معاداة الأكراد، كيف لم يعد لدى أردوغان شغل آخر

معاداة الأكراد، كيف لم يعد لدى أردوغان شغل آخر

يلاحق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الأكراد دون هوادة، فلا شغل له سوى السعي وراء تحجيم النفوذ الكردي شرق سوريا وتكبيل الأقلية الكردية في بلاده، مطوعا أي سلاح يمكن أن يفيده في ذلك وإن كان هذا السلاح تنظيم داعش الإرهابي، مستعينا بحلفائه القوميين الذين يدفعهم موقفهم المتطرف حيال الأكراد إلى منعهم من أبسط حقوقهم المدنية. لكن هذه الأقلية تحقق انتصارات على الأرض وتكتسب ثقة القوى الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة مما يجعلها تهدد كل مخططات أردوغان.

لا يوجد لدى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عدو إلا الأكراد. إنه يلاحقهم من هلسنكي إلى منبج في سوريا، بالطول. ومن زاخو إلى تل رفعت، بالعرض.

السبب المباشر، الذي بين يديه الآن، هو أن الأكراد هزموا دولة الخلافة الداعشية التي كان يقيم معها علاقات حسن جوار، باعتبارها امتدادا أيديولوجيا لخلافته هو.

هناك دوافع قومية وعنصرية تقليدية تتعلق بهوية تركيا الحديثة. إلا أن هذه الدوافع ظلت عرضة لعوامل التهذيب بفضل الروابط الأوروبية التي سعت تركيا الأتاتوركية للانتساب إليها.

هذه الروابط كانت بمثابة وجه آخر لتركيا، وحملت معها أخلاقيات أو قيما مختلفة، غير هويتها العنصرية، التي أنكرت على الأقليات حقهم في أن يكونوا أقليات.

الصدام بين تصورين للهوية التركية الحديثة، أوروبية من جهة وطورانية من جهة أخرى، هو الذي أورث الحركة القومية التركية الموقف المتطرف حيال الأكراد.

العدو الأوحد

الأكراد بدوا كقومية تتعصب لهويتها الخاصة على حساب قبول الانتساب إلى تركيا الأتاتوركية. وكان ذلك بمثابة رد فعل تلقائي، وطبيعي، على حقيقة أنهم كانوا الضحية الأكبر لنشوء تركيا الحديثة، وللانقلاب الذي فرضته معاهدة لوزان عام 1923 ضد الحقوق القومية الكردية.

إنهم الأقلية الأكبر في تركيا، وتضم أكثر من عشرين مليون نسمة، أو نحو ربع مجموع السكان. وعندما لم تنجح حركة “التتريك” بدمجهم عنوة، فقد أصبحوا بمثابة أعداء وجوديين للدولة التركية الحديثة، على عكس العلويين، الأقلية الثانية الأكبر، الذين أصبحوا تاليا هم عصب الدولة العلمانية وشاغلو مراكزها الإدارية الأهم.

الطورانية كمشروع قومي نبذت الرابطة الإسلامية بين الشعوب التي كانت خاضعة للاستعمار العثماني، واعتبرتها سببا لهزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى، لتنبذ من خلالها الرابطة الوحيدة الباقية مع الأكراد.

المفارقة، أو المنعطف، جاء مع تولي حزب العدالة والتنمية السلطة قبل عشرين عاما على أنقاض فشل المشروع الطوراني في بناء دولة مستقرة فعلا؛ دولة ظلت أسيرة للانقلابات العسكرية، وأسيرة لسياسات القمع لأنها عجزت أن تستوعب المعايير الأوروبية، وأرادت أن تُملي تصوراتها قسرا على الجميع، بحثا عن سبيل لتكوين “دولة – هوية” حديثة.

“العثمانيون الجدد” فازوا بالسلطة في العام 2002، إنما بشروط العلمانية والهوية القومية التركية نفسها والانتساب الأوروبي. وهو ما جعل مشروعهم الأيديولوجي مقيدا وقاصرا على الهدف التنموي المحلي بعد طول هزائم وانكسارات وأعمال قمع لأسلافهم الإسلاميين؛ تلك الأعمال التي انتهت بحل سلفهم المباشر “حزب الفضيلة” الذي كان يرأسه نجم الدين أربكان في العام 2001.

