أظهرت الانتخابات النيابية اللبنانية، التي أعلنت نتائجها النهائية أول أمس الثلاثاء، حصول تغير دينامي كبير على المعادلة القائمة للأوضاع في البلاد.
تمثل ذلك بعدة عناصر لافتة، أهمها نجاح 13 من المرشحين المحسوبين (12 منهم شخصيات سياسية جديدة) على الحراك اللبناني الذي اندلع في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، وهو ما ردت عليه المنظومة الحاكمة، بسرعة، بإحراق مجسم «قبضة الثورة» الذي يمثل رمز ذلك الحراك.
العنصر الثاني المهم أيضا كان فقدان التحالف الشيعي ـ المسيحي الأكثرية النيابية التي كان يملكها في البرلمان السابق، والمتمثلة بامتلاكه 71 نائبا، ليقتصر تعداد هذه الكتلة، التي تضم، بشكل رئيسي، «حزب الله» و«حركة أمل» و«التيار الوطني الحر» على 62 نائبا.
يمكن، في سياق آخر، اعتبار احتفاظ «الثنائي الشيعي» بـ27 مقعدا نيابيا، وهو العدد الكامل للطائفة الشيعية في لبنان، تعبيرا عن استمرار القوة، لولا فقدان «الثنائي الشيعي» للمقعدين الأرثوذكسي والدرزي في الجنوب اللبناني، الذي كان يعتبر قلعة مغلقة له، ولولا انحسار وجود لـ«حزب الله» خارج إطار الطائفة الشيعية حيث سقط كل من طلال أرسلان ووئام وهاب، ممثليه ضمن الطائفة الدرزية، وفيصل كرامي، ممثله في مدينة طرابلس عن السنة، في مقابل فوز أشرف ريفي، وهو أحد أكبر رموز مناهضة «حزب الله» ضمن الطائفة السنية.
تعرض «التيار الوطني الحر» المتحالف مع «حزب الله» والذي يقوده جبران باسيل، الشخصية التي كانت الأشد تعرضا للهجاء من قبل جمهور الحراك الثوري اللبناني، إلى تراجع ملحوظ من 20 مقعدا في البرلمان السابق إلى 17 في الحالي، فيما تمكن خصمه اللدود، «القوات» المناهض لـ«حزب الله» من الانتقال من 15 مقعدا في البرلمان السابق إلى 18 في الحالي.
يحمل انحسار وجود ممثلين لـ«حزب الله» ضمن الطوائف الأخرى (وهو التنظيم المهيمن على معادلات القوة في لبنان) معنى أكبر من مسألة تراجع النفوذ الذي يمكن أن يقاس بعدد التنظيمات والشخصيات الموالية له ضمن الطوائف الأخرى، أو يحسب بحجم القوة العددية ضمن البرلمان، لأنه يعني أن القوة الضاربة التي يملكها الحزب، والمؤسسات الاقتصادية والمدنية التي تجعله أقرب لدولة ضمن دولة، لم تعد قوة سياسية حاكمة، وأنه فقد رصيده الرمزي السابق، عربيا ولبنانيا. تعني المعادلة الجديدة أن الحزب انحسر إلى حزب الطائفة التي يمثلها، الأمر الذي يفرض عليه أن يتحاور مع باقي الأحزاب اللبنانية للوصول إلى تسويات مقبلة، وأنه في حال اللجوء إلى القوة، كما فعل سابقا، فإن الأمر قد يرتد عليه خسائر محلية وعالمية لا يمكن للبلد أن يتحمل أكلافها.
لم يعد مناسبا، والحال هذه، أن يستخدم الحزب رصيده السابق في مواجهة إسرائيل للخصم من وطنية باقي اللبنانيين وحشرهم في زاوية إما أن تكونوا تحت سيطرتي أو أنكم عملاء لإسرائيل (كما لمح زعيم كتلته النيابية محمد رعد بالإشارة لنواب الحراك الشعبي) فهذه التهديدات تحولت إلى عبء على الحزب الذي بدد رأسماله الرمزي باستخدامه محازبيه ضد الحراك الشعبي، وبإرسال عناصره للدفاع عن نظام بشار الأسد في سوريا، وبالتدخلات الإقليمية في العراق واليمن، والأهم من كل ذلك، الإدارة البائسة، مع حلفائه، للبلاد، والتي أدت لكارثة مرفأ بيروت، والتدهور الاقتصادي الهائل نتيجة استنزاف الموارد بالفساد والزبائنية والمحسوبيات، وصولا إلى حماية صناعة المخدرات و«الكبتاغون».
إن نجاح النظام الانتخابي اللبناني في الوصول إلى هذه النتائج، رغم تسجيل بعثة الاتحاد الأوروبي لخروقات عديدة، يعني أن تضحيات اللبنانيين، ونضالاتهم، لم تضع سدى، وأنهم تمكنوا، عمليا، من تخليص السياسة من «فم الأسد» بالمعنيين المجازي والفعلي، وهو ما يفتح الباب، ولو ضيقا، على طريق التغيير الإيجابي الذي يمكن أن يخرج البلاد من الكارثة السياسية والاقتصادية التي وقعت فيها.
القدس العربي