تقسيم ليبيا.. جماليات حل بشع

تقسيم ليبيا.. جماليات حل بشع

الحرب العالمية التي اندلعت في العام 1914 لم تستغرق أكثر من أربع سنوات. أما الحرب الليبية – الليبية فإنها ما تزال تستعر منذ 11 عاما، ما يجعلها واحدة من أطول الحروب الكونية.

“دول الحلفاء” في هذه الحرب (أعني الحرب الكونية في ليبيا) حتى وإن كانت قد دعمت فريقا وآخر، فإنها بدأت تشعر بالقرف منذ عدة سنوات وتريد التخلص من الأعباء، ولكنها لم تجد سبيلا إلى ذلك. باستثناء تركيا طبعا. فهذه هي “الحليف” الوحيد الذي يستفيد، بينما الآخرون ينفقون من جيوبهم عليها وعلى جمهرة واسعة من الميليشياويين بين الطرفين.

وفي حين أن الحرب العالمية الأولى انتهت بـ”معاهدة فرساي”، التي تم التفاوض عليها في نحو ستة أشهر، وكانت كافية لكي تشكل أساسا لإنشاء “عصبة الأمم المتحدة”، وبالتالي صياغة ميثاقها، فإن الليبيين ما يزالون منذ أكثر من عشرة أعوام يتفاوضون على فقرة واحدة في الدستور لإنهاء حربهم الكونية، التي يفترض أن تنتهي بإجراء انتخابات لرئيس. ولو حدث ذلك، فلا الانتخابات سوف تجرى بالفعل، ولا الرئيس سوف يحظى بالاعتراف.

ولقد حاولت دول عدة أن تساعد الليبيين على خوض حروبهم التفاوضية، وقدّمت لهم كل ما تملكه من خبرات تم جمعها ومراكمتها منذ معاهدة فرساي تلك، إلا أن خبرات الليبيين في إفشال أيّ اتفاقات أثبتت أنها مدرسة تفاوضية مستقلة عن كل الخبرات العالمية. وهناك ما يبرر الاعتقاد، بأنهم يستطيعون بفضلها إنشاء أكاديمية تقدم دروسا حول “كيف تعقد مؤتمرات في ثلاثة أرباع دول المعمورة، وتعود منها خالي الوفاض”. أو “كيف تجعل الخبرات الألمانية في التفاوض تشعر بالخجل من ضعفها أمام ميليشيات صلاح بادي أو “ميليشيات طاجين”. وهذه الأخيرة لا علاقة لها بالطاجين المغربي، فهذا مزيج خضار ولحم، وذاك مزيج لصوص وأفّاقين.

العالم كله سوف يكون مستعدا للاعتراف بهذه الدول، قائلا لنفسه: إن ليبيا ليست أفضل حالا من يوغوسلافيا السابقة ولا من تشيكوسلوفاكيا السابقة ولا من الاتحاد السوفياتي السابق

والمسألة في الحقيقة، هي مسألة خبرات استثنائية، تجمع بين الكفاءة الانتهازية العالية والصعلكة. وهذا مزيج لا تمتلك دول العالم معرفة به. إنه يشبه اختراع مادة كيميائية غير مسجلة في “الجدول الدوري للعناصر”. ومثلما توجد فيه مواد من قبيل “يورانيوم” و”مغنيسيوم” و”بلوتونيوم”، فلسوف يكون من المناسب تسمية هذا المزيج “ليبيزيوم”، وهي مادة يمكن أن تُشتق منها، بضرب نواتها بحزمة من إلكترونات مادة أخرى، فتخرج مادة مثل “مصراتيوم” وطرابليسيوم” و”بنغازيوم”. فيما يحاول رئيس الحكومة الليبية المنتخب من جانب مجلس النوابيوم، أن يستوجد مادة جديدة باسم “سرتينيوم”، لكي تكون مقرا لحكومته.

وهذا يعني بكل بساطة أن الليبيين مستعدون لكي يدوروا بالعالم السبع دورات من دون أن يتوصّلوا إلى اتفاق، وحتى إذا توصّلوا إليه فإنهم سوف يمتنعون عن تنفيذه، وإذا نفذوه، خرّبوه، لكي يعودوا من جديد ليجرّبوا الإقامة في فنادق ومنتجعات على امتداد المسافة من مصر إلى المغرب طولا. ومن ألمانيا إلى سويسرا عرضا، ويحصدون الرشاوى بين هذا وذاك، تحت مرأى مستشارة الأمين العام للأمم المتحدة.

ولقد قيل في أكثر من مناسبة إن الحل الأمثل هو أن تستعر الحرب، حتى يتم القضاء على أحد الطرفين قضاء مبرما. إلا أن “دول الحلفاء” لم ترغب بذلك، خشية من ارتفاع التكاليف البشرية للنزاع. ولكنها في النهاية وجدت نفسها في الوسط بين رغبتها في إيصال الليبيين إلى توافق قابل للتنفيذ، وبين رغبة الليبيين في إطالة أمد النزاع. لا هي تريد الحرب، ولا الليبيون يريدون السلام.

