“جاء العراق، ثم جاء التاريخ”، ولكن ماذا بقي من العراق والتاريخ؟

“جاء العراق، ثم جاء التاريخ”، ولكن ماذا بقي من العراق والتاريخ؟

هاكرز عراقيون تمكنوا فيما يبدو من اقتحام بعض العناوين الفرعية (دومينات) لمحطة “سي.بي.أس” الأميركية، وكتبوا عليها عبارة تقول “جاء العراق، ثم جاء التاريخ من بعده”.

“الهجوم” العراقي جاء ردا على الكلام الذي قاله مراسل المحطة تشارلي داغاتا، والذي استعظم فيه أن تقع حرب في أوكرانيا قائلا إنها “متحضرة نسبيا وأوروبية نسبيا، وإنها ليست كالعراق وأفغانستان”.

ثارت ثائرة العراقيين، على اعتبار أنهم هم أول الحضارة الإنسانية. فكيف يجوز القول إنهم ليسوا متحضرين؟

ولكن ما رأيك لو أن القولين صحيحان؟ فالعراق هو أول الحضارة فعلا. ولكنه آخر من يمكنه أن يدعيها الآن. أليس الحال القائم كافيا للدلالة على أن العراق والعراقيين أبعد ما يكونون عن حضارتهم، حتى ليبدو الانتساب إليها مجرد وقاحة وصلف؟

47 في المئة من العراقيين (بين سن 6 سنوات و55 سنة) أميون، بحسب إحصاءات اليونسكو. فهل هذا بلد يستطيع أن يُفاخر بأنه أول من اخترع الكتابة؟

وهو بلد يقوده فاسدون ونصّابون ودجالون ومجرمون وعملاء ومنحطون وجهلة. وهذه ليست إهانات. إنها أوصاف فعلية تعني ما تعنيه بالحرف الواحد. فهل هذا بلد يستطيع أن يفاخر بأنه أول من وضع القانون في التاريخ؟

وهو بلد تتراجع فيه مستويات التعليم، وتنحدر فيه القيم الأخلاقية، وتتحول السياسة فيه إلى عمل من أعمال التسويات القذرة وشراء المناصب، وتنهار أعمدة الفن والثقافة والفكر فيه. فهل هذا بلد يستطع أن يقول إنه كان صاحب أكبر مكتبة في التاريخ، وإنه كاتب أول الأساطير، وأول الرواية، وأول الشعر، وأول الأغاني والأناشيد، وأول الموسيقى، وأول المسرح؟

الهاكرز العراقيون لو أنهم هاجموا موقع “المرجعية” لكانوا قد قاموا بعمل أفضل. ولو أنهم هاجموا صحف ومواقع وتلفزيونات الجماعات الطائفية، المسلحة وغير المسلحة، لكانوا قدموا خدمة أكثر جلالا من مجرد التذكير بحضارة العراق وتاريخه

وعندما تنهار قيم ومعايير المواطنة، لتغلب عليها الهويات الطائفية ويمارس فيه الملايين لطميات من قاع الحماقة وابتذال الدماغ، فهل هذا بلد يوجد فيه “بشر” أصلا؟ أم أنه… (لا داعي للكلمة).

معرفةُ داغاتا محدودة بحقيقة العراق الحالية. كما أنها محدودة قطعا بتاريخ حضارته. ولو أنه كان يعرف ما هو العراق الراهن حقا، لما سمح لنفسه بأن يذكره أو أن يضعه في مقارنة مع أوكرانيا، برغم تخلفها الحضاري، في الماضي والحاضر معا. لأنه أبعد من أن تجدر مقارنته بأي شيء غير.. (لا داعي للكلمة هنا أيضا)، لكي لا ينجرح التشبيه.

آه، لو أن داغاتا كان يعرف من هم الذين يحكمون العراق، ومن هم الذين ينجرّون وراءهم ويتبعون تابعهم، ومن هم الذين يضعون العمائم على رؤوسهم ويزعمون أنهم “سادة”؛ سادة على الوساخة، ويعتقدون أنهم من أنساب النسب الشريف، وهم النجاسة أطهر منهم، كلهم على بعضهم، جمعا وطرّا.

يحتاج الأمر جرأة زائدة، أو قل صلافة، من الهاكرز العراقيين، أن يتذكروا التاريخ، ويغمضوا أعينهم عن واقع العراق وحاضره.