أحمد داوود أوغلو وعبدالله غل ورجب طيب أردوغان قدموا حزبهم الجديد على أنه “حزب إسلامي معتدل” يستمد شيئا من إرث العثمانية، ولكنه يقبل بالقيم العلمانية الأتاتوركية، ويقبل معها تطلعات الارتباط بالاتحاد الأوروبي، كما يقبل الهوية القومية الطورانية، باعتبارها هي الهوية التركية الوحيدة.

لم يعد للأكراد بذلك أي أمل في أن يكونوا جزءا من التغيير. ولم يجدوا وشيجة تبرر لهم القبول بدولة “الإسلام المعتدل” التي صارت تحكم تركيا منذ ذلك الوقت.

العنصر الآخر، بالنسبة إلى سلطة العدالة والتنمية، هو أن الحاجة إلى تعديلات دستورية كانت تتطلب أغلبية الثلثين في البرلمان. وهذه لم تتحقق إلا بالتحالف مع الحركة القومية.

وقدم مسلسل الانتخابات مؤشرات ذات معنى لسبب الحاجة إلى حلفاء من هذا النوع. ففي انتخابات العام 2002 حصل حزب العدالة والتنمية على نحو 34 في المئة من الأصوات، و363 مقعدا في البرلمان من مجموع 550. وفي انتخابات العام 2007، حصل الحزب على نحو 46 في المئة من الأصوات، ولكن مع عدد مقاعد أقل بلغ 341، وفي انتخابات العام 2011، حصل على نحو 49 في المئة من الأصوات، وبعدد مقاعد أقل بلغ 327، وفي انتخابات العام 2015، حصل الحزب على نحو 40 في المئة من الأصوات، وعدد مقاعد أقل أيضا بلغ 258، ولكن في انتخابات نوفمبر من العام نفسه فقد عزز العدالة والتنمية مواقعه بعدد مقاعد أعلى بلغ 317، ولكن الحاجة ظلت قائمة إلى التحالف مع الحركة القومية.

كل ما بناه أردوغان مع حلفائه القوميين سوف ينهار إذا ما عاد الأكراد ليشكلوا قوة سياسية كبيرة من جديد

الأكراد بقوا بذلك، وعلى طول خط هذا التحالف، هم أعدى الأعداء، لاسيما بعد أن تمكنوا من اجتياز العتبة العالية (10 في المئة) التي صُممت لمنعهم من دخول البرلمان، عندما تمكن حزب الشعوب الديمقراطي الكردي بالفوز بنحو 13 في المئة من مجموع الأصوات في انتخابات العام 2015، مما أتاح له أن يصبح ثالث أكبر حزب في البلاد، ليس بـ80 مقعدا فحسب، وإنما بمقاعد معظم المناطق الشرقية والجنوبية الشرقية الكردية في البلاد.

ارتباط حزب العدالة والتنمية بالحركة القومية بقيادة اليميني المتطرف دولت بهتشلي صنع من هذين الحزبين حزبا واحدا ليس في مناهضة الحقوق القومية الكردية فحسب، ولكن في مناهضة الارتباط بالمشروع الأوروبي نفسه.

الهوية القومية التركية المتطرفة هي التي انتصرت على امتداد العقدين الماضيين على الهوية التركية “العلمانية – الأوروبية”، ووفرت للرئيس أردوغان كل الأسس الذي اتبعها لإفشال شروط ومستلزمات الانتساب إلى الاتحاد الأوروبي، واختياره لسياسات الابتزاز والتهديد باللاجئين، ورفض التسويات لحل الأزمة القبرصية.

ومع محاولات تنقية الهوية القومية التركية من شوائبها الأوروبية، فقد أصبح الوجود القومي الكردي هو العدو، وليس حزب العمال الكردستاني وحده، الذي اعتبرته تركيا تنظيما إرهابيا.

هذا الحزب قرر إلقاء السلاح غير مرة. وعرض التوصل إلى حل سياسي لأزمة نكران الحقوق الثقافية الكردية، غير مرة أيضا. وتبنى قائده عبدالله أوجلان عدة مبادرات من أجل التعايش السلمي ونبذ العنف. إلا أنها قوبلت جميعا بالرفض والنكران.

