دفعت حالة الحرب في أوكرانيا الرئيس فلاديمير بوتين إلى سحب بعض القوات الروسية من سوريا في الشهرين الماضيين وإرسالها إلى أوكرانيا.
وبذلك، سلّمت موسكو عددا من قواعدها الجوية إلى حزب الله وفيلق الحرس الثوري الإيراني. وسيطر الحرس الثوري على مستودع ماهين العسكري في شرق حمص، أحد أكبر المخازن في سوريا، ويضم 25 منشأة لتخزين الأسلحة والذخيرة.
ويرى الباحث محمد سلامي في تقرير نشرته مؤسسة عرب دايجست الاستشارية أن هذه الخطوة تعدّ لعبة استراتيجية، حيث يقوي الفراغ الروسي في سوريا إيران.
وكانت روسيا نشرت أكثر من 63 ألف جندي لدعم نظام الرئيس بشار الأسد منذ دخولها الحرب الأهلية السورية في 2015.
محمد سلامي: الانسحاب الروسي من سوريا يقرّب الأسد أكثر من طهران
وكان الرئيس السوري بشار الأسد، حتى قبل بدء الحرب في أوكرانيا، غير مطمئن بشأن مستوى التزام روسيا في سوريا، وتحولت تلك المخاوف إلى حالة من القلق بمجرد اندلاع الحرب. وأرسل بعد أربعة أيام على بدء الحرب مدير مكتب الأمن القومي علي مملوك إلى طهران، للتحدث مع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي وأمين المجلس الأعلى للأمن القومي الأدميرال علي شمخاني.
ومطلع مارس، زار علي أصغر خاجي، كبير مستشاري وزير الخارجية الإيراني للشؤون السياسية الخاصة، سوريا واستقبله الأسد. واكتمل المشروع بزيارة الرئيس السوري غير المتوقعة إلى طهران في مايو. وكانت رسالة الرحلة واضحة، حيث احتاج الأسد إلى أن تُعيد إيران تأكيد التزامها حتى لا يضعف انسحاب موسكو يده في الحرب الأهلية.
وترى إيران من جهتها في رحيل القوات الروسية فرصة متاحة لها، كما تسعى طهران، على الصعيد الاقتصادي، للمشاركة في مشاريع إعادة الإعمار في سوريا.
واشتكى المسؤولون الإيرانيون أثناء زيارة علي مملوك من أنهم لم يشاركوا في مشاريع اقتصادية مع منح الروس امتيازات ضمنت تفوّقهم في هذا المجال. وقد يضطر الأسد، الذي يسعى لممارسة لعبة التوازنات بين مختلف الأطراف، إلى جعل طهران شريكته الاقتصادية الرئيسية في عملية إعادة الإعمار. وستسعى طهران على المدى الطويل إلى تحويل سوريا إلى واحدة من أكبر وجهات تصديرها لدعم اقتصادها المتردي الذي أضعفته العقوبات.
ولدور طهران المعزز في سوريا فوائد جيوسياسية أيضا، حيث سيسعى الإيرانيون إلى تعزيز نفوذهم العسكري بالقرب من إسرائيل مع استمرار حرب أوكرانيا. وقد عززت إيران وجودها الإقليمي في سوريا وكثفت تهريب أسلحتها إلى سوريا ولبنان، معتمدة على أنظمة الاستطلاع وأنظمة الدفاع الصاروخي والطائرات المسيّرة.
وتنتاب الإسرائيليين مخاوف أخرى بشأن الانسحاب. ويسمح اتفاق يجمعهم بالروس بضربات إسرائيلية داخل سوريا على أهداف حزب الله والحرس الثوري الإيراني. وعلى أمل إبقاء أي دعم إسرائيلي رسمي لأوكرانيا عند مستوى فاتر، أصدرت السفارة الروسية بيانا ذات يوم في الحرب سعت فيه إلى طمأنة تل أبيب، جاء فيه “يناقش مسؤولونا العسكريون القضايا العملية لهذا الموضوع بشكل يومي. وقد أثبتت هذه الآلية فائدتها وسيستمر العمل بها”. وقد نفّذ الإسرائيليون عدة ضربات منذ بدء حرب أوكرانيا (والمئات منذ بداية الحرب الأهلية في سوريا).
ومع ذلك، في إشارة إلى أن إسرائيل قلقة من خسارة طائراتها المقاتلة مع تراجع النفوذ الروسي، فإنها تلجأ إلى الضربات الصاروخية، وكان آخرها هجوم الحادي عشر من يونيو على مطار دمشق الدولي.
