منذ أن توقفت جولات مفاوضات الملف النووي الإيراني في فيينا في 11 آذار/مارس الماضي، والتكهنات والتسريبات تتدفق حول الانسداد الحاصل نتيجة تمسك طهران وواشنطن بمواقفهما، بينما نقرأ بين الحين والآخر أخبارا عن قرب الانفراج، واقتراب التوقيع على الاتفاق الجديد، لكن حتى الآن يبدو إن الأمر ما زال في طور التأرجح بين الشد والجذب.
وأشار عدد من المراقبين إلى إن روسيا قد تحولت من طرف سعى سابقا جاهدا لانجاح الوصول إلى اتفاق نووي جديد عبر التوسط بين طهران وواشنطن، إلى طرف معرقل ومقتنع بأن الاتفاق في ظروف أزمة موسكو المتصاعدة مع الغرب لم يعد في مصلحته. إذ غير الغزو الروسي لأوكرانيا قناعات صناع القرار في موسكو، كما بات الغرب من جانبه متخوفا من أن نجاح الاتفاق النووي مع إيران، والانتعاش الذي سيحصل للاقتصاد الإيراني سيصب في مصلحة روسيا التي تطالب طهران بديونها المستحقة، وبالتالي ستتمتع موسكو ببعض الانفراج بعد أن فرضت عليها عقوبات اقتصادية خانقة منذ بدء هجومها على أوكرانيا. من أجل هذا، شددت روسيا في آخر جولة لمفاوضات فيينا على استثناء علاقة موسكو الاقتصادية مع طهران من العقوبات المفروضة عليها، علما أن حجم التبادل التجاري بين البلدين يقدر حاليا بنحو 50 مليار دولار في السنة، وهو رقم يشكل أهمية استراتيجية لهما.
وكشف تقرير أعده معهد «غايتستون» الأمريكي المتخصص في شؤون الشرق الأوسط عن القلق الغربي من أن التوصل لاتفاق نووي سيصب في صالح روسيا وحصولها على حوالي نصف مليار دولار نقدا، إذ أشارت مصادر القرار في طهران إلى أن أكثر من نصف مليار دولار محتجزة في الولايات المتحدة نتيجة العقوبات التي فرضتها إدارة الرئيس دونالد ترامب على الاقتصاد الإيراني سيتم الإفراج عنها بعد توقيع الاتفاق، الأمر الذي سيمكن طهران من تسديد الديون المستحقة عليها لموسكو عن عمل الشركات الروسية في منشأة بوشهر النووية بإيران، كذلك هناك توقعات حول تفاوض موسكو مع طهران على اتفاقيات تجارية استراتيجية مقبلة، بينها صفقات أسلحة، بمجرد توقيع الاتفاق النووي.
وتجدر الإشارة هنا إلى مطالبة البرلمان الإيراني يوم 10 نيسان/ابريل الجاري الرئيس ابراهيم رئيسي بالالتزام بمجموعة نقاط في حال انفراج الوضع في مفاوضات فيينا والاقتراب من توقيع الاتفاق الجديد، جاء ذلك في بيان وقعه 250 عضوا من البرلمان الإيراني الذي يسيطر عليه المحافظون، تضمن شروطا طالب بها الموقعون باعتبارها ضمانات لإحياء الاتفاق النووي، بينها «تقديم الولايات المتحدة ضمانًا قانونيًا لعدم الخروج من الاتفاق النووي في المستقبل، وعدم فرض حظر جديد على الصادرات الإيرانية. كما يحق لإیران تصدير النفط إلى أي دولة وإلى أي مدى يتفق عليه الجانبان في إطار الحصة التي حددتها منظمة أوبك قبل فرض الحظر الأمريكي. وعلى الإدارة الأمريكية أن تراعي حق إيران في بيع النفط واستلام ثمنه بعيدا عن أي عراقيل، ورفع جميع معوقات الاستثمار الأجنبي في إيران وإزالة العقبات التي تعترض العمل المصرفي».
من جانب آخر يبدو أن الاتفاقات الفنية بين إيران والمنظمة الدولية للطاقة الذرية قد وصلت إلى مراحلها النهائية، لكن حال التلكؤ التي يعانيها الاتفاق النووي تتمثل في الملف السياسي الملحق بالنووي. إذ أعلن رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية محمد إسلامي في تصريح رسمي يوم 20 نيسان/ابريل الجاري أن «القضايا والنقاشات التقنية في مفاوضات فيينا قد انتهت وتحددت، وأن القضايا السياسية هي المتبقية فقط وهي المتعلقة بوزارة الخارجية». وأضاف إسلامي أن «الوكالة الدولية للطاقة الذرية أصدرت خلال الأعوام الأخيرة، تقارير مناقضة لحقيقة الأنشطة النووية الإيرانية، إلا أنه وفي ظل الحوار والتشاور انتهينا من تلك القضايا».
ويقف ملف «الحرس الثوري الإيراني» ومطالبة طهران برفعه من قائمة الإرهاب الدولية في مقدمة الجوانب السياسية المشار لها في التصريحات حول انسداد الأفق في مفاوضات فيينا. فقد ذكرت قناة «روسيا اليوم» أن مسؤولا دبلوماسيا إسرائيليا بارزا صرح يوم 20 نيسان/ابريل الجاري بالقول إن «الولايات المتحدة تدرس إمكانية شطب الحرس الثوري الإيراني جزئيا من قائمتها الخاصة بالتنظيمات الإرهابية الخارجية». ولفت المسؤول أثناء موجز للصحافيين وفقا لصحيفة «تايمز أوف إسرائيل» إلى أن «المباحثات المتواصلة في فيينا بشأن إمكانية استئناف الاتفاق النووي مع إيران وصلت إلى طريق مسدود، وذلك غالبا بسبب إصرار طهران على طلبها الموجه إلى واشنطن للتخلي عن تصنيف الحرس الثوري تنظيما إرهابيا». كما أشار إلى أن إدارة الرئيس جو بايدن أبلغت حلفاءها الأوروبيين بأنها لا تعتزم رفع اسم الحرس الثوري عن قائمة الإرهاب.
