الانسداد السياسي يهيئ لعودة الاقتتال الأهلي في دارفور

الانسداد السياسي يهيئ لعودة الاقتتال الأهلي في دارفور

يشير تجدد العنف في إقليم دارفور السوداني إلى عمق الانسداد السياسي الذي تستفيد منه جهات في السلطة، وإلى فشل المكون العسكري في المسك بزمام الأمور، مما دفع بعض القوى الدولية إلى الحديث عن عودة قوات حفظ السلام الدولية لوقف النزيف الحاصل في الإقليم. في المقابل يرى بعض المحللين أن هذه الاضطرابات قد تدفع مجلس السيادة إلى إعادة التفكير في منهج تعاطيه مع القوى المدنية.

الخرطوم – لم تتوقف أجواء الحرب في دارفور خلال الأيام الماضية وعاد الاقتتال الأهلي من جديد، وظهرت إشارات من بعض القوى الدولية تفيد بضرورة عودة قوات حفظ السلام إلى الإقليم الواقع في غرب السودان وشهد من قبل حربا بين عدد من مكوناته الاجتماعية لم تهدأ حدتها إلا إثر سقوط نظام الرئيس عمر البشير.

وبعد سقوط مئات الضحايا، بين قتلى ومصابين، في منطقة الجنينة الأحد بدأت بعض القوى الخارجية تشعر بخطورة التأزم السياسي في السودان، والذي ترى دوائر متعددة أنه رأس الحربة التي أدت إلى اشتعال الموقف في إقليم دارفور، وهو ما ينذر بتوسيع نطاق الاشتباكات التقليدية بين قبائل عربية وأخرى أفريقية.

وحمّلت جهات مختلفة القيادة العسكرية والحركات المسلحة والقوى السياسية مسؤولية تجدد الاقتتال في دارفور، فمنذ سقوط البشير لم يشهد الإقليم هدوءا لفترة طويلة، وبقي شبح الحرب يلوح عقب كل حادثة، ولم يتم تنفيذ التفاهمات السياسية والترتيبات الأمنية والتحركات الاجتماعية التي أقرها اتفاق جوبا للسلام بين السلطات الحاكمة في الخرطوم والحركات المسلحة التي لا تزال تحتفظ بعتادها العسكري.

وكشفت تراشقات سياسية بين قوى سودانية متنوعة عن خلل واضح في التعامل مع الأوضاع في دارفور، وعدم وجود رؤية محددة لتطبيقها من أجل وقف الاحتقان الذي يتزايد يوما بعد يوم، وتتكرر معالم خروجه إلى العلن في شكل حروب قصيرة، حيث يعتدي طرف قبلي على آخر فيقوم الثاني بجمع ميليشياته ويعيد التذكير بما كان يجري سابقا.

التراشقات السياسية كشفت عن خلل واضح في التعامل مع الأوضاع في دارفور، وعدم وجود رؤية لوقف الاحتقان

وأكد الاقتتال الذي اندلع بكثافة قبل أيام أن السلطات السودانية عاجزة عن فرض سيطرتها، وأن إجراءات التطويق التي تم الإعلان عنها لم تحقق الأهداف المرجوة منها، فلا ترتيبات أمنية نفذت على الأرض، ولا تفاهمات عسكرية بين الحركات المسلحة نجحت في منع الاشتباكات، ولا حتى حاكم إقليم دارفور مني أركو ميناوي استطاع تمكين أبناء الإقليم من التحكم فيه ومنع الاقتتال.

وتدفع المعالجات المشوهة والتصورات الخاطئة باتجاه العودة إلى المربع الأول، فلا أحد من المكونات الفاعلة تمكن من تعزيز حسن نواياه بعد أن مثل وقف التدهور في دارفور اختبارا مهما سقط فيه الجميع، فالكل متهمون ومسؤولون عما وصلت إليه الأوضاع في الإقليم إلى درجة تعالي الأصوات المطالبة بعودة قوات حفظ السلام التي انسحبت منذ حوالي عام، حيث أعادت بعثة الأمم المتحدة تدوير مهمتها، وجعلت الجانبين السياسي والاقتصادي أولى من الجانب الأمني.

وخرجت القوات الدولية من دارفور ولم تقم البعثة الأممية بإعادة تموضعها بصورة جيدة، حيث تتعثر في تقريب المسافات بين القوى المدنية ومجلس السيادة، وباتت الهوة بينهما كبيرة بما يفوق قدرة الأمم المتحدة التي أصبحت جهودها مشتتة وكلما أقنعت جهة بخطتها الرامية إلى حل التأزم السياسي وجدت أخرى تخرج عن مسارها.

