الأزمة الحقيقية للمدارس الاقتصادية المختلفة تكمن فى مواكبة نشأة علم الاقتصاد بصورته المنضبطة لنشأة الدولة القومية الحديثة على أثر معاهدة «وستفاليا» عام 1648. منذ ذلك الحين، وحتى اليوم سَخَر الاقتصاديون أدواتهم ونظرياتهم لخدمة الدولة فى المقام الأول، باعتبار أن الإنسان فرع من أصل تلك الدولة القومية ذات الحدود والقوانين، والإقليم والحكومة والشعب. لكن الشعب ليس رقما صحيحا فى تلك المعادلة بعد أن اكتسبت الدولة شخصية مستقلة، علمنا أساتذة العلوم السياسية أنها تعيش فى مجتمع دولى أكثر تخلفا من المجتمعات البشرية، مجتمع تسوده قيم العنف والحرب وغطرسة القوة.
الأزمة نضجت مع بحث الأب الأول لعلم الاقتصاد آدم سميث عن «ثروة الأمم» فى كتابه الذى يحمل هذا الاسم عام 1776 غير مكترث لآليات وضوابط توزيع الثروة على شعوب تلك الأمم أو بالأحرى تلك الدول.
اليوم وبعد زهاء ربع ألفية على نشأة علم الاقتصاد الحديث يحصل الاقتصادى الاسكتلندى الأمريكى «أنجاس ديتون» على جائزة نوبل فى الاقتصاد عن أعمال بحثية مهمة تناول خلالها ثروة وصحة الأمم، تناول عدالة توزيع الدخول والثروات وعدم مرونة الاستهلاك لتغيرات الدخول، ومحدودية تأثير زيادة الدخول السنوية عن عتبة محددة (٧٥ ألف دولار طبقا للمسح الذى أجراه) على مستوى سعادة البشر، وقد استند إلى نتائج هذا البحث الأخير ليحث الحكومات على ضرورة تخصيص مزيد من الموارد لأصحاب الدخول تحت تلك العتبة، مع ضرورة التركيز على المعيلين، وأصحاب الحاجات الخاصة والأمراض المزمنة.. ذلك إن أرادت تلك الحكومات إحداث فرق معنوى فى مستوى الرضا العام، وبعبارة اقتصادية أخرى فإن اهتمام الحكومات بالإنفاق على تلك الفئات يعد بمثابة تخصيص أكثر كفاءة للموارد، إذ يحقق الدولار المخصص لها عائدا أكبر نسبيا من نظيره المخصص لأصحاب الدخول فوق ٧٥ ألف دولار ومن لا يخضعون لظروف خاصة كالسابق شرحها.
العلماء إذن بدأوا يدركون خطورة تكدس مليارات الدولارات فى أيدى قلة من البشر لن يستطيعوا إنفاقها مدى الحياة وإن اجتهدوا، وندرة الدولارات فى أيدى ملايين البشر الباحثين عن وسيلة للحياة والنجاة من أسباب الهلاك، وما كتاب «رأس المال فى القرن الحادى والعشرين» لصاحبه «توماس بيكيتى» إلا أحد تجليات هذا الإدراك لتراكم الثروة بوتيرة مقلقة. هذا الاختلال المخيف والبؤس المطبق تتضاءل بجواره أية إنجازات متصورة لنظريات الاقتصاد وتطبيقاته، لكن بالطبع تظل مدارس الاقتصاد الكلاسيكية والنيوكلاسيكية أبرز المتهمين، نظرا لأن قيم السوق الحر وتراكم رءوس الأموال التى أفرزتها تلك المدارس هى التى حكمت النظام العالمى منذ نشأة الدولة الحديثة، ولم يشذ عن تلك القاعدة سوى محاولات هنا وهناك لإفساح مزيد من التدخل الحكومى فى آليات عمل الاقتصاد أو لتبنى الفكر الماركسى، الذى كانت تطبيقاته المخيفة سببا كاف لانحساره، وبالطبع كانت مؤسستا بريتون وودز (صندوق النقد والبنك الدوليان) الراعى الدولى للنيوكلاسيكية منذ عام ١٩٤٤ وحتى اليوم.
تراكم الثروات فى قمة بناء الدول لا ينتقل بصورة آلية وعادلة إلى السكان، ويظل رهنا بآليات التوزيع وقنوات الهدر والفساد والبيروقراطية والنظام القضائى والنسق القيمى الذى يحكم المجتمع، فيعطى للراقصة ما لا يعطيه عالم الذرة.. أمور كثيرة لا يصح ولا يمكن أن نفترض وجودها لأنها غير موجودة إلا فى «يوتوبيا»، تماما كما اكتشف اقتصاديو المعلومات (مثل «جوزيف ستيجليتز«)أن كثيرا من فرضيات المنافسة الكاملة والتوقعات الرشيدة وغيرها من نظريات غير منطقية ولن تتحقق أبدا فى أرض الواقع، وبالتالى فالنظرية لا قيمة لها لأنها تصح فقط بصحة فروضها.. توافر المعلومات الكاملة لكل أطراف السوق ــ مثلاً ــ لا يصح أن يكون فرضا واقعيا، لأنه فى ذاته غاية لا يمكن تحقيقها، لذا فقد طور المحدثون نماذج لعدم تماثل المعلومات فى الأسواق.. ويمكن القياس على ذلك لإثبات وهم الاقتصاد فى غير نظرية.
لسان حال النظام الاقتصادى العالمى المعاصر يقول: «ليس علينا فى الأميين سبيل»، والأميون هنا هم الضعفاء معدومو الحيلة، هم غثاء السيل وإن كثر عددهم تذروهم ريح التطور والاكتناز، هم أمم من النمل يقتلهم الكائن الاقتصادى الحديث بغير شعور بالألم لأن مقتضيات البقاء والاستمرار تفرض ذلك! لكن بقاء من؟ واستمرار ماذا؟ إنه بقاء الدولة القومية الحديثة على ما أسست عليه واستمرار النظام الاقتصادى العالمى المنحاز، وليس بقاء الإنسان. من هنا نبعت فكرة الاقتصاد التعاونى وتحقيق مزيد من التدخل الحكومى لصالح الفقراء، لا بغرض إنقاذهم ولكن بغرض ضمان بقاء المنظومة، فقد أصبح كثير من البشر ضرورة لاستمرار النظام البيئى فقط لا غير، شأنهم فى ذلك شأن الحيوانات والنباتات!.. فإذا حققت الدولة معدلات نمو كبيرة تفوق كثيرا معدل نمو السكان، وإذا حققت فوائض فى موازناتها العامة وموازين مدفوعاتها، وحازت مؤشرات اقتصادية إيجابية، تصبح نموذجا للنجاح الاقتصادى! الهند مثال صارخ على هذا الحكم الجائر، فقد نجحت فى تحقيق معدلات نمو اقتصادى مرتفعة بلغت فى المتوسط نحو 6% طوال الفترة من عام 1951 وحتى عام 2015، لكن السير فى شوارع «مومباى» كشف ــ لى شخصيا ــ عن وجه آخر لملايين من البؤساء بغير مأوى ولا كرامة بشرية على جانبى الطريق. الإحصاءات التى أجرتها منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية عام 2011 تخبرنا أن أغنى 10% من سكان الهند يحصلون على دخل يزيد 12 ضعفا عن أفقر 10% مقارنة بستة أضعاف عام 1990، وتشير بيانات «اليونيسيف» إلى أن نحو 48% من الأطفال تحت سن الخامسة فى الهند يعانون من أمراض مرتبطة بنقص التغذية، فهل نجحت الهند اقتصاديا وفشلت إنسانيا؟! الأمثلة على ذلك كثيرة بين دول العالم.
كذلك يموت الملايين جوعا ومرضا فى مختلف الأنحاء دون أن يتحرك لذلك ضمير الدول؟! فقط بعض الأثرياء وفنانى الأوسكار يتصدقون بفوائض أموالهم وأوقات فراغهم على مطحونى أفريقيا وأطفالها الجوعى.. لكن هذا العمل الطوعى يجعل من هؤلاء المتطوعين نماذج للكرم الحاتمى، دون أدنى الزام فردى، ولا إلزام للدول بطبيعة الحال، للتعامل مع تلك المآسى المنتشرة فى مختلف الأسقاع.
***
لقد تحولت الدول الحديثة إلى سادة وأصبح الشعب كله عبيدا لإرادتها، وإذ ترفع الدولة فئات من الشعب منازل دون آخرين ذلك لأنها تعتقد أنهم دعامة نموها واستمرارها. صحيح أن الثورة الصناعية ومن ورائها الثورة المعلوماتية كلاهما طوع الكثير من الموارد المحدودة لخلق سلع وخدمات لم تكن موجودة من قبل، لكنهما خلقتا حاجات بشرية لم تكن موجودة أيضا! فالإنسان فى حاجة إلى الترفيه فى مختلف العصور، لكن الدولة بنظامها الاقتصادى الحديث هيأت له أساليب للترفيه لم يكن يشعر باحتياجه اليها أبدا، مثل التليفزيون والملاهى وغيرها من أدوات، لكن من قال أن الإنسان أصبح أفضل حالا بعد ظهور تلك الابتكارات؟! هل إنسان الإنترنت يحسب نفسه أكثر سعادة من إنسان الغاب مثلا؟! هناك نظريات حديثة تدحض هذا الزعم.
موضوع علم الاقتصاد هو «ندرة الموارد وتعدد الحاجات»، وقد ركزت مختلف نظريات خدمة الدولة (إن جاز التعبير) على طرف واحد من المعادلة هو «ندرة الموارد»، لكن الإمام «على ابن أبى طالب» اكتشف علاجا لكثير من أمراضنا الاقتصادية المعاصرة بتركيزه على طرف المعادلة المهمل فى علم الاقتصاد الحديث، وهو «تعدد الحاجات» فقال ببلاغة لا نظير لها قوله الجامع: القناعة كنز لا يفنى فأسس بذلك ــ فى رأيى ــ مدرسة فريدة فى الاقتصاد العلوى.
إذا أردنا أن تتوقف الدولة عن التغذية على شعوبها، فلابد من البحث عن صيغة عادلة لتحقيق مزيد من الرضا لأكبر كتلة بشرية ممكنة من ساكنى هذا الكوكب البائس، ولن يتحقق هذا إلا بإسقاط فرض لازم فى الاقتصاد الحديث، ألا وهو الجشع.
مدحت نافع
صحيفة الشروق