لا شك أن هناك تطورا كانت قد بدأت تشهده العلاقات الروسية الأوروبية، وبالأخص الروسية العثمانية، مع بداية القرن السابع عشر وانقضاء ما سُمي بـ”الفترة المظلمة” في التاريخ الروسي، بعد أن كان الروس يتطلعون من جهتهم إلى علاقات ودية مع العثمانيين معظم القرن السادس عشر، حتى أنهم كانوا على رأس المهنئين للسلطان سليمان عقب فتحه بلغراد عام 1521م التي اعتبرها العديد من المعاصرين خط الدفاع الرئيسي للمسيحية آنذاك، وفي ذات الوقت لم يكن العثمانيون قد رأوا بعد في الروس خطرًا حقيقيًّا يجب العمل سريعًا لإيقافه، واكتفوا بإطلاق يد تابعيهم من تتار القرم لصدهم وتحجيم تحركاتهم في الجوار، في الوقت الذي انشغلوا فيه بثقلهم في معاركهم الأوروبية أمام الهابسبورغ والمؤامرات البابوية، حتى الجزية التي كان يدفعها الروس كانت تذهب للعثمانيين بطريق غير مباشر من خلال عملائهم من التتار.. ونستطيع القول إنه حتى منتصف القرن السابع عشر، ظل الجانب الروسي على أطراف موازين القوى الأوروبية بعكس العثمانيين الذين كانوا يشكلون عاملاً رئيسًيا فيه منذ أمد طويل .. ليس هذا فحسب بل كانوا بمثابة الدرع الذي يحمي أوروبا من التقدم الروسي من جهة الشرق.
مع بداية حكم آل رومانوف في العقد الثاني من القرن السابع عشر، دخلت روسيا حقبة جديدة بدأت معها الدفع بجبهات صراعها شيئًا فشيئًا ناحية الغرب والجنوب الغربي؛ فبعد أن كانت في القرن السابق حول نهر الفولغا، انتقلت إلى القوقاز والقرم، وحول البلطيق، والبحر الأسود الذي أطلقت عليه يد عملائها من القوزاق ليشعلوا الصراع مع العثمانيين وتابعيهم في خانية القرم؛ حتى أن غاراتهم اخترقت البحر نفسه لأول مرة لتصل إلى قلب الاراضي العثمانية على سواحله الجنوبية، حيث قاموا بعمليات تخريب على طولها عام 1613م، تضمنت ميناء سينوب العثماني الاستراتيجي، مستغلين سحب العثمانيين أسطولهم من البحر الأسود لدعم عملياتهم في البحر المتوسط أمام التحركات الصليبية، في سابقة خطيرة؛ ما جعل المسألة القوزاقية تشكل آنذاك معضلة بالنسبة للعثمانيين، لكنها ما لبثت أن تحولت في النصف الثاني من القرن إلى عامل من عوامل الصراع الذي احتدم على أوكرانيا بين القوى الثلاث الرئيسية آنذاك في شرق أوروبا: روسيا وبولندا والدولة العثمانية، وتابعيها من تتار القرم.
من ناحية أخرى، استغل كل من الروس والبولنديين صراع السلطة الذي حدث في خانية القرم، للتدخل بدعم أحد المتنافسين على السلطة. فقد تآمر الأخوان محمد غراي وشاهين غراي على حاكم القرم عام 1623م، بدعم من الوزير الأعظم في استانبول، ما أدى إلى انتهاء الفترة الأولى من حُكم جانباي غراي (1610-1623م)؛ لكن بعد أحداث وملابسات أعاده السلطان العثماني مراد الرابع (حكم 1623-1640م) إلى منصب الخان عام 1628م، في الوقت الذي فر فيه الأخوان إلى بولندا؛ حيث قاما هناك بمساعدة كل من البولنديين والروس بتشكيل جيش مشترك من القوزاق والتتار بلغ نحو خمسين ألفًا، هزمه جانباي في معركة كبيرة، قُتل فيها الأخوان ليحكم جانباي القرم مرة أخرى في ظل التبعية للعثمانيين ودعمهم (1628-1635م)، لكن ظلت تتوالى الهجمات البحرية لقوزاق الدنيبر على سواحل البحر الأسود وازدادت خطورتها.
