قد لا يكون من الحصافة نسخ التجربة التاريخية في الاستقطاب الدولي إبان الحرب العالمية الثانية، لفهم ما يجري اليوم من استقطاب دولي حاد، لأن الحدث الراهن لم يكتمل بعد، ولأن الشروط القائمة اليوم تختلف كثيراً عن نظيرتها في أواسط القرن الماضي. مع ذلك لا نستطيع الانفكاك، في تحليلنا لأي حدث راهن، من مقارنته بأحداث مشابهة جرت في الماضي، لأنها تشكل دليلاً لا نملك غيره وضوءًا في الظلام الذي يكتنف الحاضر والمستقبل.
والحال أن هناك ما يشبه الإجماع حول كون المرحلة التي نمر بها في العلاقات الدولية مرحلة انتقالية تعاد فيها صياغة أوزان القوى الدولية والعلاقات فيما بينها وتوزيع الحصص في المصالح والثروات. فقد مضى اليوم نحو ثلاثة عقود على النظام العالمي الذي تلا انتهاء الحرب الباردة وقام على «الأحادية القطبية» بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، ويرى المتضررون من هذا التفرد الأمريكي أنه آن الأوان لإعادة النظر بهذا النظام وإقامة نظام متعدد الأقطاب.
الواقع أن هذه الدعوة ليست ابنة اليوم، بل طرحت منذ بداية التفرد الأمريكي، لكنها ظلت مجرد دعوة بلا قدرة على فرضها، أما اليوم فيبدو أن المسألة الأوكرانية ستشكل نقطة فصل في تحديد ملامح النظام الجديد. فقد تبلورت التحالفات على جانبي جبهة النزاع بوضوح: الولايات المتحدة وحلفاؤها من جهة، وروسيا والصين وحلفاؤهما من جهة أخرى. روسيا عززت قواتها على حدود أوكرانيا وطرحت شروطها على الولايات المتحدة لعدم غزو أوكرانيا، في حين رفضت واشنطن تلك الشروط وأرسلت قوات إلى أوكرانيا في نوع من التحدي.
ومن وجهة نظر روسيا بوتين تشكل أوكرانيا «حديقتها الخلفية» وتعتبر أي محاولة لضمها إلى حلف شمال الأطلسي تعزيزاً لتطويق روسيا وتهديداً لأمنها القومي. في حين يرى الناتو أن من حقه التمدد شرقاً بضم أي دولة تريد ذلك.
تواجه الصين وضعاً مشابهاً بخصوص تايوان التي تعتبرها جزءًا منها وتهدد بضمها، وإن كان ضمها إلى حلف الناتو غير مطروحاً كحالة أوكرانيا. لكن تزويد الأمريكيين أستراليا بغواصات نووية في إطار «الشراكة الأمنية الثلاثية» (إيكيوس) المعلن عنها العام الماضي بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، والدعم الغربي لحق تايوان في إقامة دولتها المستقلة، يشكلان تهديداً للأمن القومي من وجهة نظر القيادة الصينية.
هناك ما يشبه الإجماع حول كون المرحلة التي نمر بها في العلاقات الدولية مرحلة انتقالية تعاد فيها صياغة أوزان القوى الدولية والعلاقات فيما بينها وتوزيع الحصص في المصالح والثروات
هذه الخلفية السياسية ـ الأمنية المشتركة دفعت بالصين وروسيا إلى إعلان تحالفهما في مواجهة الضغوط الغربية، في بيان صدر عن رئيسي البلدين، شي جين بينغ وفلاديمير بوتين، بمناسبة افتتاح الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين في الرابع من شباط الجاري، وحمل البيان عنواناً طموحاً: «بيان مشترك بين الاتحاد الروسي وجمهورية الصين الشعبية بشأن العلاقات الدولية التي دخلت عصراً جديداً والتنمية العالمية المستدامة» وتضمن البيان نداءً موجهاً إلى دول الحلف الأطلسي بالتخلي عن «مقارباتها الإيديولوجية الخاصة بالحرب الباردة» في إشارة ضمنية إلى النزاع حول أوكرانيا وكذا فيما يتعلق بتايوان.
إضافة إلى تكريس البيان التعاون السياسي والأمني بين البلدين، ثمة إشارات إلى مواجهة العقوبات الاقتصادية المفروضة عليهما من خلال إقامة نظام مصرفي يسعى إلى التحرر من التبعية للدولار في المعاملات التجارية، تحسباً لطرد البلدين خارج نظام التحويلات المصرفية المعروف بـ«سويفت» الذي تهددهما به واشنطن وحلفاؤها في حال حدث غزو روسي لأوكرانيا أو ضم صيني أحادي لتايوان.
لماذا يشبه التحالف الروسي ـ الصيني تحالف دول المحور، ألمانيا وإيطاليا واليابان، في الحرب العالمية الثانية؟ يقوم إغراء هذا التشبيه على النزعة التوسعية والعدوانية الروسية التي تأكدت في أكثر من مناسبة في العقدين الماضيين، ولم يكتف الروس بما يعتبرونه حديقتهم الخلفية في الدول التي استقلت عنها بعد تفكك الإمبراطورية السوفييتية، بل عززوا تمددهم العسكري في مناطق بعيدة عن حدودها كما في سوريا وليبيا. أما الصين فلا طموحات توسعية معلنة لديها، بالمعنى الاستعماري التقليدي، باستثناء موضوع تايوان الذي تعتبره أصلاً جزءً من الصين. لكن طموحاتها الاستعمارية بمعنى النمو الاقتصادي ومد النفوذ الصيني إلى مناطق شاسعة بسلاح الاقتصاد، هو طموح يكتسب مشروعيته من العولمة السائدة، فالصين ملتزمة بقواعد اللعبة في هذا الإطار.
من وجهة نظر الليبرالية السياسية يتشابه النظامان الروسي والصيني في سلطويتهما، على رغم الاختلاف بينهما في العقيدة السلطوية، الشيوعية في الصين والقومية في روسيا.
وهذا هو أساس تشبيه التحالف بينهما بـ«المحور» في الحرب العالمية الثانية الذي تشكل من دول تشترك في كونها رأسماليات تأخرت في النمو فلم تنل حصتها من التوسع الاستعماري كما فعلت بريطانيا وفرنسا، فأشعلت نار الحرب للمطالبة المتأخرة بحصتها. ينطبق هذا التوصيف على العملاق الاقتصادي الصيني، أما روسيا فلم تشهد نهضة اقتصادية مماثلة لتندفع نحو مغامرات عسكرية خارجية، بل هي مدفوعة بـ«الكرامة الروسية الجريحة» التي يمثلها فلاديمير بوتين خير تمثيل.
كأننا إذن أمام عملاق اقتصادي وتكنولوجي بلا عضلات عسكرية، و«بلطجي» روسي يملكها، فيكمل أحدهما الآخر.
على الجانب الآخر من «الجبهة» نجد الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين الذين طال استرخاؤهم في «جنة الليبرالية» والثراء والرخاء، دول أرهقتها الصراعات القديمة وتسعى إلى بقاء الأمور على ما هي عليه في العلاقات الدولية، غير مستعدة لخوض حروب كبيرة مكلفة، ولا لمواجهة واجبات والتزامات زعامة النظام الدولي، لكنها في الوقت نفسه لا تسمح للقوى الصاعدة بالحصول على نصيب أكبر من كعكة العالم
بكر صدقي
القدس العربي