السياسة والاقتصاد والسلاح والطائفية أوجه سيطرة حزب الله

السياسة والاقتصاد والسلاح والطائفية أوجه سيطرة حزب الله

كيف نفسر سياسة حزب الله وممارسته فيما يتعلق بالاقتصاد السياسي للبنان وشيعته؟ كيف استطاع الحزب أن يبني قاعدته المؤيدة وسط الشيعة في لبنان والعالم العربي والإسلامي؟ ما طبيعة العلاقة بينه وبين الجمهورية الإسلامية الإيرانية؟ بأيّ دور تضطلع قدراته العسكرية في هيمنته على شيعة لبنان؟ وكيف نفسر التطور السياسي والاجتماعي له؟

تتسم الإجابة عن هذه الأسئلة بالأهمية سواء من زاوية ما تقدمه من تبصرات في الإسلام السياسي كعقيدة، أو من حيث تداعياتها على فهم الاقتصاد السياسي الأوسع للبنان والشرق الأوسط.

ويهدف كتاب “الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني” للباحث اللبناني جوزيف ضاهر الأستاذ بجامعة لوزان إلى فهم حزب الله من خلال فهم الإسلام السياسي فهما تاريخيا وماديا، وتتبع تطور بنى التنظيم وعلاقاته ضمن النظام السياسي الأوسع، ووضع هذا التطور في سياق التغير في التشكيل الطبقي وبناء الدولة في لبنان، وبهذا يذهب الكتاب إلى ما هو أبعد من التركيز المعتاد على العقيدة باعتبارها وسيلة لتحديد سياسات الإسلام السياسي وفهمها، ليجادل بأنه في حين قد يكون الهدف المعلن للحزب هو إرساء نمط الحياة الإسلامي، إلا أنه من الأفضل فهم ممارساته الفعلية بوصفها متناغمة مع طبيعة البيئة الرأسمالية التي يعمل بها ويعكسها.

وفي ضوء ذلك انطلق ضاهر من نقطة تمثلت في أن حزب الله والحركات الإسلامية بالعموم، ليست جماعات ثورية أو تقدمية وليست جماعات إرهابية، إنما أحزاب تقودها مصالح سياسية يمكن تفسيرها من خلال مقاربات مادية، لا بالتركيز على منظار ماركسي، يمكن تعريف هذه الأحزاب على أنها فاعل يتنازعه اتجاهان، اتجاه ينحو نحو التمرد الراديكالي ضد المجتمع القائم، وآخر ينحو إلى المساومة معه، ما يوسع باطراد نطاق روابطها مع البرجوازية فيما يتصل بقياداتها السياسية وكوادرها، بينما تحاول الحفاظ على قاعدة دعم من مختلف الطبقات.

الجهاز الأمني والعسكري كان عنصرا أساسيا ومركزيا في تطور الحزب، أما غرضه اليوم فهو ضمان مكانته السياسية والتصدي لأي تهديدات لمصالحه

لقد تطوّر الحزب من التمرد الراديكالي إلى المساومة والمشاركة في البنية السياسية اللبنانية القائمة، ولم يطرح مشروعه أيّ بديل عن النظام الرأسمالي الطائفي المسيطر في لبنان، بل على العكس فقد حافظ عليه والشيء ذاته مع التمييز ضد النساء واللاجئين الفلسطينيين والسوريين وما شاكله.

رأى ضاهر أن الاقتصاد السياسي اللبناني اتسم إلى حد كبير بدوره الوسيط في النظام الإقليمي، وهيمن عليه التمويل والخدمات، ضمن هذه البنية كان لأنماط الحكم الطائفية دور حاسم، مجسد بسيطرة البرجوازية المارونية والسنية على مقاليد السياسة والاقتصاد في البلد. من جهة أخرى خبر الشيعة بالرغم من تهميشهم التاريخي؛ تغيرات كبيرة منذ الاستقلال اللبناني، إذ شهدت الفترة السابقة على الحرب الأهلية تغيرا تدريجيا في المكانة الاجتماعية والاقتصادية عند بعض أقسام الشيعة، دلل عليها بروز وتشكل طبقة شيعية وسطى جديدة تتمتع بتعليم جيد وتتصف بالطموح وتسعى لتحدي الموقع الهامشي لطائفتها. أفصح عن نفسه أول الأمر بظهور حركة أمل وبروزها بشكل كبير إبان السنوات الخمس عشرة من الحرب الأهلية. لكن ترتبت على الحرب نتيجتان رئيسيتان عند الشيعة: أولاهما الاختفاء السياسي لزعماء الطائفة التقليديين الذين أضعفوا بشكل كبير في الأصل قبل الحرب الأهلية.

