وسط فضاء دولي ملبد بالحروب والأزمات الاقتصادية، ومتداخلٍ في اصطفافاته المحورية، على خلفية الغزو الروسي لأوكرانيا، اقتنص الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ما اعتبره بمثابة الفرصة السانحة لإعلان تدخله الرابع عسكرياً في سورية، بعد عمليات “نبع السلام” و”غصن الزيتون” و”درع الفرات”، معتمداً توقيت انشغال الولايات المتحدة في تتبع حرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أوكرانيا، وتعاظم مخاوف إسرائيل والدول العربية من إحلال إيران قواتها على مساحات النفوذ الروسي في سورية، وحاجة دول حلف الناتو إلى شراء موافقته على دخول السويد وفنلندا الحلف حماية لاستقرار أمنها من اعتداءات محتملة من الجانب الروسي، ما يجعل فرص قبول عمليته أو رفضها قابلةً للاستثمار التركي الرابح في الموقفين.
وتحت عنوان لافت، وهو حاجة ضرورية للسوريين منذ عام 2012، وفي ظروف مغايرة ولأهداف مختلفة، تحاول تركيا استمالة الرأي العام العالمي للموافقة على إقامة منطقة آمنة، لكنّ مفهوم تلك المنطقة يختلف اليوم عنه سابقاً، ففي السابق، كان المفهوم منه توفير حماية دولية لتلك المناطق من قصف النظام السوري والدولتين المساندتين له (إيران وروسيا)، وتجنيب سكانها تدمير بيوتهم وأملاكهم وتهجيرهم منها، في حين أنها تجري اليوم، وفي غياب أيّ حلّ سياسي، ما يجعلها قابلة للقراءة من مفهوم أنها تسهم في تكريس الواقع الراهن، أي تكريس تقسيم سورية، والتغيير الديموغرافي، وعدم تمكين اللاجئين من العودة إلى مناطقهم وبيوتهم، وإيجاد منطقة نفوذ تركية جديدة في الشمال السوري، مع استمرار تعميق الجرج السوري ـ السوري، جرّاء مشاركة الفصائل العسكرية المحسوبة على المعارضة السورية (الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة) في بتلك المعارك ضد قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وبتعبير أدق، تزيد من أسباب الخلاف والعداء العربي – الكردي.
اللحظة السياسية، في ظلّ الحرب الروسية الأوكرانية، غير مؤاتيةٍ البتة لأيّ حلّ في سورية
وعلى أي حال، من الصعب توقع نجاح تلك الخطوة وفق النتائج التي تتأملها تركيا، لأنّ إيجاد منطقة كهذه يحتاج توفير رادع أمني دولي، كما يحتاج تمويلا دوليا، والاثنان لا توجد إرادة سياسية لهما، مع رفض الولايات المتحدة والدول الاوروبية أي حل خارج منطوق قرار مجلس الأمن 2254 (لعام 2016)، يضاف إلى ذلك أنّ اللحظة السياسية، في ظلّ الحرب الروسية الأوكرانية، غير مؤاتيةٍ البتة لأيّ حلّ في سورية، سواء أمني أو سياسي، بمعنى أن كل طرف يمكن في الظروف الراهنة أن يجمع الأوراق المؤاتية له، وفقط، في انتظار نتيجة الصراع الدولي في أوكرانيا. لكن ذلك لا يمنع أن تكون الولايات المتحدة تميل إلى أنّ تحلّ تركيا، بوصفها قوة دولية، في موقع متقدّم على كلّ من إيران وروسيا في الملف السوري، سياسياً وعسكرياً.
وفي الوقت ذاته، فإن وهم التعويل السوري، وتحديداً “الكردي”، على موقف الرئيس الأميركي جو بايدن في إفشال خطة تركيا لإقامة “منطقة آمنة” على حساب مناطق تحت سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية”، التي تتحرّك تحت الحماية الأميركية، يشبه تماما التعويل على التدخل الدولي لإسقاط النظام السوري، وإحداث التغيير في النظام السياسي، بما يرضي الشعب السوري، حيث تبقى المصالح المتبادلة بين الدول ذات الفعالية في الملف السوري هي بيضة القبّان التي ترجّح كفّة الميزان في معايرة الموقف من “المنطقة الآمنة” ومساحتها وأفق تطورها، وتداعي الاتفاقيات والتنازلات والانسحابات، بعد بدء أولى طلقات العملية وخلالها.
