الاقتصاد التونسي ضحية التفكير المُعلّب

الاقتصاد التونسي ضحية التفكير المُعلّب

عندما تريد دولة إغراء أيّ مستثمر أجنبي لإقامة مشروع فإنها ستقدم له أرضية صلبة هي مزيج من المعايير الأساسية تتمثل في استقرارها السياسي وبنيتها التحتية اللوجستية القوية والتسهيلات المتنوعة إداريا وماليا لأنه في النهاية جزء أساسي في تنمية الاقتصاد.

والأهم من ذلك أن تجعل ذلك المستثمر يشعر وكأنه أحد أبناء البلد كما تفعل دول عربية حاليا مثل الإمارات والمغرب والسعودية وسلطنة عمان التي يعي صناع القرار فيها مدى أهمية هذا القطاع في تقليص أعداد العاطلين وتأثيره على التوازنات المالية.

لكن ماذا عن تونس؟ هل لديها هذه العقلية؟ قد لا يبدو ذلك. ولكن من الممكن أن تكتسب تلك العقلية إن توفرت الإرادة وقدم مسؤولوها ما يمكن أن يقنع المستثمرين إذا فكروا من خارج الصندوق الذي وضعوا أنفسهم داخله.

لقد اتخذ مسار الاستثمارات الخارجية في تونس قبل 2011 أهمية بالغة للمسؤولين في السلطة، إذ بإقرارهم قانونا للاستثمار في 1993 الذي كان مفتاحا للدولة لفتح السوق أمام تدفق رؤوس الأموال الخارجية بأقصى قدر ممكن عبر قائمة من الحوافز، رسمت الدولة علاقة مع الشركاء وبدأت بالفعل رؤوس الأموال تتوافد.

تونس عاشت على شفا جرف الفوضى على مدار عشر سنوات كانت مساوئها الاقتصادية أكبر من منافعها

للتغيير ولا شيء سواه بدا أسلوب حكومات الرئيس الراحل زين العابدين بن علي قاصرا على أولئك السياسيين الذين جاؤوا خلال العشرية الماضية. وبسبب حساباتهم السياسية الضيقة لكسب أصوات الشعب في الاستحقاقات الانتخابية وفروا قانونا بديلا ظاهريا يعتبر جيدا إلا أنه لم يعط أي نتائج تذكر بعد خمسة أعوام من إقراره.

فرهان المسؤولين طيلة العقود الثلاثة الأخيرة على الاستثمار الأجنبي لدفع النمو – مع الأخذ في الاعتبار التفاوت في تحقيق النتائج من حكومة إلى أخرى ومن عام إلى آخر – كان في المحصلة أقل ما يمكن اعتباره أنه متواضع جدا إن لم نقل ضعيف جدا لعجزه عن معالجة مسألتين أساسيتين هما سوق التوظيف والاحتياطات النقدية.

منذ 2016 تاريخ إقرار قانون الاستثمار الجديد ظل مناخ الأعمال وضبابية المشهد السياسي في صراع مما قلص من فرص الاستثمار. ورغم أنه تم تأسيس هيئة للاستثمار في 2017 ظلت البيروقراطية جاثمة على عقلية الإداريين في الجهات الحكومية ناهيك عن تصاعد منسوب المطالب الاجتماعية بالنظر إلى كمية الاحتجاجات والإضرابات.

في عقد التسعينات وبداية الألفية الثالثة كانت ثمة جدية في استقطاب أكبر قدر من الشركات الأجنبية فشهدنا مثلا دبي القابضة تستثمر في اتصالات تونس، وبدأ أقدم مستثمر بالبلاد ليوني لتصنيع مكونات للسيارات يتوسع في نشاطه، لمعرفة المسؤولين آنذاك بمدى قدرة نشاط الأعمال على تغيير المؤشرات السلبية إلى جانب ثلاثة قطاعات استراتيجية هي السياحة والخدمات والفوسفات.

ومع أن الوضع اليوم يبدو معقدا بالنظر إلى ظروف الجائحة وما أعقبها من تحول في المشهد السياسي منذ منتصف 2021، إلا أن عصا الاستثمار التي لا تشكل سوى 4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلد قد تكون إحدى الأدوات الرئيسية التي ستبني عليها حكومة نجلاء بودن وبدعم من الرئيس قيس سعيد ركائز النمو.

ولعل كلام وزير الاقتصاد محمد سعيد مؤخرا عن تعديل قانون الصرف الذي لم تجرؤ تسع حكومات على الاقتراب منه بعد الإطاحة بالرئيس الأسبق الراحل زين العابدين بن علي بما يتضمنه من بنود باتت بالية من قبيل التعامل بالعملة المحلية والحسابات بالعملة الصعبة قد تبدو مؤشرا على أن ثمة ما يدعو إلى التفاؤل للنظر بعقلية جديدة لقطاع الاستثمار.

تصريحات الوزير تصب في قناة واحدة، وهي أن الحكومة على قناعة بأن قانون الصرف بوضعه الحالي يشكل عقبة، وأن الوقت قد حان لتحفيز المستثمرين بدل جعلهم ينفرون، والسماح لهم بالنشاط بمرونة وبتحويل أموالهم دون قيود، وبالتالي زيادة إيقاع إنعاش الأنشطة الصناعية والتجارية وغيرها من القطاعات التي من المفترض أنها العمود الفقري للاقتصاد.

قياسا بعملات أخرى في منطقتنا العربية يعد الدينار التونسي الناجي الوحيد من مقصلة فوضى الاقتصاد جراء رياح “الربيع العربي”، فانخفاض سعره بأجزاء مئوية بسيطة خلف الصفر ليس مشكلة، ولا يعني أنه فقد قيمته على اعتبار أن سعر صرف الدولار يتأرجح بين 2.7 و3 دينارات كما أن اليورو يتأرجح بين 3 و3.5 دينار طيلة العشرية الأخيرة. ومع ذلك يبدو أنه يشكل عائقا.

المانحون الدوليون يرون أن ثمة ضرورة لتركه حرا وخاضعا لنواميس العرض والطلب لتحفيز المستثمر أولا، وفي الوقت ذاته دعم الصادرات. حتى أن صندوق النقد الدولي أبدى استغرابه من قوة الدينار في 2018. ولطالما دعا تونس إلى تعويمه لكن السلطات النقدية لا ترى حاجة إلى ذلك. ولذا نلحظ أن البنك المركزي يتدخل بشكل غير مباشر في السوق النقدية ليكون المصد الأخير لأي كارثة محتملة.

اليوم تونس تحتاج إلى ابتكار أفكار من خارج الصندوق وغير تقليدية بعيدا عن استراتيجية “المزيد من الفنادق” التي طبعت الاستثمار الأجنبي خلال سنوات طويلة. ومع أن السياحة مهمة كونها قطاعا استراتيجيا إلى جانب الخدمات، لكن تنويع سلة الاستثمار خيار يجب أن يأخذه المسؤولون على محمل الجد.

تكمن كلمة السر لتحقيق هذا الهدف في الانفتاح الكامل والتفكير بعقلية تبادل المنفعة وليس أن يحصّل طرف مكاسب على حساب طرف آخر. ومع ضياع الأوليات في السابق والتي كانت ستجعل من الاستثمار محركا ودعامة رئيسية للاقتصاد من بوابة التصدير كما يفعل المغرب، فإن الأمل الوحيد اليوم هو ترجمة الكلام الذي نسمعه من المسؤولين إلى أفعال حقيقية وواقعية.

بينما يتسم العالم بالدفع السريع لمسيرة العولمة الاقتصادية حتى مع قيود الإغلاق، تفتقر منظومة جذب الاستثمار في تونس بصفة كلية إلى الأفكار المنهجية القائمة على المستوى الاستراتيجي والتنمية طويلة المدى، وبالتالي فإن القيام بالبعض من التعديلات والترتيبات في المنظومة الحالية سيكون أمرا ضروريا للغاية.

وعلى المسؤولين اليوم استغلال الفرصة وأن يعوا جيدا بأن عليهم الالتزام بهيكل متماسك قائم على مبادئ واضحة، كما يجب أن تحمل الدولة على عاتقها تقديم رسائل إيجابية للخارج وأن تتمتع بشمولية ورؤية متكاملة حتى تتمكن من نفض الغبار على تصنيفاتها السلبية لدى وكالات الائتمان الرئيسية باعتبارها بوصلة أيّ مستثمر.

تونس عاشت على شفا جرف الفوضى على مدار عشر سنوات كانت مساوئها الاقتصادية أكبر من منافعها. وبسبب يافطة الديمقراطية الناشئة وحقوق الإنسان والحريات، التي صدّع السياسيون من مختلف انتماءاتهم الأيديولوجية بها رؤوسنا، فوتت الدولة على نفسها جني المليارات من الدولارات، وباتت طاردة للأعمال.

تلك الأموال كانت ستدعم المالية العامة وكانت ستذهب لو أحسنت كل الحكومات استغلالها إلى مناطق الظل، التي لا تزال تنتظر قطار التنمية الذي قد لا يأتي لو لم تصلح الدولة سياساتها النقدية والمالية والدعم الحكومي ونظام الضرائب وطريقة الاستثمار قبل فوات الأوان لتجنب ما هو أسوأ.

العرب