تابعت الأوساط السياسية والإعلامية ومراكز الدراسات والبحوث زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن للمنطقة العربية والتي استمرت عدة أيام كونها تمثل الانطلاقة الاولى نحو الشرق الأوسط بعد ابتعاد لسنتين من قبل الإدارة الأمريكية، وتسارع الاحداث السياسية التي أعقبت المواجهة الروسية الأوكرانية وما ألت إليها من نتائج ميدانية واقتصادية كان لها الأثر البالغ على مستويات المنظومة الاقتصادية العالمية وأسواق الطاقة والضرورات الحتمية التي جعلت من مؤسسات الحكم الأمريكي تتعامل بواقعية مع الأحداث بغض النظر عن المواقف الصادرة من الرئيس بايدن حول أهمية منطقة الشرق الأوسط وطبيعة العلاقات والشراكة الاستراتيجية مع المملكة العربية السعودية، وبهذا فإن الزيارة تمثل خيار مطلق قائم على التعامل الميداني واتباع سياسة الواقع المنظور والابتعاد عن المثالية فيما تدعيه الإدارة الأمريكية أي أنها أدركت ضرورة وحتمية تصحيح المسار في العلاقات القادمة مع حلفائها وشركائها في منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط، جاءت الزيارة تعبير واضح عن اتفاق مشترك مثل الرؤية السياسية لعدد من الدوائر الحكومية المهمة التي ترسم معالم السياسة الخارجية لواشنطن وهي وزارتي الخارجية والدفاع ومجلس الأمن القومي والمخابرات والكونغرس التي رأت المصلحة العليا لأمريكا تقتضي القيام بهذه الزيارة لتكون معيار اتفاق الواقعية السياسية على المثالية التي تدعيها الإدارة الأمريكية في سياستها مع الدول ولتكون رد فعل ميداني في قربها لمنطقة الشرق الأوسط التي يراها هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق انه لا يجوز أبدا التفريط بها فهناك الدب الروسي والتنين الصيني اللذين يعتبران أن النسر الأمريكي قد دخل مرحلة الشيخوخة وعليه الاعتزال ، ومن هنا جاء تأكيد الرئيس جوبايدن على أنه سوف لا يغادر منطقة الشرق الأوسط ولا يسمح باي تواجد ونفوذ روسي صيني يمكن أن يكونا بديلا عن المصالح والتواجد الأمريكي.
أدركت واشنطن أن هناك قوى إقليمية تحاول الهيمنة والسيطرة والنفوذ على منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي ممثلة بالمشروع الإيراني التوسعي وعبر اذرعها ووكلائها من المليشيات والفصائل المسلحة المدعومة من قبل الحرس الثوري الإيراني وفيلق القدس والتي تنتشر في أقطار عربية عديدة هي العراق وسوريا ولبنان واليمن وهذا ما تطرق اليه بايدن واحتوته البيانات المشتركة بين قادة دول الخليج العربي ومصر والأردن والعراق والولايات المتحدة الأمريكية، ولكن الخطاب الأمريكي لم يكن متكاملا فقد أمضى إلى تحديد مفهوم التهديد الإيراني بالبرنامج النووي وعدم تجاوبه مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومفاوضات الحوار في العاصمة النمساوية فيينا وابتعد عن الإشارة بصورة تامة عن برنامج الصواريخ البالستية وسياسة النفوذ والتمدد في المنطقة العربية وهذا ما أكده الرئيس بايدن أنه يرى الحل دبلوماسي مع إيران وانه اختيار أمريكي مع إدراكه أن الدبلوماسية لم تتمكن من إيقاف التوجهات الإيرانية التي أصبحت تهدد أمن واستقرار المنطقة وهذا من الأخطاء الإستراتيجية التي وقعت فيها جميع الإدارات الأمريكية منذ احتلال العراق في التاسع من نيسان عام 2003 .