وآخر ما كان يرغب أردوغان أن يراه، هو أن تظهر حركة كردية مسلحة في خضم تداعيات الانتفاضة السورية ضد نظام الرئيس بشار الأسد في العام 2011.

وحدات حماية الشعب الكردية لم تكن إلا تنظيما سعى لتجنيب المناطق الكردية تداعيات ما تحول إلى حرب أهلية، تدعم تركيا فيها فريقا مسلحا يقوده تنظيم الإخوان المسلمين، وذلك في موازاة تنظيم سياسي خاضع هو الآخر للمشروع الإخواني.

وجد الأكراد السوريون أن حقوقهم القومية المهضومة، على غرار الحقوق السياسية المهضومة لكل السوريين الآخرين، تبرر الدفاع عن فكرة أن يتمتع الأكراد بحقوق ثقافية وبنوع من الحكم الذاتي يوفر لهم عيشا كريما في بلد يعترف بحقوق مواطنيه الدستورية، ويقوم على أساس سيادة سلطة القانون.

لم تكن وحدات حماية الشعب الكردية إلا واقعا فرضته الظروف في مواجهة فصائل مسلحة تدعمها تركيا من ناحية، لتعد الأكراد في سوريا بما تعد به أنقرة الأكراد في تركيا، ومن ناحية أخرى، في مواجهة اتساع دائرة نفوذ تنظيم القاعدة، من قبل أن تظهر دولة داعش في الموصل في العام 2014.

ولم تفعل تركيا الأردوغانية شيئا سوى أنها تواطأت مع دولة الخلافة الداعشية، آخذة بعين الاعتبار الروابط الأيديولوجية نفسها التي يستند إليها جمهور الخلافة العثمانية في تركيا وأنصارهم من الإخوان في سوريا.

والأدلة التي أثبتت وجود صلات تجارية ولوجستية بين دولتي الخلافة أكثر من أن تعد. فتركيا، في أقل الحدود، كانت ممرا لعشرات الآلاف ممن التحقوا بالتنظيم من أوروبا وروسيا وأرجاء أخرى من العالم. وكانت تجارة النفط التي تمر إلى تركيا عبر شاحنات وسيلة التمويل الأهم لدولة الخلافة الداعشية.

والمقاتلون الأكراد هم الذين سحقوا هذه الدولة، ابتداء من معركة كوباني الشهيرة التي ألهبت الكثير من مشاعر التعاطف معهم، بالنظر إلى البسالة الشديدة التي أظهروها، رجالا ونساء، في المعارك من شارع إلى شارع، ومن منزل إلى منزل، حتى تمكنوا في نهاية المطاف من أن يُسقطوا عاصمة الخلافة في الرقة في العام 2017. كل المدن الكردية، من بعد كوباني، أصبحت رموزا لتلك البسالة في مواجهة الإرهاب.

كان الرئيس أردوغان يريد لدولة داعش أن تنتصر لتحقق له غاية أساسية من غايات التحالف القومي الحاكم في تركيا: سحق الطموحات الكردية في سوريا والعراق، لتكون أساسا للمزيد من أعمال القمع المنهجي ضد الأكراد في تركيا.

إلا أن الأكراد هم الذين كسبوا المعركة. وكسبوا معها شيئا آخر لا يقل أهمية من الناحية الاستراتيجية هو أنهم أصبحوا حليفا موثوقا للولايات المتحدة. وهو ما كان يعني بالنسبة إلى أردوغان خسارة صافية على جبهة الحرب ضد الأكراد وعلى جبهة العلاقات مع الولايات المتحدة.

تركيا لم تعثر على هويتها بعد. ومثلما أضاعت العسكرتاريا التركية ثلاثة أرباع قرن في الفشل السياسي والاقتصادي، فقد أضاع التحالف القومي – الإسلامي الحاكم، الفرصة لبناء هوية جامعة

وفي الواقع فإن كل ثغرات العلاقة مع واشنطن، في كل شأن من شؤونها، حتى الاقتصادية منها، إنما جعلت أردوغان يضع الأكراد تحت طائلة المزيد من الكراهية، على اعتبار أنهم هم الذين أسقطوا المكانة الاستراتيجية لتركيا بالنسبة إلى واشنطن، وبالنسبة إلى الحلف الأطلسي نفسه.