وربما تفيد إعادة دراسة الموقف الكردي من رغبات تركيا الأمنية وهواجسها، بعيداً عن التمنيات بدور كبير للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لوقف الحملة العسكرية، وخصوصا في ظل التقارب التركي مع الدول العربية، وتسويغ مطلبها بإعادة اللاجئين إلى داخل سورية، ووقف حملات التهجير خارج الحدود، وهو ما يرضي الغرب والدول المجاورة لسورية، وربما يقيس عليه كلّ من الأردن ولبنان لاحقاً، ما يشكّل ضغطاً دولياً يدفع ثمنه السوريون من وحدة الأراضي السورية، وإمكانية رتق الفتق الكبير في خريطتهم الجغرافية، والديموغرافية، والقومية.
ولعلّ العودة إلى التذكير بما استطاع أردوغان استثماره سابقاً لتحقيق خطواته داخل سورية يجعل من السهولة القول إن التعويل على المواقف الدولية كان وسيبقى مجرّد ورقة تتطاير حسب ريح المصالح الدولية، ففي عام 2016، استثمر الرئيس أردوغان الرغبة الروسية في استعادة حلب لإحداث تغيير حقيقي في خريطة النفوذين، العسكري والسياسي، في سورية، وانتزع الموافقة على عملية درع الفرات (24 أغسطس/ آب 2016 – 31 مارس/ آذار 2017)، ومن خلالها زرعت تركيا أولى قواعدها على مساحةٍ تقرب من خمسة آلاف كيلومتر مربع، وحققت أهدافها تحت غطاء حماية أمنها القومي، فسيطرت على المنطقة بين عفرين ومنبج، وحققت الهدف المباشر بإبعاد وحدات حماية الشعب الكردية إلى شرق نهر الفرات، كما أخرجت مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من جرابلس ودابق والباب في محافظة حلب شمال غربي سورية.
ولعل ما نتج عن تلك العملية هو ربط مصالح “الجيش الحر” وأجنداته بتحرّكات القوات التركية وأجندتها ضد القوات “الكردية”، وهو ما أضعف مواقع فصائل المعارضة المسلحة، حتى الراغبة في مقاومة روسيا في حلب، وبالتالي، انهيارها واستعادة روسيا سيطرتها عليها نيابة عن النظام السوري.
أدرك أردوغان حاجة الولايات المتحدة إلى التقارب مع تركيا، منعاً لتعميق العلاقات التركية الروسية
ولم يتأخر الرد التركي على إعلان الولايات المتحدة تشكيل قوة حدودية وتدريب معظم مقاتليها من الأكراد، وبقيادة “قسد”، فتدخلت عسكرياً عبر عملية غصن الزيتون (20 يناير/ كانون الثاني – 24 مارس/ آذار 2018)، حيث أدرك أردوغان حاجة الولايات المتحدة إلى التقارب مع تركيا، منعاً لتعميق العلاقات التركية الروسية التي قد تكون على حساب المصالح الأميركية في المنطقة، وفي تلك الحملة، تمت لتركيا السيطرة على بلدات وقرى عربية خاضعة لسيطرة وحدات حماية الشعب الكردية، وأيضا على منطقة عفرين بمحافظة حلب في شمال غرب سورية.
ولم يوفر الجانب التركي الفرصة، إثر إعلان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، في 7 أكتوبر/ تشرين الأول، عبر تغريدة له جاءت بعد إعلان البيت الأبيض سحب قوات أميركية من شمال سورية، قبيل العملية العسكرية التركية “نبع السلام” (9 أكتوبر 2019)، التي استهدفت منطقة شمال شرق سورية وطرد قوات سوريا الديمقراطية منها، وإقامة منطقة آمنة على عمق 30 كيلومترا من الحدود لإعادة توطين اللاجئين السوريين فيها. لم يستطع أردوغان آنذاك الاستمرار في تقدم قواته، نتيجة الضغط الأميركي الذي أوقف العملية بعد ثمانية أيام مقابل انسحاب قوات سوريا الديمقراطية مسافة 30 كم، ثم أعقبه اتفاق روسي – تركي في 22 أكتوبر، وافقت بموجبه تركيا على تسيير دوريات مشتركة على الحدود مع سورية.
يبقى التدخل العسكري في سورية، الذي فتح أبوابه النظام السوري بداية، هو العائق الأساسي لأي حل سياسي واقعي، لأن زيادة مساحة الأراضي المنتهكة من كلّ الجيوش المتصارعة في سورية تأتي على حساب كلّ السوريين تحت حكم النظام، أو خارجه، ما يبعد، بالقدر ذاته، أيّ أمل في صيانة سلامة سورية من التقسيم ديموغرافياً وجغرافياً.
العربي الجديد