حدّد المفكّر العسكري الروسي كارل فون كلوزفيتز طبيعة الحرب على أنها سياسيّة بامتياز. من هنا مقولته الشهيرة: «الحرب هي السياسة بوسائل أخرى».
إذن، ما هو المُتغيّر في الحرب؟
يقول المفكّر الأميركي – البريطاني الاستراتيجي كولن إس. غراي، إن المتغيّر في الحرب هي خصائصها الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة.
بكلام آخر، لا تزال الحرب أخطر وأدمى صدام اجتماعي بين البشر. يذهب المرء إلى الحرب مفترضاً الانتصار، وإلا لما ذهب إلى مشروع خاسر مسبقاً. فهل يُردّد الإنسان لنفسه ما يريد أن يسمعه؟ وهل يفتّش المرء عن كلّ الدلائل والمعطيات والحجج التي تدعم مشروعه، حتى ولو كانت كلّها خاطئة؟
مُعقّدة فعلاً هي الطبيعة البشريّة.
لكلّ حرب دروس تؤخذ منها، وكلّ حرب تُنتج جيلاً جديداً وتُهمّش الجيل الذي سبقه. فبدل الانتظار للتغيير التدريجي الطبيعيّ، تأتي الحرب بوزرها لتجرف ما كان، وتُنصّب فرسانها الجُدد. هكذا يحدث التغيير. وإذا قال كارل ماركس إن عامل (Agent) التغيير يتمثّل في قوة وزخم البروليتاريا الثائرة ضد الرأسماليين، فالحرب قد تكون وسيلة التغيير الأسرع. أليست الثورة هي التي تقتلع ما كان من جذوره، لتخلق واقعاً جديداً لا يمكن توقّعه أبداً؟ هكذا الحال مع الحرب… ما بعدها ليس كما قبلها. وتتشارك الحرب والثورة بأمور كثيرة. فالحرب قد تكون وسيلة الثورة، لكن المشترك بين الاثنتين هو العنف.
بعد كلّ حرب تبدأ الدراسات لمعرفة ما الجديد فيها. من السلاح، إلى الاستراتيجيّة، وحتى مستوى التكتيك. فبعد ابتكار المهماز مثلاً، تبدّلت حركيّة الحرب مع الحصان الذي كان يُعتبر قوّة الصدم لمدّة ألف سنة، وذلك قبل قدوم الدبابة التي أزاحته عن عرش قوة الصدم.
حلّت الدبابة مكان الحصان بعد ابتكار الأسلحة الناريّة، بدءاً من الحرب العالميّة الأولى.
في الحرب الأولى لم تكن المناورة هي أساس النصر، بل القوّة الناريّة وحرب الخنادق. فدار الحديث المتخصّص حول سيطرة سلاح المشاة على الحروب، وتراجع أهميّة الأسلحة الأخرى.
وبسبب دمويّة الحرب الأولى، بدأ الفكر الاستراتيجي البحث عن أفكار واستراتيجيّات تؤمن النصر بأقلّ الأثمان. فكان مبدأ المناورة والاقتراب غير المباشر مع المفكّر الإنجليزي ليدل هارت.
وتمثّلت المناورة أكثر ما تمثّلت في حرب الأيام الستّة، خصوصاً في صحراء سيناء. فكانت الدبابة المدعومة بالقوّة الجويّة هي العامل الحاسم في المعركة.
ردّ العرب في حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973. بفكر جديد ضرب عنصر المناورة الذي أعطى الإسرائيلي التفوّق سابقاً.
إذن، هناك الفعل وهناك ردّ الفعل، الأمر الذي يأخذنا إلى المعادلة التالية: «إذا لم يكن بإمكانك المشاركة بفعاليّة في لعبة ما تؤثّر عليك سلباً، فما عليك إلا تغيير قواعد اللعبة». والأمثلة كثيرة في هذا الإطار.
لكن، أين أوكرانيا اليوم من هذه المقاربة؟
في المرحلة الأولى لحرب بوتين على أوكرانيا، غيّر الأوكرانيّون قواعد اللعبة التي أراد الكرملين فرضها عليهم، فنجحوا بمنعه من تحقيق أهدافه. وبدوره، عاد الرئيس بوتين ليغيّر القواعد التي أرساها الجيش الأوكراني، فنقل المعركة إلى إقليم دونباس في الشرق الأوكراني. ومن الطبيعي أن يبني بوتين هذه القواعد على نقاط قوّته، أي القوة الناريّة والدبابة والصاروخ الباليستي والقوة الجويّة.
وبدأ الإعداد للمعركة الكبرى، وذلك تحت شعار: «لا يمكن لي أن أخسر مرّتين في ظرف شهرين».
فما هي استراتيجيّته؟
كان أمام الرئيس بوتين سلوكان ممكنان. الأولّ، القيام بهجوم كبير على إقليم دونباس بكلّ ما أوتي من قوّة، وذلك بسبب عدم جهوزيّة الجيش الأوكراني في هذا الإقليم. ولم يحصل حتى الآن هذا السيناريو، وقد يعود السبب لعدم جهوزيّة الجيش الروسي بعد الخسائر التي مني بها في حرب الشمال – كييف.
الثاني، اعتماد استراتيجيّة القضم والتقطيع لإقليم دونباس. لكن كيف؟
> تركيز قواعد لوجيستيّة قريبة من الحدود الأوكرانيّة، منها بلغورود.
> تعيين قائد عام واحد للمسرح الأوكراني ككل.
> اختيار محور أساسي – جهد رئيسي – والبناء عليه لتطويق نخبة الجيش الأوكراني وعددها نحو 40 ألف، والموجودة في إقليم دونباس منذ عام 2014.
وتمثّل هذا المحور الأساسي بالطريق M03 الذي يبدأ من مدينة خاركيف إلى مدينة أزيوم، وبعدها إلى كراماتورسك، العاصمة المؤقتة لإقليم دونيتسك.
> من هذا المحور، الانطلاق شرقاً وغرباً للسيطرة على البلدات حول الـM03 بهدف التقطيع.
> يظهر من هذه المقاربة أن الهدف هو تحقيق نجاحات تكتيكيّة في الريف، تهدف إلى تراكمات قد تعطي بعداً استراتيجيّاً.
> في الوقت نفسه، الاستمرار بقصف العمق الغربي لأوكرانيا لمنع وصول الإمدادات والدعم اللوجيستي إلى الشرق.
إذن، هذه هي القواعد التي أرادها الرئيس بوتين وينفّذها حالياً في المرحلة الثانية للحرب. وتمثّل هذه القواعد، وجهاً واحداً للعملة. فماذا عن الوجه الآخر الأوكرانيّ؟ وكيف تحضّر، خصوصاً في ظلّ تصريح وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن أنه يريد أن تكون روسيا ضعيفة؟
الشرق الأوسط