لكن بعض المصادر أشارت إلى أن إدارة جو بايدن لا تزال تنظر في إمكانية رفع الحرس الثوري من قائمة الإرهاب جزئيا وذلك عبر إبقاء «فيلق القدس» ذراع الحرس الضارب إقليميا في قائمة العقوبات، إلا أن الجانب الإيراني رفض المقترح وأصر على إخراج جميع مؤسسات «الحرس» من قائمة الإرهاب والعقوبات. علما أن وزير الخارجية الإيراني السابق، محمد جواد ظريف، كان قد أكد في تموز/يوليو 2021 في ختام الجولات التفاوضية التي أجرتها حكومة الرئيس روحاني، أن الطرف الأمريكي وافق على رفع «الحرس الثوري الإيراني» من قائمة الإرهاب، ما يعني أن الإدارة الأمريكية قد تراجعت عن ذلك في مفاوضاتها اللاحقة مع حكومة رئيسي.
من جانبه أعلن المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، سعيد خطيب زاده، يوم 18 نيسان/ابريل الجاري، في مؤتمره الصحافي الأسبوعي، أن نائب رئيس مفوضية السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، أنريكي مورا، لا يزال ينقل «الرسائل» بين طهران وواشنطن. وأوضح إن هذه الرسائل ما تزال «بعيدة عن أدنى حلول» بشأن القضايا العالقة، التي قال خطيب زاده إنها «تتجاوز مسألة رفع الحرس الثوري الإيراني من قائمة المنظمات الإرهابية» لكن العديد من المصادر المطلعة على المفاوضات الإيرانية الأمريكية غير المباشرة أكدت أن قضية رفع «الحرس الثوري» من قائمة الإرهاب الدولي «تشكل الموضوع الوحيد العالق» الذي حال حتى اللحظة دون التوصل إلى اتفاق لإحياء الاتفاق النووي.
المواقف الخليجية من أزمة الاتفاق النووي توزعت بين جناحين؛ الأول متخوف من نجاح التوقيع على الاتفاق، ويتمثل في المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات التي صرحت فيها عدة جهات غير رسمية بأن إيران تسعى للحصول على السلاح النووي سواء بوجود الاتفاق النووي أو عدمه. بينما يتمثل الجناح الثاني بسلطنة عمان ودولة قطر وهما اللتان تسعيان لإنجاح جلوس واشنطن وطهران على مائدة مفاوضات مباشرة للتوصل إلى اتفاق نووي جديد.
ومن المعروف أن سلطنة عمان لعبت دورا تاريخيا محوريا في التوسط بين جمهورية إيران الإسلامية والولايات المتحدة منذ 1979 في محاولات متعددة لحل الخلافات والتوترات التي مرت بها العلاقة بين البلدين، وكان لمسقط دور عام 2012 في إنجاح الاتفاق النووي الأول الذي تم توقيعه عام 2015. واليوم تسعى سلطنة عمان لإنجاز تقريب وجهات النظر بين الطرفين لحلحلة القضايا المتبقية بمفاوضات فيينا والتوصل إلى اتفاق، لكن وحسب مصادر مطلعة تنصب جهود مسقط على إنجاح صفقة تبادل سجناء بين الولايات المتحدة وإيران، ويترتب على ذلك الإفراج عن أرصدة إيرانية في الخارج في إطار الصفقة. وتضيف المصادر أن «هناك صفقة شبه جاهزة» بين طهران وواشنطن تشمل الإفراج عن ثلاثة سجناء مزدوجي الجنسية في إيران مقابل سجناء إيرانيين في الولايات المتحدة، ليتم الإفراج عن 7 مليارات دولار من الأرصدة الإيرانية المجمدة في الخارج، وفي هذا السياق أعلنت وكالة «إرنا» الإيرانية الرسمية، يوم 18 نيسان/ابريل الجاري، نقلا عن مصدر مطلع في المصرف المركزي الإيراني، بأن مسؤولا إقليميا كبيرا سيزور طهران، لاستكمال آلية الإفراج عن 7 مليارات دولار من الأرصدة الإيرانية المجمدة. ولا ننسى أن دور مسقط كان جوهريا في تهدئة أزمة الحرب اليمنية عبر الطلب من طهران التدخل والضغط على الحوثيين للقبول بشروط الهدنة الأخيرة، وهذا ما تم فعلا واعتبر أحد خيوط التوصل لحل أزمة الاتفاق النووي.
كذلك تسعى قطر إلى جمع الطرفين الأمريكي والإيراني على طاولة تفاوض مباشر لحل القضايا المتبقية في مفاوضات فيينا، لكن يبدو أن طهران ما زالت ترفض ذلك و«تربطه بتنازل كبير في مجال الإفراج عن أرصدة إيرانية» في الخارج. ومن طرف آخر أشارت مصادر مطلعة إلى احتمالية بدء «المفاوضات المباشرة بين الطرفين» والتي ستكون على الأرجح سرية في عاصمة إقليمية.
صادق الطائي
القدس العربي