نتائج الانتخابات التركية وانعكاساتها على السياسة التركية

نتائج الانتخابات التركية وانعكاساتها على السياسة التركية

Turke

لم يمض الوقت الكثير على غلق صناديق الاقتراع في الانتخابات النيابية التركية حتى أعلن في فجر اليوم التالي عن النتائج شبه نهائية لها، والجدول التالي يقارن بين عدد المقاعد التي حصلت عليها أهم الأحزاب السياسية في الانتخابات النيابية التركية والتي جرت في يونيو ونوفمبر، وذلك للوقوف على أسباب ذلك الفوز وتداعياته وتأثيراته على السياسة الداخلية والخارجية التركية.

نتائج-الانتخابات-البرلمانية-التركية-2015وعند مقارنة نتائج الانتخابات الحالية مع نتائج انتخابات حزيران/ يونيو الماضي نلاحظ التغيير في الوزن الانتخابي للأحزاب، حيث ارتفعت نسبة حزب العدالة والتنمية (8.7%)، وبهذه النسبة استعاد حزب العدالة والتنمية ما يقارب أربع ملايين ونصف مليون صوت انتخابي، كان قد خسرهم في انتخابات حزيران/يونيو الماضي. بينما حافظ حزب الشعب الجمهوري على النسبة ذاتها تقريباً، وتراجعت نسبة تأييد حزب الحركة القومية (4.5%)، وحزب الشعوب الديمقراطي (2%).

تشير نتائج الانتخابات الأخيرة وشبه نهائية وفق الجدول أعلاه أن هناك تحولات كبيرة حدثت أهمها أولاً: فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات النيابية التركية، ولم يكن هذا النجاح بمنأه عن قيام الحزب على المستوى الداخلي للحزب من اتخاذ عدة إجراءات مكنته من الفوز في الانتخابات. ولعل أهمها هو تغيير قانون ثلاث دورات نيابية، الذي كان يمنع نواب الحزب من التقدم للانتخابات لولايات أخرى، الأمر الذي أضر بشعبية الحزب، ودفع رموزاً كثيرة كانت معروفة في دوائرها إلى التقاعد النيابي والسياسي قبل الأوان، والبحث عن وجوه شابة لا يعرفها الناخبون لترشيحها مكان الشخصيات المعروفة، خصوصاً في البوادي والمدن الصغيرة، حيث يرتبط الناخبون بالأشخاص، أكثر من الأحزاب. ألغيت هذا الفقرة من لوائح الحزب الداخلية في هذه الانتخابات، وسمح لوجوه نيابية كثيرة بمعاودة الترشح، ما عزز من فرص الحزب في دوائر كثيرة، هيمن فيها الشخصيات الحزبية المعروفة لدى الناخب.

أضف إلى ذلك أن الحزب غيّر برنامجه الانتخابي، حيث أبعد، ولو مؤقتاً، مشروع تحويل النظام التركي من نيابي إلى رئاسي، كما أن رئيس الجمهورية التركية رجب طيب أردوغان، اتخذ في الانتخابات الأخيرة مسافة محسوبة عن حملة حزبه الانتخابية، بخلاف ما حصل في انتخابات حزيران/يونيو الماضي، حيث رفضت الهيئة الناخبة التركية الناخب أن تستبدل الانتخابات النيابية إلى استفتاء على شكل النظام السياسي. كما أن أفاد حزب العدالة والتنمية ميل الناخب إلى الاستقرار الذي يضمن الأمن في محيط إقليمي جد مضطرب، خصوصاً بعد عودة حزب العمال الكردستاني إلى حمل السلاح، وقيام تنظيم الدولة في العراق وبلاد الشام “داعش” بالاعتداء على الدولة التركية، ودخول البلاد إلى شبه حرب مفتوحة مع الأكراد وتنظيم الدولة. هنا، اتجه الناخب إلى الحسم في الاستقرار. كل ما تقدم انعكس لصالح الحزب مع جزء مهم من الناخبين الأتراك الذين رجعوا إلى التصويت له الذي يتوفر على حصيلة اقتصادية مهمة للغاية، بحيث نقل الحزب الإسلامي الليبرالي المحافظ تركيا إلى الدول الصاعدة. وعليه فإن الحزب بموجب النتائج شبه نهائية باستطاعته تشكيل الحكومة التركية بمفرده.