ويدرك أردوغان جيدا الأهمية الاستثنائية لانضمام السويد وفنلندا إلى الحلف الأطلسي، إلا أنه يعاند هذا الانضمام ليجعل من عقدته الكردية هي الأساس.

كان يريد أن يقبض ثمنا لقبول عضوية هذين البلدين، هو أن يتاح لتركيا أن تتمدد أكثر في الأراضي السورية من أجل أن تُضعف مكانة وحدات حماية الشعب الكردية التي شكلت الثقل الرئيسي لقوات سوريا الديمقراطية.

وكان يريد أيضا أن يجعل المقايضة تشمل توسيع “المنطقة الأمنية” التي تفرضها تركيا في الشمال السوري إلى عمق 30 كيلومترا، لتكون بمثابة حاضنة لنحو مليون لاجئ سوري يريد أن يطردهم من تركيا ويقيم منهم “كيانا” أمنيا خاضعا لسيطرته وسيطرة ميليشياته. أو بعبارة أخرى “دولة خلافة” ثانية هدفها الرئيسي هو محاربة الأكراد والانتقام، تحديدا، من انتصارهم على دولة داعش.

والأراضي التي يفترض أن تشملها هذه الدولة تمتد من تل رفعت ومنبج وكوباني وصولا إلى أقصى شمال شرق سوريا، حيث يتعين أن تتلاقى مع قواعده التي يقيمها في شمال العراق.

إنها دولة خلافة جديدة، إنما بعناصر أردوغان، وبما يتسرب إليها من عناصر داعش الذين تحتجزهم قوات سوريا الديمقراطية. وهؤلاء جيش جاهز سلفا ويبلغ عددهم نحو 10 آلاف مقاتل. ويعتقد أردوغان وحلفاؤه في سوريا أنهم مقاتلون أشداء، أولا، ولديهم خصومة كافية مع الأكراد، ثانيا، ويمكن تطويعهم وإعادة تأهيلهم، ثالثا.

وقفت الولايات المتحدة حجر عثرة حتى الآن أمام هذا المشروع. ولكن أردوغان يراهن على أن فرصه في الأطلسي، ونوافذه التقليدية في واشنطن يمكنها أن تؤدي في نهاية المطاف إلى تغيير الصورة هناك.

إنه يريد نفوذا أوسع في سوريا. ويريد أن يحتفظ بالقدرة على ملاحقة مسلحي حزب العمال الكردستاني. ولكنه يريد بالدرجة الأولى أن يُقصي الأكراد في تركيا من المعادلة السياسية التي أتاحت لهم موقعا مؤثرا في البرلمان.

هؤلاء الأكراد ليسوا مجرد نواب يمكن طردهم من مقاعدهم. ولا هم مجرد دعاة حرية وعدالة ومساواة داخل المجتمع التركي. إنهم قوة يمكنها أن تعيد بناء مشروع الهوية القومية في تركيا.

كل ما بناه أردوغان مع حلفائه القوميين سوف ينهار إذا ما عاد الأكراد ليشكلوا قوة سياسية كبيرة من جديد في انتخابات العام المقبل.

والعدو الذي ظل يلاحقه أردوغان في كل مكان، من هلسنكي إلى منبج، سوف يقتحم عليه داره في تلك الانتخابات. هذا هو الخوف الذي ترتعد له الفرائص.

وبالنسبة إلى الرئيس التركي، لا يوجد على سطح الكرة الأرضية عدو أخطر من هذا. الأكراد هم العدو الأوحد. ولهذا السبب فإنهم شغله الشاغل. يراهم حتى في المنام. ويظهرون له كأشباح موت زؤام، حتى ولو أنهم لم يطلبوا حقوقا أكثر مما تعطيه أي دولة تتعايش مع أقلياتها، وتعتبرهم جزءا من هويتها الوطنية العريضة.

تركيا لم تعثر على هويتها بعد. ومثلما أضاعت العسكرتاريا التركية ثلاثة أرباع قرن في الفشل السياسي والاقتصادي، فقد أضاع التحالف القومي – الإسلامي الحاكم، على امتداد عشرين سنة أخرى، الفرصة لبناء هوية جامعة.

العرب