أما ثانيتهما فكان تأسيس حزب الله ومذاك صار الحزب صوت الشيعة الأبرز متفوقا على حركة أمل، ولقد وصل الحزب إلى هذه المكانة البارزة بفضل كونه مقدم الرعاية الاجتماعية والخدمات للشيعة، وكونه الطرف الفاعل الرئيس في المقاومة العسكرية ضد إسرائيل. في كلتا الحالتين، تحقق ذلك بفضل الدعم المالي الإيراني، حيث عمل هذا على نقل رأس المال الإيراني ومعه معتقدات الثورة الإيرانية السياسية والعقائدية إلى شيعة لبنان وبثها بين أوساطهم.

وأشار إلى أنه مع بدء عملية الإصلاح النيوليبرالي في لبنان مطلع التسعينات عقب انتهاء الحرب الأهلية وتسارعت في عهد رفيق الحريري ومن ثم تابعتها الحكومات المتعاقبة على قدم وساق، لم ينأ حزب الله عن هذه العملية، سواء كان معارضا أو مشتركا في الحكومة، فقد دعّم على الدوام هذه السياسات بما في ذلك دعمه لقضايا مثل الخصخصة والإصلاح الضريبي والتطوير العمراني.

كما تفسر مصادر تمويل الحزب غياب معارضته للنظام الرأسمالي، بل برنامجه الاقتصادي المحافظ أيضا، فقد تأسس على الدعم المالي من الطبقة الوسطى البرجوازية الشيعية والجمهورية الإسلامية الإيرانية والزكاة التي يجمعها الحزب باسم الخميني، وبحسب الباحث أحمد حمزة، فالحزب يعتمد إلى جانب التمويل الضخم من إيران على تبرعات الأفراد والمجموعات والمتاجر والشركات والمصارف، وكذلك من قبل نظرائهم في بلدان كالولايات المتحدة وكندا وأميركا اللاتينية وأوروبا وأستراليا، وعلى المصالح الاقتصادية للحزب والتي تستفيد من اقتصاد السوق الحر في لبنان من خلال عشرات المتاجر الكبيرة ومحطات الوقود والمحلات والمطاعم وشركات البناء ووكالات السفر.

كما تأسست في العام 1985 وحدة العلاقات الخارجية وتولت مسؤولية الحفاظ على العلاقات وتطويرها مع الجاليات الشيعية اللبنانية حول العالم، وإدارة الدعاية الدينية والسياسية باسم الحزب. وتتألف الوحدة بغالبيتها من رجال الدين ورجال الأعمال المعروفين في الوسط الشيعي وهم مرتبطون علنا بالحزب.

وأوضح ضاهر أن فترة ما بعد الحرب الأهلية شهدت تنامي الأهمية السياسية والاقتصادية للشيعة في لبنان، حيث أن مناطق سيطرة الشيعة لم تعد أفقر مناطق البلد (ولو أن الفقر مازال موجودا في هذه المناطق)، بل إن الضرر الأكبر من تعمق النيوليبرالية كان من نصيب المناطق الشمالية المأهولة بالسنّة. أما الضاحية والجنوب وسهل البقاع، فقد برزت شريحة شيعية صاعدة من البرجوازية نمت في إطار ما قدمه الإصلاح النيوليبرالي وأموال إعادة الإعمار من فرص في أعقاب حرب العام 2006 وقد دل على ذلك تزايد حضور هذه الشريحة في شتى جمعيات الأعمال.

تأثر الحزب بصفته الممثل الأهم للشيعة في لبنان بهذه التحولات من ثلاث نواح أولها ظهور كوادر آتية من خلفيات مرموقة ومتعلمة في جامعات علمانية، خلافا لما كان عليه الوضع حين تأسس الحزب على يد رجال الدين وأفراد من خلفية اجتماعية واقتصادية متدنية. ثانيها أقام الحزب صلات وثيقة مع الشرائح الثرية من الشيعة وعائلات النخبة، كما يتضح من تحالفاته السياسية في الانتخابات في أماكن كالضاحية. ثالثها الحزب نفسه أصبح طرفا اقتصاديا مهما في لبنان وله مصالح اقتصادية متعددة أمّنت العمل للآلاف من الأشخاص، كما أن له أيضا شبكة من المنظمات.

