الفلسطينيون “سيفوزون حتماً”: لماذا يتنبأ الإسرائيليون بنهاية دولتهم

الفلسطينيون “سيفوزون حتماً”: لماذا يتنبأ الإسرائيليون بنهاية دولتهم

في حين أنه من الصحيح أن الصهيونية هي أيديولوجية سياسية حديثة استغلت الدين لتحقيق أهداف استعمارية محددة في فلسطين، إلا أن النبوءات ما تزال تشكل عنصرًا حاسمًا في تصور إسرائيل لنفسها، وعلاقة الدولة بالجماعات الأخرى، وخاصة الجماعات المسيحية المسيحانية (1) في الولايات المتحدة والعالم.
تم تسليط الضوء مرة أخرى على موضوع النبوءات الدينية ومركزيتها في الفكر السياسي الإسرائيلي بعد تصريحات أدلى بها رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إيهود باراك، في مقابلة حديثة مع صحيفة “يديعوت أحرونوت” الناطقة بالعبرية. وقد أعرب باراك، الذي يُنظر إليه على أنه سياسي “تقدمي”، والذي كان في يوم من الأيام زعيم حزب العمل الإسرائيلي، عن مخاوفه من أن إسرائيل سوف “تتفكك” قبل حلول الذكرى الثمانين لتأسيسها في العام 1948.
وقال باراك: “طوال التاريخ اليهودي، لم يحكم اليهود لأكثر من ثمانين عامًا، باستثناء مملكتي داود وسلالة الحشمونية، وفي كلتا الفترتين، بدأ تفككهم في العقد الثامن”.
بناءً على تحليل تاريخي زائف، بدا أن نبوءة باراك تدمج الحقائق التاريخية مع التفكير الإسرائيلي المسيحاني النموذجي، وتذكرنا بالتصريحات التي أدلى بها رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، بنيامين نتنياهو، في العام 2017.
مثل باراك، تم التعبير عن تعليقات نتنياهو في شكل خوف على مستقبل إسرائيل، و”التهديد الوجودي” الذي يلوح في الأفق، وهو حجر الزاوية في الهاسبارا (2) الإسرائيلية على مر السنين. في جلسة لدراسة الكتاب المقدس في منزله في القدس، حذر نتنياهو بعد ذلك من أن مملكة الحشمونائيم -المعروفة أيضًا باسم المكابيين- قد نجت فقط لمدة 80 عامًا قبل أن يغزوها الرومان في 63 قبل الميلاد.
ونقلت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية عن نتنياهو قوله إن “دولة الحشمونائيم استمرت 80 عاما فقط، وعلينا أن نتجاوز ذلك (الرقم)”.
ولكن، حتى وفقًا لتصميم نتنياهو المزعوم على تجاوز هذا الرقم، فقد تعهد، كما قيل، بضمان أن تتجاوز إسرائيل الثمانين عاماً التي بلغها المكابيون، وأن تبقى على قيد الحياة لمائة عام؛ أي مجرد 20 عاما أخرى.
الفارق بين تصريحات باراك ونتنياهو لا يكاد يذكر: يُفترض أن وجهات نظر الأول “تاريخية”، بينما وجهات نظر الثاني توراتية. ومع ذلك، تجدر ملاحظة أن كلا الزعيمين، على الرغم من أنهما ينتميان إلى مدرستين سياسيتين مختلفتين، قد التقيا في نقاط لقاء متماثلة: أن بقاء إسرائيل على المحك؛ التهديد الوجودي حقيقي ونهاية إسرائيل مسألة وقت فقط.
لكن التشاؤم الموجود في إسرائيل لا يقتصر على القادة السياسيين المعروفين بالمبالغة في الحقائق والتلاعب بها لغرس الخوف وتهييج معسكراتهم السياسية، وخاصة الجماهير المسيحانية القوية في إسرائيل. وعلى الرغم من أن هذا صحيح، فإن التوقعات بشأن مستقبل إسرائيل الكئيب لا تقتصر على النخب السياسية في البلاد.
في مقابلة مع صحيفة “هآرتس” في العام 2019، كان لدى أحد المؤرخين الأكثر احترامًا في إسرائيل، بيني موريس، الكثير ليقوله عن مستقبل بلاده. وعلى عكس باراك ونتنياهو، لم يكن موريس يرسل إشارات تحذيرية، وإنما يذكر ما بدا له نتيجة حتمية للتطور السياسي والديموغرافي في البلاد.