ويتساءل الإسرائيليون عما سيحدث إذا سُلّم نظام أس – 300 المضاد للطائرات، الذي يديره الروس الآن في سوريا والذي صنفه خبراء الدفاع على أنه فعال للغاية، إلى قوات النظام، خاصة وأن الأسد مجبر على تمتين علاقته مع طهران.
ويقول المحلل السياسي إن أكبر الخاسرين في الوجود الإيراني المعزّز في سوريا هم العرب وإسرائيل، حيث سعت الدول العربية، وخاصة الإمارات العربية المتحدة، إلى إبعاد سوريا عن إيران من خلال متابعة عملية التطبيع مع النظام.
وتكهّن البعض بأن أبوظبي قد تستغل علاقاتها المحسنة مع سوريا وتوسيع العلاقات مع إسرائيل لدفع دمشق وتل أبيب نحو تسوية من نوع ما، في أعقاب زيارة الأسد إلى الإمارات العربية المتحدة في مارس 2022.
عززت إيران وجودها الإقليمي في سوريا وكثفت تهريب أسلحتها إلى سوريا ولبنان، معتمدة على أنظمة الاستطلاع وأنظمة الدفاع الصاروخي والطائرات المسيّرة
ومع ذلك، كانت معارضة إسرائيل والتأكيد على دعم فلسطين، بالإضافة إلى قوى المقاومة، مواضيع سائدة في اجتماعات الأسد في طهران، حيث قال خلال لقاء مع المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي في طهران إن العلاقات الاستراتيجية بين إيران وسوريا أصبحت العامل الرئيسي الذي يمنع هيمنة إسرائيل على المنطقة.
ويرى سلامي، وهو أيضا كاتب عمود في العديد من وسائل الإعلام وزميل باحث مشارك غير مقيم في المعهد الدولي للتحليل الاستراتيجي العالمي، أن زيارة الأسد لطهران أظهرت أن سوريا ستبقى على “محور المقاومة”، وأن اتفاقيات أبراهام ستبقى بعيدة عن دمشق. ومكّن لقاؤه مع المرشد الأعلى طهران من إظهار تماسك المحور في المنطقة مرة أخرى.
وبناء على ذلك، يشدد الباحث على أن إيران ستعمل، بملئها الفراغ الذي خلقته روسيا، على تقوية وكلائها المخلصين في سوريا، وبالتالي الضغط على إسرائيل والعرب. ويبرز مثال على ذلك في الثاني من مارس، حين سافر فالح الفياض، رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقي التابعة لإيران، إلى سوريا والتقى بشار الأسد. وتطرّق خلال الاجتماع إلى مخاوف إيران الأمنية. وتريد إيران من قوات الأسد الحد من حركة حزب العمال الكردستاني بين الحدود العراقية والسورية، والضغط على قوات سوريا الديمقراطية المتحالفة مع الولايات المتحدة.
وحوّلت إيران دير الزور إلى مركز لميليشياتها. وتتمركز وحدات الحرس الثوري الإيراني وحزب الله ولواء الباقر ولواء “فاطميون” وحركة حزب الله النجباء وكتائب سيد الشهداء من البوكمال في الجنوب إلى بلدة التبني في الشمال. ويجسّد هذا الوجود الضخم للميليشيات إبرازا للقوة اللوجستية لميليشيات إيران في العراق وسوريا. وتعتمد طهران هذه الميليشيات لموازنة كل من قوات سوريا الديمقراطية وروسيا، وتحاول جعل الميليشيات جهة فاعلة دائمة في دير الزور، من خلال المراكز الثقافية والمنظمات غير الحكومية وشراء العقارات.
وسيؤدي تعزيز وكلاء إيران في سوريا إلى هجمات إسرائيلية أكثر كثافة على قواعدهم، مما يؤدي إلى المزيد من الاضطرابات في سوريا واستمرار العقوبات الأميركية ضد دمشق. كما أنه سيتدخل في خطط دول عربية مثل الإمارات لإخراج الأسد من العزلة سعيا وراء عملية التطبيع.
كما سيؤدي الانسحاب الروسي إلى تقريب بشار الأسد من طهران. ومع ذلك، يبقى أن نرى ما إذا كانت روسيا ستتمكن من استعادة نفوذها السابق في سوريا، إذا اتفقت إيران والولايات المتحدة على المحادثات النووية أو إذا انتهت الأزمة الأوكرانية.
صحيفة العرب