طبعا يقول الليبيون غير ذلك. وهم يقولون إنهم يريدون التوصل إلى حل، وتحقيق الاستقرار.. الخ، إلا أن ذلك هو نفسه جزء من الخديعة التي يتم استخدامها لإقناع العالم، بأن الطرف الآخر هو المشكلة، بينما هم مسالمون، ووطنيون.. الخ.

ولا أعرف لماذا تتورط دول العالم بهذا النزاع، فترسل الأمم المتحدة مبعوثين ومستشارين إلى ليبيا، بينما الصحيح، هو ترك الليبيين وشأنهم، ومنع استقبال ممثليهم في أيّ مكان، ووقف “التفاوض” معهم حول أي شيء. فالاهتمام بجمهرة الجماعات الليبية لم يثبت إلا شيئا واحدا، هو أن هؤلاء الناس يبيعون الأوهام والمزاعم على بعضهم البعض وعلى الآخرين، لأجل أن يشعروا بالأهمية.

ولقد قيل أيضا إنه لطالما ظل النفط يتدفق، فإن فرص نهب العائدات تظل مفتوحة، ولا يمكن تحقيق أيّ مصالحة أو سلام، لأن المسألة تحولت إلى مسألة “مَنْ يحصل على ماذا”، وليست مسألة كيف يمكن إيجاد حل سياسي للأزمة. فهذا الحل، بحسب المنطق والتاريخ، وكل الخبرات البشرية يفترض ألا يطول أكثر مما طالت معاهدة فرساي. وإلا فإن المعنى الحقيقي، هو أن هناك خبرات لصوصية هي التي تعترض الطريق.

الليبيون مستعدون لكي يدوروا بالعالم السبع دورات من دون أن يتوصّلوا إلى اتفاق، وحتى إذا توصّلوا إليه فإنهم سوف يمتنعون عن تنفيذه، وإذا نفذوه، خرّبوه

مع ذلك، فهناك حل آخر. بشع. ولكنه ينطوي على جماليات استثنائية. وهو تقسيم ليبيا إلى ثلاثة أقاليم مستقلة، لا يشترط أن تعترف ببعضها البعض، ولا تقيم فيما بينها إلا الحد الأدنى من العلاقات اللوجستية.

الوجه البشع في هذا الحل، هو أنه يقسم بلدا يزعم كل طرف من أطراف النزاع أنه يريده أن يبقى موحدا، ولكن من دون أن يكون مستعدا للنزول عن البغلة التي يركبها.

أما جمالياته، فإنها تضع الليبيين وجها لوجه أمام انقساماتهم، من دون زوائد تفاوضية، لكي تريهم ما لا يرغبون برؤيته، وهو أنهم تواطأوا على تخريب عيشهم المشترك أكثر مما يجب، إلى درجة أنه لم يعد هناك مبرر لبقائهم في بلد واحد.

وهناك أساس تاريخي للتقسيم. فأقاليم طرابلس وبرقة وفزان، تتمتع بخصائص قديمة، وحدود جغرافية واضحة، كما أنها تتمتع اليوم بمميزات ميليشياوية، تجعل كلاّ منها عالما قائما بذاته.

الواقع، فإنها جميعا تمتلك قدرات لإنتاج النفط والغاز. فالحقول الليبية تتوزع في كل إقليم من هذه الأقاليم بما يغنيها عن التنازع على المال. وعلى هذا الأساس، فإنه يمكن لكل إقليم، أن يهنأ بميليشياته، وأن يوزع الثروات على لصوصه وفاسديه الخاصين به.

أحد أهم جماليات هذا الحل، هو أنه يريح العالم من فكرة إدارة “التفاوض” بين مَنْ لا يريدون التفاوض. وحيث أن لكل دولة من هذه الدول “حلفاء”، فإنها تستطيع أن تستفيد من خبراتهم في أعمال إعادة البناء، أو أعمال إعادة النهب، أو أعمال تنظيم العلاقات والمواثيق المتعلقة بالعلاقات بين الدول الثلاث، وكذلك الروابط الجمركية فيما بينها. من دون أن يتدخل أحد بشؤون أحد آخر.

سوف يكون بوسع هذه الدول الثلاث أن تعدّ كل منها دستورا خاصا بها. وأن تنتخب ثلاثة رؤساء. وهو ما يعني أنها لن تعود في حاجة إلى التفاوض مع أيّ طرف خارجي. فقط مع نفسها.

العالم كله سوف يكون مستعدا للاعتراف بهذه الدول، قائلا لنفسه: إن ليبيا ليست أفضل حالا من يوغوسلافيا السابقة ولا من تشيكوسلوفاكيا السابقة ولا من الاتحاد السوفياتي السابق، ولا من بريطانيا السابقة عندما تنفصل عنها أيرلندا الشمالية وأسكتلندا.

إنه حل واقعي، أولا. ومفيد، ثانيا. ويُغني عن الصداع، ثالثا. ويعيد تنظيم العلاقات بين المتنازعين، رابعا. ويضمن السلام، خامسا.

وماذا تريد أكثر من هذا، من أيّ اتفاق؟ وبعد إعداد وثائقه، في غضون ستة أشهر، يمكن لجمهرة الجماعات الليبية أن تذهب إلى فرساي، لكي توقّع عليه.

العرب