قال موريس: “لا أرى كيف نخرج من هذا”، مضيفًا: “يوجد اليوم عرب أكثر من اليهود بين البحر (المتوسط) و(نهر) الأردن. وتصبح كل المنطقة بطريقة حتمية دولة واحدة ذات أغلبية عربية. ما تزال إسرائيل تطلق على نفسها اسم “دولة يهودية”، لكنَّ الوضع الذي نحكم فيه شعبًا محتلًا ليس له حقوق لا يمكن أن يدوم في القرن الحادي والعشرين”.
بينما كانت تنبؤات موريس ملتزمة بالتخيل العنصري للأغلبية اليهودية، إلا أنها كانت أكثر وضوحًا وواقعية بكثير إذا ما قورنت بتوقعات باراك ونتنياهو وآخرين. الرجل الذي أعرب ذات مرة عن أسفه لأن مؤسس إسرائيل، ديفيد بن غوريون، لم يطرد جميع سكان فلسطين الأصليين في 1947-48، تحدث بإذعان بأن إسرائيل ستتوقف، في غضون جيل واحد، عن الوجود في شكلها الحالي.
لعل ما تجدر ملاحظته بشكل خاص في تعليقاته هو التصور الدقيق بأن “الفلسطينيين ينظرون إلى كل شيء من منظور واسع وطويل الأجل”، وأن الفلسطينيين سيستمرون في “المطالبة بعودة اللاجئين”. ولكن، مَن هم “الفلسطينيون” الذين كان يشير إليهم موريس؟ إنهم بالتأكيد ليس “السلطة الفلسطينية” التي قام قادتها مسبقاً بتهميش حق العودة للاجئين الفلسطينيين، والتي ليس لديها بالتأكيد “منظور واسع وطويل الأجل”. إن “الفلسطينيين” الذين يتحدث عنهم موريس هم، بطبيعة الحال، الشعب الفلسطيني نفسه، الذي عملت أجياله، وما تزال، باعتبارها الطلائع للحقوق الفلسطينية على الرغم من كل النكسات والهزائم و”التسويات” السياسية.
في الحقيقة، ليست النبوءات المتعلقة بفلسطين وإسرائيل ظاهرة جديدة. فقد احتل الصهاينة فلسطين بمساعدة بريطانيا، بناءً على أطر مرجعية توراتية أيضاً. وكان المستوطنون الصهاينة يأتون للسكن فيها بناءً على مراجع توراتية مكرسة لفكرة استعادة الممالك القديمة و”عودة” الشعوب القديمة إلى ما يُفترض أنها “أرض الميعاد” التي هي “حقهم المشروع”. وعلى الرغم من أن إسرائيل اتخذت العديد من المعاني المختلفة على مر السنين -حيثُ نُظِر إليها على أنها يوتوبيا “اشتراكية” في بعض الأحيان، وملاذ ليبرالي وديمقراطي في أحيان أخرى- فقد كانت مهوَّسة ومنشغلة دائمًا بالمعاني الدينية والرؤى الروحية ومأخوذة بالنبوءات. وكان التعبير الأكثر شراً عن هذا الواقع هو حقيقة أن الدعم الحالي الذي تتلقاه إسرائيل من ملايين الأصوليين المسيحيين في الغرب مدفوع إلى حد كبير بنبوءات مسيحانية متصلة بنهاية العالم.
تستند التوقعات الأخيرة حول مستقبل إسرائيل الخالي من اليقين إلى منطق مختلف. نظرًا لأن إسرائيل عرّفت نفسها دائمًا بأنها “دولة يهودية”، فإن مستقبلها مرتبط في أغلبه بقدرتها على الحفاظ على أغلبية يهودية في فلسطين التاريخية. وباعتراف موريس وآخرين، فإن هذا الحلم الكاذب ينهار الآن حيث تُخسَر “الحرب الديموغرافية” بشكل سريع وواضح.
بطبيعة الحال، سوف يكون التعايش في دولة ديمقراطية واحدة دائمًا احتمالًا ممكنا. ولكن، للأسف، بالنسبة لمنظري إسرائيل الصهاينة، لن تلبي مثل هذه الدولة الحد الأدنى من توقعات مؤسسي الدولة، لأنها لن تعود موجودة في شكل دولة يهودية صهيونية. ولكي يتحقق التعايش، يجب إلغاء الأيديولوجية الصهيونية جملة وتفصيلاً.
إن باراك، ونتنياهو وموريس محقون تماماً: لن تظل إسرائيل كـ”دولة يهودية” موجودة لفترة طويلة. ولدى الحديث بصرامة من حيث الديموغرافيا، لم تعد إسرائيل دولة ذات أغلبية يهودية. وقد علَّمنا التاريخ أن المسلمين والمسيحيين واليهود يمكنهم التشارك في التعايش السلمي والازدهار الجماعي، كما فعلوا في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشبه الجزيرة الأيبيرية لآلاف السنين. وهذا، في الواقع، توقع، بل وحتى نبوءة تستحق السعي بجدية من أجل تحقيقها.

الغد