتها الخاصة بعدم الانحياز ومصالحها الأمنية في المحيط الهندي.
ولجأت بعض دول الخليج، التي اعتمدت جميعها على بريطانيا لضمان أمنها، إلى الهند للتعاون الدفاعي إثر استقلالها. ووقعت الهند على بروتوكول ثانوي بشأن التبادلات العسكرية مع عمان في 1972 لكنها لم تكن مستعدة للتدخل. وبدلا من ذلك كان نهرو ومن خلفوه متمسّكين بقضايا العصر الأيديولوجية الكبرى، بما في ذلك راديكالية العالم الثالث، ومناهضة الاستعمار، ومعاداة الصهيونية، واحتضان القضية الفلسطينية، والقومية العربية. ولا تتناسب المساهمة في نظام الأمن الإقليمي مع أي من هذه النماذج.
وبينما أكد قادة الهند الجدد على الاكتفاء الذاتي وتحوّل اقتصاد البلاد إلى الداخل، قطعت نيودلهي روابطها الاقتصادية القديمة مع الشرق الأوسط. وعلى الرغم من أن واردات النفط المتزايدة وتصدير العمالة الهندية إلى الخليج عززت بدايات تكامل أعمق بين الهند والخليج، إلا أن نهج نيودلهي ظل تجاريا وليس استراتيجيا.
وبدأ بعضُ ذلك يتغير بعد الحرب الباردة، عندما أقامت الهند علاقات دبلوماسية مع إسرائيل رغم استمرار التوجه القديم المناهض للصهيونية والغرب. وكما قال بعض الدبلوماسيين الإسرائيليين، عاملت نيودلهي إسرائيل كعشيقة تتواصل معها خلف الستار ولكن تتردد في الظهور معها علنا.
الهند التي تتسع بصمتها في السياسة الخارجية أصبحت الآن شريكا مرحبا به للولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين
وكان أحد أعمال مودي الأولى هو تبني إسرائيل رسميا كشريك مهم والتباهي بالعلاقة التي تجمع البلدين. وأشارت الدبلوماسية الهندية في الماضي باستمرار إلى مخاوف العرب التي حدّت من توطيد العلاقات مع إسرائيل. لكن مودي اكتشف أنه يمكنه متابعة العلاقات مع كليهما دون مشاكل.
كما كان حماس مودي المفاجئ للانخراط مع الإمارات والسعودية تحولا ملحوظا؛ فلطالما نظرت نيودلهي إلى دول الخليج على أنها قريبة جدا من باكستان والولايات المتحدة. واكتشفت الهند في عهد مودي أنه يمكنها فعل الكثير لبناء شراكات تجارية وسياسية وأمنية.
وتشكل رباعية الشرق الأوسط الجديدة من نواح كثيرة تتويجا للبراغماتية الأكبر في سياسة الهند الخارجية. كما تسلط الضوء على تخلص نيودلهي الناجح من الهواجس الأيديولوجية السابقة التي حدت من ارتباطها بالمنطقة. ولم يكن هذا ليحدث لولا ترويج الولايات المتحدة اتفاقات تطبيع العلاقات بين إسرائيل والإمارات والدول العربية الأخرى.
ويرى راجا موهان أن التركيز الأولي لرباعية الشرق الأوسط سيكون على القضايا الاقتصادية وليس على القضايا الاستراتيجية. وهناك الكثير من التقاربات بين السوق الهندية ورأس المال الإماراتي والتكنولوجيا الإسرائيلية والنفوذ الجغرافي – الاقتصادي الأميركي في المنطقة. وأحيت الهند مؤخرا مفاوضات التجارة الحرة مع الإمارات وإسرائيل لتحقيق هذه الغاية. وأصبحت الولايات المتحدة أهم شريك اقتصادي للهند.
ووعد جايشانكار ونظراؤه بوضع أجندة ملموسة وعملية للمجموعة الجديدة بسرعة. ويعني مستوى الراحة السياسية بين الحكومات الأربع أن رباعية الشرق الأوسط من المرجح أن تتقدم بشكل أسرع من الحوار الأمني الرباعي بعد إطلاقه في 2007، عندما بقي شبه ميت قبل إحيائه بعد أكثر من عقد من الزمن.
وفي حين أن الحوار الأمني الرباعي بدأ بتركيز أمني وانتقل منذ ذلك الحين إلى جدول أعمال أوسع، أعطت مجموعة الشرق الأوسط الأولوية للمواضيع غير العسكرية. ورغم ذلك لا يقلل هذا من توسيع التعاون الدفاعي الثنائي الهندي مع الولايات المتحدة وإسرائيل والإمارات.
ويقول المحلل الهندي إن ذلك قد يؤدي إلى تنسيق استراتيجي أكبر بين الشركاء الأربعة في المنطقة على المدى الطويل. وفي نفس الوقت لا تمنع مجموعة الشرق الأوسط أيا من أعضائها من التعاون مع الآخرين في المنطقة. ومن المؤكد أن الولاءات الجديدة ستظهر مع عودة الخصوم التقليديين في الشرق الأوسط إلى إقامة علاقات مع بعضهم البعض وسط التغيرات الجيوسياسية الكبيرة في المنطقة.
صحيفة العرب