وأكد أن الهيمنة المتزايدة للحزب بين الشيعة نشأت في سياق مجتمع تحكمه الميليشيات ودولة لبنانية ضعيفة إبان الحرب الأهلية، وفي غياب دولة فاعلة بنى الحزب قاعدة اجتماعية بارزة في هذه المناطق خلال الثمانينات والتسعينات، بينما كان تغلغل الحزب العميق في المجتمع المدني والمعبر عنه في شبكته الواسعة من المؤسسات الاجتماعية وجهازه الثقافي الضخم، من الأسباب الرئيسية لنجاحه. لقد مكّن ضعف الدولة اللبنانية في فترة ما بعد الحرب الأهلية ـ سواء من حيث دورها كمقدم خدمة أو حتى كضامن للسلم الأهلي ـ الحزب من بسط سيطرته على الشيعة بالتزامن مع مقاومته العسكرية ضد إسرائيل من جهة أخرى، واستخدم الحزب مشاريع إعادة الإعمار فيما بعد الحرب الأهلية والغزو الإسرائيلي ليوفر للشيعة الخدمات الاجتماعية الضرورية.

كتاب الباحث اللبناني جوزيف ضاهر يهدف إلى فهم حزب الله فهما تاريخيا وماديا، وتتبع تطور بنى التنظيم وعلاقاته

ورأى ضاهر أن جميع هذه الأنشطة تظهر أن جوانب الإكراه والقبول، مفهومة بالمعنى الغرامشي. فتحت هذا الإكراه والقبول يقوم مفهوم محدد عن العالم مستوحى من الدين، ونجد تجسيده في مفهومي الحالة الاسلامية والالتزام، على هذا النحو تشكل “جهاز هيمنة” شامل يشتغل كمورد رئيس لاكتساب الثقافة عند الشيعة، وفي هذا الصدد يمكن النظر إلى كوادر الحزب والناشطين في مؤسسات هذا الجهاز بوصفهم مثقفي الحزب العضويين. إن منظمات المجتمع المدني التابعة للحزب تعمل عبر هذه الآليات، على تعزيز عالمية متماسكة قادرة على دمج مجموعة متنوعة من المصالح الفردية والجماعية بين الشيعة. بيد أن بناء الهوية الشيعية ليس عملية ساكنة وثابتة، بل عملية مستمرة تتوسط فيها الشبكات المؤسسية للحزب. ومن خلال التطبيق الواعي لمفهومي الحالة الإسلامية والالتزام، ترسم عملية تشكيل الهوية هذه حدود الانتماء الشيعي، من جوانب الإكراه والقبول على السواء.

كما أنها أيضا تميز بين الجنسين فتعزز دورا معينا للمرأة باعتبارها حلقة الوساطة الرئيسة في نقل عقيدة الحزب، هكذا يسهل بث عقيدة الحزب عبر شبكته من المنظمات استمرار سلطته على قطاعات الشيعة كافة وإعادة إنتاجها.

غير أن الحزب وإن استخدم هذه المؤسسات كوسيلة لبناء قبول ودعم شعبيين (محصور دائما بحدود الإكراه)، لا ينبغي فهم رؤيته على أنها رؤية كاملة ومناهضة للنظام إزاء المجتمع برمته. فلم تحدد عملية انخراط الحزب في المجتمع المدني التراتبيات المعاصرة داخل المجتمع الشيعي ولم تشجع أيّ شكل من أشكال التعبئة الذاتية المستقلة من أسفل. بدلا من ذلك استخدمت الأنشطة الشعبية لغرس القيم الدينية المرتبطة بالحالة الإسلامية، وعادة تجري بطريقة من أعلى إلى أسفل، أي من المستويات التنفيذية إلى القاعدة الاجتماعية.

ولفت إلى أن استخدام حزب الله لسلاحه يتجسد من خلال ملمحين رئيسيين أولهما فرض الجهاز الأمني سيطرة محكمة على المناطق الشيعية، وعدم تردده في استخدام إجراءات أمنية وقمعية لمنع ظهور أيّ معارضة تشكل تهديدا خطيرا أو بديلا لحركته. أما ثانيهما فتدخل الجهاز العسكري للحزب خارج لبنان وبالتحديد في سوريا لدعم نظام الأسد، أحد أهم داعميه سياسيا وعسكريا، إذ تنتج الأسلحة الإيرانية وتنقل إلى لبنان من سوريا، ما يمكنه بالتالي من الحفاظ على سطوته السياسية والعسكرية في لبنان.