إذ أن تشكيلها بمفرده يتطلب فقط الحصول على 276 مقعد، وها هو حصل الآن على 317 مقعد، ففي هذه الانتخابات تمكن حزب العدالة الحصول على 59مقعد إضافي. وعلى الرغم من أهمية هذه النتيجة لحزب العدالة والتنمية، إلا أنه لن يستطيع تغيير الدستور التركي تحت قبة المجلس الوطني الكبير” البرلمان” التركي، إذ أن ذلك يتطلب الحصول على 367 مقعد. كما أنه لن يستطيع تمرير أي تعديلات دستورية وعرضها على استفتاء شعبي لأن ذلك يتطلب الحصول على 330 مقعد، إلا أنه قد يعوض حزب العدالة هذا النقص الرقمي والبالغ 13 مقعدا ًمن حزب الحركة القومية، إما أن يتقدم بعض نوابه بالاستقالة من الحزب أو على الأقل تأييداً لتعديلاته الدستورية.
ثانياً: تراجع القوميين الأتراك والأكراد، ويعود تراجع القوميين الأتراك في هذه الانتخابات للخطاب الاستقطابي القومي الذي ساد بعد استئناف حزب العمال الكردستاني حربه ضد الدولة التركية في تموز/يوليو الماضي، وامتعاض القاعدة الانتخابية من المواقف السلبية لرئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الذي فوّت على الحزب فرصة للمشاركة في الحكم من خلال تشكيل حكومة ائتلافية مع حزب العدالة والتنمية. وقد أدى هذا الامتعاض إلى وقوع تشظية داخل حزب الحركة القومية تمثلت بانشقاق حاد، ولمّا وجه زعيم الحزب باحتجاجات ابن الزعيم المؤسس للحركة، توغرول توركيش، طرده رئيس الحزب، ما دفع ابن مؤسس الحركة إلى الانتقال مع مؤيديه إلى حزب العدالة والتنمية، والترشح على قوائم الحزب الإسلامي المحافظ، وهذا ما جعل حزب الحركة القومية يخسر نصف مقاعده في البرلمان بين شهري يونيو ونوفمبر (نزلت من 80 إلى41 مقعداً)، وكانت هذه ضربة قاسية للحزب القومي الذي يوصف زعيمه بالسيد لا.ولعل تراجع حزب الشعوب الديمقراطية مرده إلى موقف حزب الضبابي والمؤيد بشكل أو بآخر من لحزب العمال الكردستاني التركي، الأمر الذي أخسره أصوات اليسار التركي وطبقة التجار الأكراد الذين يفضلون بيئة الاستقرار والتنمية الاقتصادية.

مما لا شك فيه، تشكل نتائج هذه الانتخابات انتصاراً لرئيس الجمهورية التركية رجب طيب أردوغان ورئيس وزرائه أحمد داود أوغلو، وحزب العدالة والتنمية، فالرئيس التركي لم يكن متشجعا لتشكيل حكومة ائتلافية، ومؤيد لإجراء انتخابات نيابية مبكرة. ولعل السبب في ذلك يكمن بما رسخته سلبيات الحكومات الائتلافية في تاريخ تركيا المعاصر وفي الذاكرة الجماعية، إذ عانت الدولة والمجتمع التركي من هذا النوع من الحكومات، ففي سبعينيات القرن المنقضي كان المجتمع التركي قاب قوسين أو أدنى من حرب أهلية نتيجة ضعف الحكومة الائتلافية ،واستمر هذا الطابع أي ضعفها واستشراء الفساد الاقتصادي فيها، حتى مجيء حزب العدالة والتنمية إلى حكم تركيا في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 2002م. الذي أنهى عهد الحكومات الائتلافية، وبدأ مرحلة الحكومات التي تشكل من قبل حزب واحد، وكانت نتائج هذه الحكومات واضحة لجميع المراقبين والمحللين والباحثين السياسيين ولا يتسع المقام هنا للتوسع في انجازات حزب العدالة والتنمية في مختلف مجالات الدولة.
وبهذا الانتصار سيتمكن رئيس الجمهورية حكم الدولة بما يتمتع به من عناصر القوة غير مادية لحين يصار إلى تغيير أو تعديل الدستور، للوصول إلى النظام الرئاسي. أما بالنسبة لأحمد داود اوغلو فعلى المستوى الشخصي فقد تجاوز المرحلة الصعبة بنجاح حزبه في الانتخابات النيابية إذ أكد هذا النجاح قدرته على قيادة الحزب. وأخيراً يعتبر حزب العدالة والتنمية المنتصر الثالث في الانتخابات التركية إذ استطاع العودة، ومن جديد بقوة إلى المشهد السياسي التركي بعد التعثر الذي أصابه في انتخابات حزيران/ يونيو الماضي.