ووسط التجاذبات المتباينة في الخرطوم لم تعد دارفور ذات أولوية وبدأت مظاهر الاقتتال تتواتر بشكل يمكن أن يعيد الإقليم إلى ما كان عليه قبل سنوات، وهو خيار مخيف للدوائر التي رأت أن الأمور شقت طريقها نحو الهدوء المستمر، فكل اشتباك يبدو أشد ضراوة من سابقيه، لذلك تعد الحصيلة المرتفعة لضحايا آخر اقتتال مؤشرا على أن القادم قد يكون أكثر سوءا في دارفور.

وفتحت المخاوف التي ظهرت في تصريحات وبيانات الأمم المتحدة والولايات المتحدة وبريطانيا وغيرها من القوى الدولية الباب للحديث عن التفكير في تشكيل قوات قادرة على ضبط الأوضاع في إقليم لن يستطيع البقاء فترة طويلة على هذه الحالة من التذبذب والتمزق، فانشغال مجلس السيادة والقوى المدنية بالخلافات والمكائد وتصفية الحسابات يمكن أن يؤدي إلى خروج الإقليم عن السيطرة.

وفي كل مرة يندلع فيها اشتباك يطفو على السطح حديث الترتيبات الأمنية المفقودة التي أخفقت الجهات المسؤولة في تطبيقها وفي وضع قواعد رئيسية لها خلال الفترة الماضية، ويحملها متابعون مسؤولية جانب مما يحدث في الإقليم، فغياب القوة المشتركة يكفي لانتفاء صفتي الشفافية والثقة في القوات الناشطة في الإقليم، ويكفي لأن تحتمي كل قبيلة بما لديها من رديف عسكري.

وتشير التوترات في دارفور إلى أن هناك جهات في السلطة تستفيد من الاضطرابات، وهو ما يدفعها إلى التقاعس وعدم العمل على مواجهتها، كما تمنح الحركات المسلحة مبررات للحفاظ على قدراتها العسكرية، وتعتقد الأولى أن تجدد الاشتباكات كفيل بتعزيز دور الجيش باعتباره رمانة ميزان وضامنا وحيدا للأمن وقادرا على التعامل مع هذا النوع من الأزمات.

ويجبر الاقتتال المتكرر القوى القبلية وبعض الميليشيات في دارفور على رفض الانصياع لطلب تسليم الأسلحة وعدم التخلي عن حالة الاستنفار العسكري، لأن التهديدات الأمنية المتواصلة تخلق حالة من التربص وتفسح المجال أمام مماحكات مختلفة قد تكون أسبابها واهية لكنها كفيلة بدفع كل طرف نحو الاحتماء بما يملكه من مكونات اجتماعية يجد فيها القدرة على صد العدوان على قبيلته أو أي جماعة فيها.

ويعيد المتلاعبون بالأمن في دارفور السودان والمتهاونون في وضع الأسس اللازمة شبح التدخل الدولي في الإقليم، فإذا كانت بعثة الأمم المتحدة عاجزة عن سد الثغرات السياسية فمن باب أولى أن تعيد البعثة النظر في مهمتها وتعيدها إلى سيرتها الأمنية، لأن أي انفلات في دارفور سوف ينعكس سلبا على مجمل الأوضاع في البلاد.

ويرى مراقبون أن التفكير في عودة بعثة حفظ سلام دولية إشارة خطيرة ودالة على تكبيل تحركات المكون العسكري وإجباره على أن يبدي مرونة كبيرة للتفاهم مع القوى المدنية، وأن نهم الجيش للسلطة بحجج أمنية أو سياسية غير مسموح به.

ويضيف المراقبون أن أحداث دارفور على الرغم من قسوتها الأمنية ومراراتها الاجتماعية إلا أنها قد تدفع مجلس السيادة إلى إعادة التفكير في منهج تعاطيه مع القوى المدنية، فكثافة المقارنات بين ما كان عليه الإقليم في أيام البشير والآن تكفي للإيحاء بأن الثورة التي اختطفها الجيش بعد إجراءات أكتوبر الماضي لم تحدث التغيير المطلوب ويمكن أن يستعيد الإقليم صورته القاتمة في مجال انتهاكات حقوق الإنسان والمجازر وكثافة الدماء والتجاوزات التي ارتكبت فيه من قبل.

ويهيئ الانسداد السياسي أجواء العودة إلى الاقتتال الأهلي في دارفور، وما لم يتم اتخاذ خطوات عاجلة لوقف النزيف الحاصل في الإقليم ستتحول ارتداداته إلى كرة لهب تحرق في طريقها الكثير من القوى الفاعلة، في الخرطوم ودارفور، والتي يتصور قادتها أنهم قادرون على المسك بزمام سيناريوهات قديمة بحلة جديدة.

العرب