لقد كان الجهاز الأمني والعسكري عنصرا أساسيا ومركزيا في تطور الحزب. أما غرضه اليوم فهو بكل وضوح ضمان مكانة الحزب السياسية والتصدي لأيّ تهديدات من شأنها التعرض لمصالحه السياسية، مع الحفاظ على الوضع الراهن للنظام السياسي والاقتصادي الطائفي في لبنان.

وشدد ضاهر على أنه لا يمكن فصل مطالب حراك أكتوبر 2019 بالعدالة الاجتماعية وإعادة التوزيع الاقتصادي عن معارضته للنظام السياسي الطائفي، الذي يحمي امتيازات الأثرياء والمتنفذين، لقد استغلت الأحزاب النيوليبرالية الطائفية الحاكمة ومختلف شرائح البرجوازية مشاريع الخصخصة وهيمنتها على الوزارات لتعزيز شبكات المحسوبية والزبائنية والفساد، بينما أغلبية الشعب سواء داخل البلد أو خارجه تعاني الفقر والمهانة.

الهدف الأول لحزب لله كان إقامة نظام إسلامي، بالرغم من شبه استحالة تحقيق مثل هذه المهمة بالنظر إلى واقع التعدد المذهبي للمجتمع اللبناني

وتابع “كان لحزب الله دور رئيس منذ اندلاع الاحتجاجات الشعبية في أكتوبر 2019 في حماية النظام النيوليبرالي الطائفي، فقد شارك في قمع المحتجين من خلال العنف الجسدي وشتى أنواع الترهيب ضد النشطاء والمحتجين لاسيما الشيعة منهم. وعلى الصعيد السياسي دأب الحزب على محاولة الدفع إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية تجمع الأحزاب النيوليبرالية الطائفية في البلد. ولا يزال الوضع على حاله في صيف 2021. لقد أبانت الانتفاضة لجمهور واسع وعلى الأخص الطبقات الشعبية الشيعية تناقضات حزب الله ودوره الرئيس إلى جانب بقية الطبقات الحاكمة اللبنانية في الإبقاء على نظام اقتصادي وسياسي جائر لا يستفيد منه سواهم”.

وقال ضاهر إن الهدف الأول لحزب لله كان إقامة نظام إسلامي، بالرغم من شبه استحالة تحقيق مثل هذه المهمة بالنظر إلى واقع التعدد المذهبي للمجتمع اللبناني، ليتحول التنظيم عن الرفض التام للمشاركة في النظام الطائفي إلى الاندماج شيئا فشيئا فيه بصفته أحد فاعليه الرئيسيين.

وفي هذا السياق ارتبط تطور الحزب بالعديد من العوامل بينها تغير القيادة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، إذ سعت هذه القيادة إلى سياسة أكثر براغماتية وإلى تحسين علاقاتها مع الغرب والدول الخليجية، وتطور حزب الله إلى حزب جماهيري لا يقتصر على رجال الدين الشباب وعلى أفراد راديكاليين يسعون لفرض نموذج يماثل النموذج الإيراني، وأخيرا حاجة حزب الله إلى حماية سلاحه ومصالحه السياسية والاقتصادية المتنامية داخل لبنان.

وشدد على أن حزب الله لم يبد أيّ تحد للنظام الطائفي اللبناني بل على العكس رأى في هذا النظام شأنه شأن أيّ حزب طائفي وسيلة لخدمة مصالحه، وقد أبانت الانتفاضة اللبنانية وما تلاها هذا التوجه السياسي عند الحزب، أعني السعي لحماية النظام الطائفي النيوليبرالي وتشكيل حكومة وحدة وطنية تضم جميع النخب الطائفية الحاكمة من جديد.

وخلص ضاهر إلى أن ما يعرب عنه الحزب من تضامن مع مستضعفي العالم خاضع إلى حد كبير لمصالحه السياسية الضيقة، وهذه بدورها مرتبطة أوثق الارتباط بمصالح إيران وسوريا. لقد أمست مواجهة حزب الله العسكرية لإسرائيل أمرا ثانويا بالنسبة إلى مصائر الحزب السياسية وحلفائه الإقليميين، أما دفاعه الكلامي عن محور المقاومة (حزب الله وإيران وسوريا وحماس) وعن جهازه العسكري فقد سخّره لتبرير سياساته وأفعاله بما فيها التدخل العسكري في سوريا.

العرب