والسؤال هل ستتمكن هذه الحكومة من مواجهة التحديات المتعددة التي عصفت بالبلاد على المستوى الداخلي في مرحلة ما بين الاستحقاقين الانتخابيين؟، وهل ستنتج تغيراً في السياسات الخارجية لحزب العدالة والتنمية؟

داخلياً، يمكن الحديث عن احتماليين: الأول عدم الاستقرار السياسي، مدفوعاً بتبني الحزب سياسات لمواصلة الاصرار على اقامة نظام رئاسي، وممارسة ضغوط على المعارضة، والاستمرار في تقليص حرية الاعلام، وتبني مواقف متشددة في المسألة الكردية، إلى جانب ذلك خلقت الانتخابات الأخيرة تباينات واستقطابات قومية (تركية/كردية) وسياسية (علمانية/إسلامية) سيصعب معالجتها سريعاً، وبالتالي هذه العوامل تؤدي إلى حالة من الفوضى وعدم الاستقرار، الثاني: الاستقرار السياسي، تتبنى الحكومة سياسة قائمة على استيعاب الجميع، وبالتالي اعادة إطلاق محادثات السلام مع الأكراد، والتفاوض مع “حزب الشعوب الديمقراطي”. لأن قادة التاريخيون والحاليون لحزب العدالة والتنمية يدركون بشكل بعمق، أنه من الصعوبة بمكان، إن لم يكن من المستحيل، الوصول إلى الذكرى المئوية الأولى لتأسيس الدولة التركية الحديثة، وتركيا تنعم بالرخاء والاستقرار وبحبوبة العيش والانسجام الوطني وتجاوز عقود من القلق الاجتماعي، وتصبح الاقتصاد العاشر عالميا إن لم تحل المسألة الكردية حلاً سلميا وأن تصبح تركيا بحق دولة المواطن تنصهر فيها كل المكونات القومية والدينية لتنتج دولة مدنية حداثية معاصرة.

خارجياً، تواجه حكومة العدالة والتنمية في الفترة القادمة، أربع قضايا مهمة على مستوى السياسة الخارجية، الإقليم الكردي، الأزمة السورية. والانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. تشكيل تحالف إقليمي. الإقليم الكردي، الاستمرار في سياسات منع الأكراد من إنشاء الإقليم الكردي الذي يعتبر بمثابة دولة موحدة للأكراد في المنطقة الشمالية الشرقية لسوريا، بما يعني الاستمرار في تطبيق فكرة انشاء المنطقة الآمنة بين مدينتي (عفرين وجرابلس)، وكذلك توفير حل لمشكلة اللاجئين السوريين. الأزمة السورية، يستمر الموقف التركي تجاه القضية السورية، المطالب برحيل الأسد، ودعم تنظيمات المعارضة. أما عن انضمام تركيا للاتحاد يمكن القول إن فترة المجلس الوطني الكبير “البرلمان” التركي الحالية أربع سنوات، فليس مستبعدا أن تتجدد محاولات أنقرة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، خصوصا أن ثمة قرائن موحية بذلك. كان منها الزيارة التي قامت بها المستشارة الألمانية انجيلا ميركل والتقاؤها مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في ذروة المعركة الانتخابية. إضافة إلى إشارات التشجيع التي ظهرت من بعض الدول الأوروبية الأخرى. أما فيما يتعلق بتشكيل تحالف إقليمي، فإنه من المتوقع أن يتم تشكيل تحالف إقليمي يضم تركيا ودول الخليج العربي ومصر لتصفية النفوذ الإيراني في المشرق العربي.

نستخلص من نتائج الانتخابات النيابية التركية بأن باب النجاح يُفتح لمن يدفعه بقوة وجرأة، قول مأثور يصدق على الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الذي عارض، منذ إعلان نتائج الانتخابات حزيران/يونيو الماضي، تشكيل حكومة ائتلافية، بعد أن أخفق حزبه “العدالة والتنمية” في الحصول على الأغلبية المطلقة، وفضّل الرجوع إلى الشعب في انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر الحالي. لا يخفي ابن حارة قاسم باشا كرهه الحكومات الائتلافية، ولا طموحه في قيادة تركيا نحو رؤية 2023م.

معمر فيصل خولي

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية