تواريخ العراق السود

تواريخ العراق السود

لا تعرف من أين يبدأ تاريخ الوحشية في العراق. أمن إعدام يوسف سلمان يوسف (فهد) ورفيقيه زكي بسيم ومحمد الشبيبي، تحت إشراف السفير البريطاني، في عهد نوري السعيد في العام 1949؟ أم من مجزرة قصر الرحاب حيث قتل الملك الشاب فيصل الثاني وكل أفراد أسرته في العام 1958؟ أم من كل ما تلاها من أعمال وحشية سمحت بقتل الوصي على العرش الأمير عبدالله بن علي ونوري السعيد سحلا وتقطيعا للجثث.

الثابت الذي لا جدال فيه، هو أن “الثورية” حملت القسط الأوفر من المسؤولية عن تجييش مشاعر أمة لم تكتمل مقوماتها القانونية والأخلاقية، ولا عرفت من السياسة إلا الانفعال والغضب.

شعب لم يهدأ، بدوافع الفقر والحرمان والجهل، ما كان ليحتاج إلا أحزابا ثورية لكي يتحول إلى شعلة نار يزداد لهيبها كلما زاد عليه الفقر، وكلما لم تجد السلطات سبيلا لكسر شوكته إلا القمع.

يستطيع المرء أن يراهن على أنه لا يوجد عراقي واحد يجرؤ على القول إنه ليس ثوريا، لأن الصفة التالية التي سوف يُلحقها بنفسه، هي أنه “جاسوس” و”عميل” أو “رجعي”.

الشيوعيون لعبوا في هذا القسط، قسطهم الأوفر. فالسيد فهد، المناضل الذي تلقى تعليمه الثوري في مدرسة “كادحي الشرق” في موسكو، وتلقى تدريباته في صفوف عمال المناجم في فرنسا وبلجيكا، كان يريد، بكل بساطة، أن ينشئ حركة عمالية ثورية تبحث عن سبيل لتكرار ثورة سوفييتية في العراق على غرار ثورة أكتوبر 1917. إنما من طبقة عاملة بدائية ورثة. فكانت رثة هي الأخرى نوازعه.

والثورة، بمعناها البلشفي، كانت تظاهرات واحتجاجات وأعمال تحريض وكراهية اجتماعية وسياسية ليس ضد الطبقة الحاكمة وحدها، وإنما ضد “البرجوازية” (من قبل أن تنشأ)، وضد الإقطاع، وغيرهما من “الرجعيين” و”الخونة” و”العملاء” و”الجواسيس”.

هذه الألقاب لم تكن مجرد توصيفات عابرة، بل كانت اتهامات تؤسس لأحكام بالإعدام، مؤجلة حتى تحين الفرصة. فلما حانت، فقد كان لكل مجزرة تبرير ثوري، يدفع إلى غيره، كما يدفع الآخرين إلى القيام بمثلها عندما تحين لهم الفرصة، حتى ظل العراق يتقلب بين جمر وجمر.

ولم تزل تلك الأوصاف سائدة في الثقافة السياسية العامة وتحافظ على ذات المحمول الذي صار يبرر أعمال القتل والاغتيالات وكل ما يعرفه العراق من جرائم سياسية إلى يومنا هذا.

“ماكو مؤامرة تصير، والحبال موجودة”، كان شعارا أثيرا لحركة “المقاومة الشعبية” التي قادها الحزب الشيوعي العراقي لتصفية معارضي سلطة “الزعيم” عبدالكريم قاسم، أول رئيس للوزراء بعد الانقلاب على النظام الملكي. وكانت تعني، حرفيا وفعليا، سحل المشتبه بمعارضتهم وتعليق المشانق لهم، أو إعدامهم في محاكم “ثورية”، كانت في الواقع عمليات قتل جماعي، أرست أولى الأسس للمقابر الجماعية؛ تلك المقابر التي تبدل قاطنوها، جيلا بعد جيل، وتبدل منفذوها، وتبدلت أعذارهم، ولكن ما تبدلت طبيعتها الوحشية كعمل من طبيعة شعب لم تكتمل مقوماته الأخلاقية، ولا عرف معنى لقيم القانون، حتى اليوم.

ولأن قاسم كان رجلا شبه أمي، كمعظم المنخرطين في “السلك العسكري”، فقد وقع ضحية لاضطرابات الثورية وشعاراتها، وعجز عن أن يحكم بغير الاتكاء على دعم الشيوعيين الذين أقنعوه بأنهم هم الذين يحمون الثورة من “الأعداء” الذين يتربصون بها. فانقلب على شريكه في حركة الضباط الأحرار عبدالسلام عارف، ودفعته الشكوك والمخاوف إلى عزل كل الذين لا يؤمنون به كـ”زعيم أوحد”. وكان ذلك شعارا رفعه له الشيوعيون أملا بكسبه إلى صفوف حزبهم، قبل أن يبدأ بعزلهم والتنكيل بهم، بعدما ارتفعت نشوة “الأوحد” في رأسه.