ذاك المراسل لم يكن من واجبه، ولا من ثقافته الغربية، السطحية عادة، أن يتعرف على تاريخ العراق، ولا أن يأخذه بعين الاعتبار. لماذا كان يتوجب عليه أن يفعل، وهو يرى ما يراه ويتابع ما يتابعه بحكم عمله اليومي؟

الهاكرز العراقيون لو أنهم هاجموا موقع “المرجعية” لكانوا قد قاموا بعمل أفضل. ولو أنهم هاجموا صحف ومواقع وتلفزيونات الجماعات الطائفية، المسلحة وغير المسلحة، لكانوا قدموا خدمة أكثر جلالا من مجرد التذكير بحضارة العراق وتاريخه.

قدّم ذلك المراسل اعتذارا. وحاول تفسير زلة لسانه، وأقر بأنه لم يختر الكلمات المناسبة. ولكن الاعتذار ما كان ليكفي أن يصدر منه أو من غيره الكثيرين الذين أتاحت لهم الأزمة الأوكرانية فرصة للتنفيس عن ثقافتهم العنصرية.

نعم نحن متخلفون، ويقودنا جهلة، ويغلب على مجتمعاتنا الفقر والفشل، ولكن جانبا ضخما من المسؤولية إنما يقع على الشراهة الوحشية التي اتسمت بها الحضارة الغربية

هم يعتذرون إما لدوافع انتهازية، وإما لنفاق. لا أكثر. هم يشعرون أنهم مُلاحقون بثقافة “الصواب السياسي” وبمعاييرها. وهي نفسها ثقافة منافقة، تستعرض الصواب ولا تؤمن به بالضرورة.

الحضارة الغربية هي التي يجب أن تعتذر. ولكن ليس لأنها تسيء، بعنصريتها، إلى كل الشعوب والثقافات الأخرى، بل لأنها هي نفسها حضارة فساد سياسي، ونزعة نهب اقتصادي، وانحطاط أخلاقي. كل ما تفعله، دون ذلك، هو مجرد غطاء وزيف، بقصد الظهور بمظهر حسن. بما في ذلك دفاعاتها المحمومة عن حقوق الإنسان، التي لا تحترمها هي نفسها عندما يجد الجد. فهل أدلكم على ما فعلت من انتهاكات، على طول المسافة من غزو فيتنام الى معتقل غوانتانامو؟ أم أن الذاكرة ماتت في سجن أبوغريب، لتكتفي بالنفاق بتذكر صور “قيصر”؟

غزو العراق، بمفرده، قدم مليون تأكيد على الطبيعة الحقيقية لتلك الحضارة. ولو كنت أخشى أن ينزلق هذا القلم فلا يترك إهانة إلا ويهين بها هذه الحضارة، فإنه يظل عاجزا عن الوصف؛ عاجزا عن توجيه الإهانة الكافية.

هناك حذاءان اثنان، على أي حال، ظلا جديرين بكل الاحترام والتبجيل. هما الحذاءان اللذان وجههما الصحافي العراقي منتظر الزيدي يوم 14 ديسمبر 2008 للرئيس جورج بوش وتابعه نوري المالكي عندما زار العراق ليحتفل بانتصاره على مقربة من نهاية ولايته.

هذان الحذاءان هما الجواب الوحيد المناسب لطبيعة “الحضارة الغربية”. وهما ما يجب أن يظل العراقيون، بل ربما كل ضحايا الأعمال الهمجية الغربية في كل قارات العالم، يحتفلون بهما بوصفهما حذاءين أسطوريين للرد على تلك الهمجية.

الاعتذارات الفردية لا تكفي. والطبيعة الهمجية للحضارة الغربية لن تسمح لها بالاعتذار كحضارة، لتقول إنها تعي كم أنها كانت حضارة سافلة على طول الخط. حاربت الصين لأنها منعت تجارة الأفيون، في الحرب التي حملت اسم “حرب الأفيون”، وغزت ثلاثة أرباع الكرة الأرضية لتتاجر بالعبيد، ونهبت كل ما كان بوسعها نهبه، حتى لكأن كل ما يشير إلى ثرائها الراهن يقطر دماء لشعوب أخرى، كما يقطر آلاما وعذابات لم تنته إلى يومنا هذا.

نعم نحن متخلفون، ويقودنا جهلة، ويغلب على مجتمعاتنا الفقر والفشل، ولكن جانبا ضخما من المسؤولية إنما يقع على الشراهة الوحشية التي اتسمت بها الحضارة الغربية.

جانبنا من المسؤولية عظيم أيضا. ولكنه يحتاج هاكرز يقتحمون غمار التغيير ويجرؤون على العودة بأوطانهم الى مسارات الحضارة الغابرة. لا أن يتفاخروا بها، وهم يقيمون على عار.

العرب