معروف أن الأمم المتحدة اتخذت قرارات عدة في الجمعية العامة بخصوص الحفاظ على الوضع التاريخي في القدس، ودعت الكيان الصهيوني مراتٍ إلى احترام الاتفاقات الدولية، بما يتعلق بالأراضي التي تقع تحت الاحتلال، وأصرّت على الحفاظ على المعالم المقدسية، وعلى عدم المساس بالحضارة القائمة فيها. إسرائيل لم تعترف بقرارات الجمعية العامة، والتي كانت الولايات المتحدة تعارضها. صحيح أن إدارة الولايات المتحدة لم تتخذ خطوات دبلوماسية، حتى الآن، توافق فيها على اعتبار القدس العاصمة الأبدية لدولة الاحتلال، لكن الكونغريس الأميركي اعترف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، وطالب الإدارة بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس. ولا يترك الكونغرس فرصة للتعبير عن معاداته الشعب الفلسطيني إلا استغلها.
إلى الآن، ساهم الوضع الدولي في حماية المسجد الأقصى والمقدسات الإسلامية والمسيحية عموماً، ليس حباً في الفلسطينيين أو العرب، وإنما مخافة تفجر الأوضاع في المنطقة. الدول الغربية الاستعمارية التي تشمل الولايات المتحدة ودولاً في أوروبا ليست معنية بعدم الاستقرار في المنطقة العربية الإسلامية، لما يجره ذلك من أضرار على مصالح هذه الدول، وخصوصاً فيما يتعلق بالأمور الأمنية والاقتصادية. الدول الغربية معنية، أيضاً، بالاستقرار من أجل الكيان الصهيوني، لأن عدم الاستقرار يهدد أمن الكيان وشعور مواطنيه بالأمان، وإذا شعر المواطنون بعدم الأمان، فإن عدداً منهم سيفكر بالرحيل عن أرض فلسطين، وهذا ما لا يريده الغرب. وقد يؤدي الاعتداء على الأقصى بالهدم أو التقسيم الزماني والمكاني إلى حالة عدم استقرار، كما
شهدنا، أخيراً، من خلال الحراك الشعبي الفلسطيني، وهو ما يفسر ضغوط أهل الغرب على الكيان الصهيوني، لتجنب توتير الأوضاع بانتهاك حرمات المقدسات. وللعلم، كانت بريطانيا تمنع اليهود من الصلاة عند حائط البراق الذي يسميه اليهود حائط المبكى، مخافة حصول اقتتال ديني بين العرب والصهاينة. وقد خبرت بريطانيا هذا الأمر عام 1929 عندما أقدم بعض اليهود على الصلاة لدى حائط البراق. نشب في حينها قتال عنيف بين الطرفين، العربي واليهود، أدى إلى مقتل مئات. ولولا محاولات الاحتواء التي أقدمت عليها القيادات السياسية الفلسطينية لتدهورت الأوضاع إلى درجة إحراج بريطانيا التي كانت منتدبة على فلسطين أمام دول العالم.
لكننا، نشهد، الآن، انعطافاً في الوضع الدولي، والذي يقدم هدية كبيرة للكيان والمستوطنين، وذلك من خلال اتفاق يقضي بالسماح لغير المسلمين بزيارة باحات المسجد الأقصى. المفروض أن الفلسطينيين هم الذين يقرّرون، بمحض إرادتهم، من يحق له زيارة المقدسات الإسلامية، ومن لا يحق له، لكن الاتفاق يتجاهل الفلسطينيين، ويضع الأمر بيد دول ليست إسلامية، في مقدمتها الولايات المتحدة والكيان. يعبر هذا عن خيبة كبيرة إن حصل، لأن الحراك الفلسطيني قد بدأ دفاعاً عن الأقصى ومن أجله، ولم يبدأ من أجل تسهيل انتهاك الأقصى من المستوطنين. وفق كلام كيري، يملك المستوطنون حرية الزيارة للأقصى وباحاته من دون تدخل الفلسطينيين، وستكون زياراتهم محمية دولياً.
يشكل حديث كيري حول الزيارة المسموح بها خطوة جديدة على الساحة الدولية، يمكن أن تتطور مستقبلاً ليصبح الأقصى مكاناً إسلامياً ويهودياً، أو يهودياً فقط. مثلما حدث لفلسطين. كانت فلسطين عربية بداية، ثم انتقلت إلى مكان آخر، لتصبح عربية ويهودية في آن واحد، ثم أصبحت يهودية، على الأقل في نظر الولايات المتحدة. إذا تم قبول اتفاق كيري نتنياهو، سيستمر الوضع الدولي في قضم الأقصى، كما فعلت إسرائيل في الحرم الإبراهيمي وفي القدس وفي الضفة الغربية. يؤدي القضم التدريجي غير المستفز إلى تحقيق أهداف الصهاينة، من دون أن تكون هناك ردة فعل فلسطينية قوية. وكما وصل الفلسطينيون إلى الاعتراف بالكيان وخدمته أمنياً، يمكن أن يعترفوا بتدرج الهيمنة على المسجد الأقصى. هذا أمر خطير، لا بد من رفضه قولاً وعملاً، وعلى الفلسطينيين ألا يكتفوا بالبيانات والشجب والاستنكار.
أما آلات التصوير الخاصة بباحات المسجد، فستكون تحت السيطرة الصهيونية، ما يعني إقصاء الفلسطينيين واحتكار الصهاينة الرقابة على المسجد وساحاته. ولهذا، على الفلسطينيين أن يتسلحوا بالوعي الكافي، وألّا يبالوا بالضغوط الأميركية التي يمكن أن تمارس عليهم، خصوصاً الضغوط المالية.
وأخيراً، لا بد من التنويه إلى أن دول العالم الاستعمارية هي التي صنعت الكيان الصهيوني، والتي ساهمت في تهجير الفلسطينيين من وطنهم. وعلى الرغم من أن هذه الدول صوتت إلى جانب حق العودة المنصوص عليه في قرار الجمعية العامة رقم 194، إلا أنها لا تنبس ببنت شفة حول هذا الحق الآن، وهي إجمالاً تعتبر حق العودة انتهى مفعوله، وعلى اللاجئين الفلسطينيين أن يتدبروا أمورهم. ولا تتردد بعض هذه الدول في وصف الفلسطينيين بالإرهابيين، ويرون أن الكيان الصهيوني المجرم يدافع دائماً عن نفسه. وليست دول العالم أهلاً للثقة، خصوصاً التي تسمي نفسها المجتمع الدولي، وإذا كان للفلسطينيين أن يتعاملوا مع المستوى الدولي، فإن الطريق الأنسب تتمثل في العمل من خلال المجتمع الدولي الذي تمثله الجمعية العامة للأمم المتحدة.