وعندما حدثت الحركة الانقلابية التي قادها العقيد الركن عبدالوهاب الشواف في العام 1959، اندفع قاسم لينتقم منه ومن ضباط آخرين مثل ناظم الطبقجلي في حملة إعدامات ظالمة طالت حتى صغار المراتب والجنود. وقاد الجانب الأكبر من محاكماتها العشوائية ابن أخته العقيد فاضل عباس المهداوي رئيس “محكمة الثورة”.

في العام 1963 انقلب عارف على قاسم، وكان لا بد لإرث الوحشية أن ينقلب على وجهه الآخر. في الثامن من فبراير من ذلك العام انقلب “القوميون” الناصريون والبعثيون على “الشيوعيين”، قبل أن ينقلبوا على أحدهم الآخر، وأنشأوا تنظيم “الحرس القومي” وهو الميليشيا التي توسعت في أعمال القتل والاغتصاب، ثأرا لما لحقهم من أعمال تنكيل من ناحية، وتعويضا “ثوريا” من ناحية أخرى، لاسيما وأن “الثورية” نفسها أصبحت هي اللقب الشريف الذي لا يحسن بالشيوعيين أن يحتكروه لأنفسهم.

الكل كانوا “ثوريين”، وكل الانقلابات التالية كانت “ثورات”، وكل الأعمال الوحشية التي ترتكبها الميليشيات الثورية، كانت أعمالا مشروعة من وجهة نظر الأساس الأيديولوجي الذي تستند إليه.

ويستطيع المرء أن يراهن على أنه لا يوجد عراقي واحد يجرؤ على القول إنه ليس ثوريا، لأن الصفة التالية التي سوف يُلحقها بنفسه، هي أنه “جاسوس” و”عميل” أو “رجعي”.

اللاأخلاقية السياسية، وغياب كل معنى من معاني القيم الإنسانية والقانونية، ظلا هما السمة السائدة في علاقات الأحزاب “الثورية” مع بعضها البعض، وفي علاقاتها مع الشعب الذي ظلت تقوده من جحيم سياسي إلى جحيم أكثر عنفا من سابقه.

“الجيش الشعبي” و”فدائيو صدام” و”الحرس القومي” و”المقاومة الشعبية” هم الإرث الذي تقف عليه فصائل “الحشد الشعبي” الآن. وحيثما كان يتعين للتطرف أن يعلو ويعلو، فقد انتهى “الحشد الشعبي” إلى أن يتخلى عن مزاعم الوطنية التي زعمتها الحركات السابقة، ليمارس وحشيته على سياق آخر، هو الولاء لإيران وللولي الفقيه، ولو ثبتت البراهين أنه جلاد بحق شعبه وسفيه.

الجرائم ظلت هي نفسها، ولكن الأسماء وحدها هي التي تغيرت. كما تغيرت الولاءات، من طبقية إلى وطنية ومن وطنية إلى قومية ومن قومية إلى إيرانية، قبل أن تعود القهقرى إلى طائفية.

الثابت الذي لا جدال فيه، هو أن “الثورية” حملت القسط الأوفر من المسؤولية عن تجييش مشاعر أمة لم تكتمل مقوماتها القانونية والأخلاقية، ولا عرفت من السياسة إلا الانفعال والغضب

التواريخ السود في العراق تكاد تكون هي كل تاريخه المعاصر. وسجل الوحشية هو الذي يحشد سطور الجريمة ويغمس أقلامها بحبر من الدم.

محاولة اغتيال مصطفى الكاظمي، رغم أنها يفترض ألا تكون، بمعناها الجرمي شيئا مختلفا عن أعمال الاغتيالات الأخرى، إلا أنها وقعت ضد قابض على سلطة الجمر، لعله يستطيع أن يتخذ السبيل الوحيد الصحيح، لوقف هذا المسار الكارثي، ووضع حد لهذه التواريخ السود، بحل كل الميليشيات، وإنشاء متحف يجمعها ويُحيلها إلى ما فعلت عبر كل فصول المأساة التي ظل يعيشها “ثورة” بعد أخرى.

الشكوك بقدرة الكاظمي على اجتراح عمل بهذا الحجم، كثيرة ومفهومة. ولكنها فرصة، لو جاز لها أن تضيع، فإن سجل التواريخ السود سوف يواصل كتابة رواية الوحشية العراقية بالحبر ذاته، حتى تحين فرصة أخرى، أسوأ.

العرب