حتى منتصف القرن السابع عشر، ظل الجانب الروسي على أطراف موازين القوى الأوروبية بعكس العثمانيين الذين كانوا يشكلون عاملاً رئيسًيا فيه منذ أمد طويل
حاول العثمانيون بعدها تحصين البحر الأسود ببناء حصن كبير في أوزاكوف (أوزاكيف الحالية جنوبي أوكرانيا) لمنع قوزاق أوكرانيا من الوصول إلى البحر الأسود عبر مصبات الدنيبر غربي شبه جزيرة القرم، لكن في شرقها تمكن قوزاق الدون التابعين للروس عام 1637م من الاستيلاء على آزوف (أطلق عليها الأتراك آزاق)، تلك المدينة الاسترتيجية التي تسيطر على الملاحة في البحر الصغير الذي يحمل نفس الاسم شمال شرق البحر الأسود، وتهيمن على سواحل القرم. وهو ما هدد بقوة الهيمنة العثمانية على البحرين والملاحة فيهما، فضلاً عن القرم نفسها. وظلت المدينة في حوزتهم إلى أن حاصرتها قوة عثمانية عام 1642م بمآزرة مئة ألف من تتار القرم، وهو ما لم يستطع قوزاق الدون مقاومته، في حين رفض القيصر مساعدتهم، لإنكاره في الظاهر دعمهم أمام العثمانيين، وأرسل سفارة من موسكو إلى السلطان إبراهيم (حكم 1640-1648م) يتنازل فيها عن أي حق له في آزوف، ورغبته في تجديد أواصر الصداقة القديمة بين البلدين. فما كان من القوزاق إلا أن أضرموا النيران في المدينة قبل انسحابهم فأتت عليها بالكامل، لكن أعاد العثمانيون بناءها وتحصينها بعد استردادها. وظلت الهجمات المتواصلة للقوزاق على العثمانيين وللتتار على الروس محورًا للشكاوى بين بلاطي موسكو واستانبول خلال عهد السلطان إبراهيم، لكن لم يفعل أي من الطرفين إلا الطلب شكليًّا من الطرف التابع له وقف هجماته، حتى أن القيصر الروسي ألكسيس ميخالوفيتش (حكم 1645-1676م) وصف القوزاق في رسالة إلى السلطان بأنهم: “حشد من المجرمين الذين ابتعدوا بقدر استطاعتهم عن حدود سلطة سيدهم هربًا من العقوبة التي تقتضيها جرائمهم”.
في عام 1646م، قام التتار بمطاردة القوزاق جنوبي روسيا، وردًّا على ذلك تقدم جيش روسي تجاه آزوف لكنه تعرض للهزيمة أمام الحامية العثمانية. قام بعدها في 1648م خان القرم بالإغارة داخل بولندا وروسيا ليعود بأربعين ألف أسير، فما كان من العاهلين البولندي والروسي إلا أن أرسلا سفراء للشكاية إلى السلطان، فأرسل السلطان بدوره إلى الخان إسلام جراي لوقف غاراته، فأجاب قائلاً: “أنا وجميع من هنا خدم للسلطان، لكن الروس يريدون السلام في الظاهر فقط، ولا يطلبون ذلك إلا عندما يشعرون بوطأة سلاحنا المنتصر، فإذا منحناهم وقتا للتنفس، فإنهم يقومون بتخريب سواحل الأناضول بأساطيلهم، لقد أوضحت أكثر من مرة للديوان أن هناك مكانين مهمين في الجوار سيكون من الحكمة السيطرة عليهما؛ الآن قد تسيد الروس عليهما وأقاموا أكثر من عشرين موقعًا محصنًا. فإذا أوقفنا نشاطنا هذا العام فسيقومون بحصار آقرمان وغزو كامل مولدافيا”.
تلى ذلك سنوات نستطيع أن نصفها بالمفصلية في تاريخ أوروبا الشرقية وصل فيها الصراع إلى ذروته، بعد أن بدأت سلسلة من النزاعات بين القوزاق وبعضهم البعض للسيطرة على أوكرانيا استند فيها كل فصيل إلى قوة كبرى لإقرار سلطته. هكذا بدأت تتحول سياسة زعيم قوزاق الزابوروغ، بترو دوروشينكو، إلى محاولة التقرب من العثمانيين وخان القرم، في إطار سعيه لتأسيس دولة للقوزاق في أوكرانيا الغربية منذ عام 1666م، وتوافق ذلك – حسب بعض المؤرخين – مع سعي العثمانيين إلى إقامة دولة عازلة بينهم وبين الروس والبولنديين تكون لهم السيطرة عليها، ما أدخل العثمانيون والقرميون بقوة في ساحة الصراع الروسي البولندي للسيطرة على أوكرانيا، كما سيتضح من مجريات الأحداث.
القدس العربي