تغيرت الدنيا في الشرق الأوسط ومن حوله. وليس المشهد الحالي بما فيه من صور لمصلحة هذا الطرف أو ذاك وعلى حساب هذا الطرف أو ذاك، هو المشهد النهائي.
فما فعله الغزو الأميركي لأفغانستان والعراق يضيف إليه ما فعله ويفعله الانسحاب. وما قاد الغزو، وهو تفجيرات سبتمبر (أيلول) في نيويورك، وحسابات تغيير العالم في خطط المحافظين الجدد وجنون القوة، سبقته أحداث مهمة صنعت متغيرات هائلة. الحدث الأبرز والأهم كان سقوط الاتحاد السوفياتي الذي جاء بعد ثلاثة أحداث مؤثرة في عام واحد، معاهدة كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، وثورة الخميني على الشاه، والغزو السوفياتي لأفغانستان. كامب ديفيد خربط الحسابات في الصراع العربي-الإسرائيلي. ثورة الخميني الإسلامية المذهبية فتحت دفاتر حسابات قديمة في التاريخ وشقت درباً لزعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط. والغزو السوفياتي أدى إلى نشوء “القاعدة” وظاهرة”الأفغان العرب”. أما الغزو الأميركي، فإنه فتح الباب واسعاً أمام النفوذ الإيراني ثم ولادة “داعش”. وأما بعض ما قادت إليه تلك الأحداث المهمة، فإنه إعطاء دفعة قوية لحركات الإسلام السياسي التي استخدمت سلاح الإرهاب.
على مدى عقود بقي الصراع العربي-الإسرائيلي القضية المركزية في الاهتمامات العربية. وخلال سنوات من المد الناصري جرى التركيز ضمن استراتيجيات الصراع العربي-الإسرائيلي على الصراع بين ما سميت “الأنظمة التقدمية والأنظمة الرجعية”.
لكن الاهتمامات بدأت تتبدل بعد كامب ديفيد، من مرحلة الحروب إلى مرحلة التسوية السياسية. ومن التخلي عن الحريات من أجل المعركة مع العدو كما من أجل الخبز إلى المطالبة بالحريات والتنمية ونوعية التعليم العالي. فالأنظمة التي صادرت الحرية فشلت في ربح المعركة وتقديم الخبز. فضلاً عن تقدم الخطر الإيراني والخطر التركي إلى جانب الخطر الإسرائيلي. لا فقط في احتلال الأرض، بل أيضاً في “احتلال” الشعب. إذ أسهمت إسرائيل في تقوية العنصرية، وعملت إيران على تقوية المذهبية، وأعادت تركيا كابوس السلطنة تحت عنوان “العثمانية الجديدة”.
اقرأ المزيد
ما بعد القرون الذهبية: من إخوان الصفا إلى “داعش”
من الديمقراطية إلى السلطوية الانتخابية
عذاب المهاجرين سلاح في الصراعات الجيوسياسية
حين اندلعت ثورات ما سمي “الربيع العربي”، فإنها حدثت على العموم في البلدان “التقدمية”. وهي انتهت بكوارث استراتيجية وجيوسياسية. ففي مصر صادر الإخوان المسلمون الثورة وبدأوا “أسلمة” الدولة قبل أن ينتفض الشعب والجيش في ثورة عارمة استعادت الدولة الوطنية. تونس مضروبة بلعنة “الإخوان”. ليبيا في فوضى. سوريا ممزقة بين قوى في الداخل وجيوش من الخارج. السودان يواجه انقلاباً عسكرياً جديداً. واليمن في محنة الحوثيين المدعومين من إيران. وحدها دول مجلس التعاون الخليجي تتقدم.
والمشهد الأوسع بالغ التعبير في التغير. من نظام الجبارين أيام الحرب الباردة إلى نظام القطب الواحد. ومن الأحادية الأميركية إلى تعدد الأقطاب، وصولاً إلى صعود القوى الإقليمية. أميركا انسحبت من أفغانستان وتقترب من الانسحاب من العراق. ولا أحد يعرف متى تنسحب من شمال شرقي سوريا، وهي مصرة على تخفيف التزاماتها في الشرق الأوسط لتوجيه جهودها نحو الشرق الأقصى. روسيا عادت إلى دورها في المنطقة، وهي تتمدد عسكرياً في سوريا، وتعمل على قاعدة عسكرية في السودان، ولها مرتزقة في ليبيا. الصين لا تزال في مرحلة التمدد الاقتصادي قبل أن تكمل نفوذها العسكري في بحر الصين والمحيط الهادئ.
إيران تتمدد عسكرياً بشكل مباشر في سوريا عبر الحرس الثوري ووكلائها من الميليشيات. وتبني “ستة جيوش” في المنطقة للدفاع عنها أو العمل لمشروعها الإقليمي في لبنان والعراق وسوريا واليمن وغزة. تركيا تتمدد عسكرياً في سوريا والعراق وليبيا وشرق المتوسط. وإسرائيل تتمدد استراتيجياً في المنطقة وصولاً إلى القوقاز من دون أن تتخلى عن احتلال الأرض الفلسطينية والسورية.
والتحديات كبيرة أمام العرب الذين عليهم استعادة الدور عبر مزيد من التضامن وبناء القوة والتنمية الاقتصادية والبشرية. فهم يملكون موارد أكثر بكثير من طهران وأنقرة وتل أبيب. وعدد السكان والمساحة الجغرافية العربية أكبر من جغرافيا القوى الإقليمية الثلاث وسكانها. والثروات الاقتصادية ازدادت أهميتها بالثورة العلمية التي حازها المتخرجون بالملايين من الجامعات الراقية. ومن الوهم أن تربح القوى الإقليمية الصراع الجيوسياسي مع العرب.
اندبندت عربي