إن الأوضاع السياسية المتسارعة في منطقة الشرق الأوسط تتطلب من الإدارة الأمريكية اتباع سياسة جديدة في علاقاتها ونظرتها الواقعية لكيفية التعامل مع حلفائها بإيجاد بدائل تتمثل بصيغ جديدة بعيدة عن سياسة التجديد والاستعادة أي أن لا تخوض واشنطن في معترك العودة إلى سمات علاقتها والإبقاء على سياستها السابقة والتعامل مع مقتضيات الحالة الرئيسية التي تمر بها المنطقة لكي تستعيد علاقتها بشكل متوازن ولا تبقى أسيرة لتوجهات سابقة وأهداف ماضية ، خاصة وأن الجانب العربي السعودي أعطى مفهوم سياسي جديد في علاقته مع واشنطن معتبر أن شعار النفط مقابل الأمن أصبح من الماضي ، فالسعي إلى تعاون استراتيجي وتكامل اقتصادي وتعزيز للامن الجماعي هي أهداف مشتركة تحاول فيها الرياض تعزيز مؤسساتها العسكرية والأمنية وتنشيط فعالية مواطنيها للتعلم وكسب الخبرات وحماية وطنهم .
تبقى الأسس التي تمخض عنها مؤتمر جدة للامن والتنمية في 16 تموز 2022 انها رسمت ملامح وآفاق التعاون المستقبلي بين واشنطن والدول الحاضرة للمؤتمر في تحديد مفهوم الشراكة والتعاون المشترك وتعزيز الامن والتنمية وتحقيق الأمن الغذائي وبذل الجهود لتعافي الاقتصاد العالمي وتحديد المخاطر الرئيسية للامن القومي العربي عبر مواجهة الخطر والتهديد الإيراني ، مع تحديد ثوابت السياسة الأمريكية بمنطقة الشرق الأوسط وعدم تركها التوجهات والخطط الروسية الصينية وتفعيل دورها في ضمان حرية وامن ممرات الملاحة العربية ودعم الهدنة السياسية في اليمن للوصول إلى اتفاق مع جميع الأطراف وتحقيق الأمن والسلم الأهلي.
ولكن مع كل هذه الاتفاقيات لم يتمكن الرئيس الأمريكي جو بايدن من الحصول على التزامات سعودية برفع سقف إنتاج النفط بشكل فوري وفشل في تحريك مسار ما كان يرغب به في العلاقة بين الرياض وتل أبيب مكتفيا بإبداء دور واشنطن في إعادة العلاقات مع حلفائها في المنطقة إلى مسارها الصحيح وتعميق التعاون الدفاعي الاستخباري بينهم.
سجل الحوار الأمريكي الفلسطيني موقفا خجولا لم يرتقي لمستوى المباحثات التي جرت بين الجانبين ومعاناة الشعب الفلسطيني وحقه في العودة بعد أن أشار بايدن إلى صعوبة تحقيق مبدأ حل الدولتين ولم يبدي موقفا واضحا من إعادة فتح القنصلية الأمريكية في مدينة القدس الشرقية واكتفى بتقديم منحة مالية تقدر ب (316)مليون دولار وهي الجانب الوحيد الذي تحقق في لقاىة مع رئيس السلطة الفلسطينية وتضمن (200) مليون دولار لوكالة الغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين ودعم المستشفيات العاملة في القدس الشرقية بمبلغ (100) مليون دولار قدمت من قبل دول الخليج العربي.
في حين أن لقائه مع حكومة الاحتلال تضمنت تأكيد الروابط المتينة والتزام واشنطن بأمن الكيان المحتل وتعميق الشراكة بينهما والحفاظ على وجوده وتفوقه العسكري والاتفاق على عدم السماح لإيران بامتلاك يوما لسلاح نووي واستخدام القوة الوطنية الأمريكية لضمان هذه النتيجة وتعزيز التعاون الاقتصادي برفع قيمة الدفع المالي لحكومة الاحتلال لتبلغ (38) مليار دولار .
تبقى الأهداف السياسية والأمنية وما تحقق في هذه الزيارة عنوان لبداية مرحلة جديدة في توجهات الولايات المتحدة الأمريكية واهتمامها بمنطقة الشرق الأوسط والوطن العربي و السعي لتنفيذ رؤيتها للأعوام القادمة وحسب ما تقتضيه مصالحها واهدافها الإستراتيجية.
وحدة الدراسات الدولية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية