في ظل فشل النظام السوري في فعل أي شيء تجاه الوضع والنفوذ التركي في شمال البلاد، أعاد إحياء مطالبه بمحافظة هاتاي التركية والمعروفة بالأدبيات السورية بـ”لواء اسكندرون”، في محاولة لاستخدام هذا الملف كورقة ابتزاز سياسي. وهو ما قوبل بتلويح تركي بـ”الانتقام” من النظام، علماً أن مطلبه يشكّل تجاوزاً لاتفاقية وقّعها في عام 1998 اعتُبرت تنازلاً واضحاً عن لواء اسكندرون، الذي كان السوريون يعدّونه جزءاً من بلادهم تنازلت عنه فرنسا لتركيا في عام 1939. وكرر مجلس الشعب (البرلمان) التابع لنظام بشار الأسد، أواخر الشهر الماضي، المطالبة بمحافظة هاتاي التركية، موضحاً في بيان أن “اللواء السليب جزء لا يتجزأ من التراب السوري، والسوريون سيبذلون الغالي والنفيس حتى يعود الحق السليب إلى أصحابه”. ورداً على ذلك، وصف وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، بيان مجلس الشعب بـ”المتهور”، مضيفاً في حديث له أول من أمس الجمعة، من ولاية هاتاي الحدودية مع سورية، مع قادة الوحدات العسكرية التركية المنتشرة على الحدود وفي شمال سورية عبر دائرة تلفزيونية مغلقة: “نسمع تصريحات متهورة ولا معنى لها بحق ولاية هاتاي، إنها متهورة لا فرق بينها وبين هذيان شخص غارق في غيبوبة”. وأكد أكار أن لا مطمع لبلاده في أراضي أحد، مضيفاً: “ولكن القارئ للتاريخ يمكنه أن يشاهد ما حل بمن كان يطمع في أرضنا”.
وكانت وزارة الخارجية التركية قد وصفت بيان مجلس الشعب بأنه “وقح وغير قانوني”، حسب المتحدث باسم الوزارة تانجو بيلغيتش، الذي أكد ان بلاده ترفض بشدة البيان، معتبراً أن هذا المجلس “لا يمثل الشعب السوري بأي شكل من الأشكال، ويفتقر إلى الشرعية الديمقراطية، ويستهدف وحدة أراضي بلادنا”. كما وصف البيان بأنه “مظهر آخر من مظاهر الوهم الذي يعيشه النظام”، وقال إن تركيا “تمتلك العزيمة والتصميم في الوقت الحالي وفي المستقبل، للانتقام من الأطماع الدنيئة التي تستهدف وحدة أراضيها والرد على كافة أنواع التهديدات التي تهدد مصالحها الوطنية”.
اعترف النظام في اتفاقية عام 1998 بحقّ تركيا في لواء اسكندرون
وجاء بيان مجلس الشعب في ظل تشنج سياسي وعسكري في الشمال السوري، مع وعيد تركي بالتوغل مجدداً في الأراضي السورية لمطاردة “قوات سورية الديمقراطية” (قسد) المتهمة من قبل أنقرة بتهديد الأمن القومي التركي. ومن الواضح أن النظام يستخدم مسألة اللواء كورقة ابتزاز سياسي تؤكد عجزه، مع تحوّل البلاد إلى مناطق نفوذ مباشر لعدة قوى منها الجانب التركي الذي يفرض سيطرة على جانب كبير من الشمال السوري. واعتبر المحلل السياسي التركي طه عودة، بيان مجلس الشعب محاولة من النظام السوري لـ”القفز عن مشاكله الداخلية وصرف اهتمام الخاضعين لسيطرته إلى هذه المسألة”، مضيفاً في حديث مع “العربي الجديد”: “برلمان الأسد لا يعبّر عن السوريين”. وهذه ليست المرة الأولى التي يطالب بها النظام السوري بـ”لواء اسكندرون”، وكان وزير خارجية النظام، الراحل وليد المعلم، الذي توفي العام الماضي، قد قال أثناء وجوده في الساحل السوري في عام 2018 إن “لواء اسكندرون أرض سورية، وستعود لنا، رغماً عن تركيا”.
من جهته، رأى الباحث السياسي في مركز “الحوار السوري” محمد سالم، في حديث مع “العربي الجديد”، أن النظام “يحاول تهديد تركيا والضغط عليها بسبب موقفها الصلب في إدلب وعجز النظام عن فعل أي شيء تجاه الوضع في الشمال السوري”. ووصف تهديدات النظام السوري بـ”الفارغة”، مشيراً إلى أنها “تعكس عجزه الكبير حيال ما يجري في سورية”. وأضاف: “نظام الأسد يحاول العبث بأمن تركيا وخلط الأوراق من خلال دعم بعض الانفصاليين على أسس طائفية في لواء اسكندرون، ما يؤكد مجدداً أن التطبيع مع هذا النظام خطأ فادح لأنه يشكل تهديداً حقيقياً لأمن دول المنطقة”.
وأعاد بيان مجلس الشعب لدى النظام وتوالي الردود التركية الغاضبة، إلى واجهة المشهد مسألة لواء اسكندرون الذي كانت تركيا قد ضمته إلى أراضيها في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1939، وبقي منطقة متنازعا عليها بين أنقرة ودمشق حتى عام 1998. وخضع لواء اسكندرون لمساومات سياسية بين عامي 1923 و1939 بين الحكومتين التركية والفرنسية التي كانت سورية خاضعة لانتدابها في ذاك الحين، وكان اللواء ضمن الأراضي السورية وفق معاهدة الاستقلال التي وُقعت مع الفرنسيين في عام 1936.
النظام يحاول تهديد تركيا والضغط عليها بسبب موقفها في إدلب
وأدى انهيار “عصبة الأمم” مع بدء الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) إلى ضم اللواء إلى الجانب التركي، بعد أن نظم الفرنسيون استفتاءً في الإقليم أيد المشاركون فيه الانضمام إلى تركيا في ظل مقاطعة السكان العرب للاستفتاء. وتحول اللواء بعد ذلك إلى محافظة تركية، إلا أن الحكومات والأنظمة السورية المتعاقبة كانت ترفض فصله عن سورية، لأنه مخالف لشروط الانتداب الفرنسي على سورية، الذي بدأ في عام 1920 وانتهى في عام 1946، والتي كانت تنص على المحافظة على الأراضي السورية ووحدتها.
ويقع لواء اسكندرون على خليج اسكندرون في الزاوية الشمالية الشرقية للبحر الأبيض المتوسط، ويتصل من الشرق والجنوب الشرقي بمحافظتي إدلب وحلب، ومن الجنوب بمدينة اللاذقية، ومن الشمال بمحافظة غازي عنتاب التركية. وتبلغ مساحته 4800 كيلومتر مربع، ويضمّ عدة مدن، هي: أنطاكيا (عاصمة محافظة هاتاي)، واسكندرون، وأوردو، والريحانية، والسويدية، وأرسوز.
ويُنظر إلى اتفاقية أضنة المبرمة بين النظام السوري والجانب التركي في عام 1998 إثر تدهور العلاقات بين الطرفين بسبب توفير حافظ الأسد ملاذاً آمناً لزعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، على أنها تنازل رسمي عن لواء اسكندرون. ونصت الاتفاقية على اعتبار الخلافات الحدودية بين البلدين “منتهية” بدءاً من تاريخ توقيع الاتفاق، من دون أن تكون لأي منهما أي “مطالب أو حقوق مستحقة” في أراضي الطرف الآخر. وتوقف النظام بعد ذلك عن طباعة أو نشر خرائط رسمية يظهر فيها لواء اسكندرون ضمن حدود سورية.
وطيلة العقد الأول من الألفية الجديدة غابت قضية لواء اسكندرون بشكل كامل عن الخطاب الرسمي السوري. ومع بدء الثورة السورية في عام 2011 واصطفاف الحكومة التركية إلى جانب مطالب السوريين بالتغيير، بعد أن رفض بشار الأسد نصائح أنقرة بالإصلاح، عاد النظام السوري لاستخدام مسألة اللواء كورقة ابتزاز سياسي، بل ذهب إلى أبعد من ذلك حين شكل ما سمّي بـ”المقاومة السورية لتحرير لواء اسكندرون”. وهي مليشيا تزعمها أحد المطلوبين لقضايا جنائية في تركيا، معراج أورال. ومارست هذه المليشيا أعمالاً إجرامية بحق السوريين خصوصاً في منطقة بانياس على الساحل السوري، كما قامت بعدة عمليات في جنوب تركيا.
العربي الجديد