الباحثة شذى خليل*
تعرض اليورو الى هزات اقتصادية قوية أمام العملة الأمريكية منذ غزو روسيا لأوكرانيا، إذ هبطت العملة الأوروبية إلى أدنى مستوى لها في 20 عاما مع ارتفاع أسعار الغاز وعدم اليقين بشأن إمدادات الطاقة الروسية، ما أثار مخاوف الركود في منطقة اليورو.
حيث ما يقرب من عقدين تبادل اليورو والدولار الأمريكي بمعدل 1 إلى 1 لأول مرة، عندما كانت العملة الأوروبية في بداية عهدها ، و تراجع سعر اليورو ليوازي سعر الدولار الأميركي، مما سبب انعكاسات خطيرة على الاقتصاد الأوروبي كالتضخم والقدرة الشرائية للمواطن وزاد من العبء على الأسر والشركات الأوروبية التي تعاني بالفعل من التضخم المرتفع إلى مستويات قياسية. ومن شأن ضعف اليورو أن يجعل الواردات، التي هي في الغالب بالدولار، أكثر تكلفة.
وعندما تكون هذه المواد المستوردة مواد خام أو سلعا وسيطة، فإن تكاليفها المرتفعة يمكن أن تؤدي إلى زيادة ارتفاع الأسعار المحلية. وهذا ما أكده الخبراء “سيكون هناك حمل أكبر على الاقتصاد الأوروبي نتيجة لضعف اليورو”.
ووصل سعر صرف العملة الأوروبية الى دون مستوى دولار واحد (0.9998 دولارا) في -فترة وجيزة- وذلك للمرة الأولى في مؤشر على أن اليورو أمام تراجع أكبر في حال كانت قرارات المركزي الأوروبي هذا الشهر دون توقعات الأسواق الأولى منذ عام 2002.
اليورو :
يُعدّ اليورو العملة الرسمية القانونية منذ يناير / كانون الثاني 1999 لنحو 340 مليون شخص في 19 دولة من دول الاتحاد الأوروبي، وستكون كرواتيا الدولة الـ20 التي تعتمد اليورو عملة رسمية، بعد أن وافق وزراء مالية دول الاتحاد الأوروبي ، بشكل نهائي على طلبها، وسيدخل القرار في الأول من يناير/كانون الثاني 2023 حيز التنفيذ.
منذ بداية العام واليورو يفقد قوته مقابل الدولار، عندما كان يحوم بالقرب من 1.13 دولار، وسط حملة قوية لمكافحة التضخم من قبل مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي ، إلى جانب الاضطرابات العالمية الأوسع التي أطلقها الغزو الروسي على أوكرانيا.
لقد وصلا إلى التكافؤ، ووفقا لبيانات موقع “بلومبيرغ”، فقد تراجع سعر صرف اليورو بنسبة تفوق 0.7% إلى 1.0038 دولار، في وقت تعزز فيه سعر الدولار بسبب وضعه ملاذا آمنا ورفع أسعار الفائدة الأميركية.
يقول خبراء الاقتصاد، إن تراجع اليورو يشير أيضا إلى تباطؤ وتيرة التجارة العالمية، مما يزيد من مخاوف الركود خصوصا في دول الاتحاد الأوروبي. ما سيدفع إلى ارتفاع التضخم في دول منطقة اليورو، لأنهم سيكونون بحاجة إلى يورو أكثر لشراء السلع المستوردة.
والتقديرات تشير الى أن قرابة 60% من واردات منطقة اليورو تتم بعملة الدولار الأمريكي، ما يعني أن الغلاء سيسجل قفزات جديدة في حال استمرار تراجع العملة الأوروبية الموحدة.
وسيكون تراجع اليورو أمرا في غاية الإيجابية لقطاع التصنيع في منطقة اليورو، خاصة الصناعات التحويلية مثل السيارات والطائرات والمعدات الثقيلة، لأن صادراتهم تتم معظمها بالدولار، بالتالي يحصلون على يورو أكثر من كل دولار.
الحرب الروسية الأوكرانية أججت بشكل كبير من ارتفاع حاد في أسعار الطاقة والمحروقات، خاصة في ظل الانكماش الاقتصادي وارتفاع نسبة التضخم في منطقة اليورو إلى أكثر من 5% مع بداية العام الحالي، وهي أعلى نسبة في القارة الأوروبية منذ 30 عاما، بحسب آخر الأرقام التي نشرها مكتب “يورو ستات” (Euro stat) للإحصائيات التابع للمفوضية الأوروبية، إذ أدى الصراع إلى تقلب الإمدادات الغذائية ودفع أسعار الطاقة إلى الارتفاع في جميع أنحاء العالم، مما أثر بشكل خاص على الاتحاد الأوروبي، حيث اعتمدت العديد من الدول بشكل كبير على واردات الوقود الأحفوري الروسي، كجزء من حملة الضغط على جارتها الشرقية، تحرك الاتحاد الأوروبي المكون من 27 دولة لفطم نفسه عن النفط الروسي، في حين خفضت موسكو تدفقات الغاز بشكل حاد، ورفع التكاليف بالنسبة للأوروبيين الذين ما زالوا يعانون بالفعل من وباء كورونا، ليضاف إليها الحرب الروسية الأوكرانية.
في الولايات المتحدة، رفع الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة بقوة، ودفع عائدات سندات الخزانة إلى الأعلى، وجعل الدولار أكثر جاذبية للمستثمرين من اليورو، ورفع البنك المركزي الأمريكي أسعار الفائدة ثلاث مرات في عام 2022، وأشار إلى أن لديه أربع زيادات أخرى مخططة كجزء من استراتيجيته للسيطرة على التضخم.
إن انخفاض التوقعات الاقتصادية في منطقة اليورو وسط ارتفاع أسعار الغاز والمخاوف من قطع روسيا لإمدادات الطاقة يؤدي إلى انخفاض العملة الموحدة. وقد ترك الاعتماد الكبير للاقتصادات الكبرى مثل ألمانيا وإيطاليا على الغاز الروسي المستثمرين في حالة من التوتر مع توقع الاقتصاديين حدوث ركود أسرع وأكثر إيلاما في منطقة اليورو مقارنة بالولايات المتحدة.
والتفسير الآخر هو الفرق في مستويات أسعار الفائدة في الولايات المتحدة ومنطقة اليورو. ففي حين كان بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي يرفع أسعار الفائدة بقوة لكبح معدلات التضخم، قاوم البنك المركزي الأوروبي فرض أية زيادات حقيقية.
ومن المتوقع أن يرفع البنك المركزي الأوروبي أسعار الفائدة لإعادة التضخم إلى هدف 2%، ولكن بوتيرة أبطأ من الولايات المتحدة، حيث قرر المركزي الأوروبي رفع سعر الفائدة بمقدار 0.25 نقطة مئوية لشهر يوليو.
قال المحللون، إن تضخماً أعلى، سيعزز التوقعات برفع أسعار الفائدة الفيدرالية ويدفع الدولار للأعلى، مما قد يتسبب في كسر التعادل بين اليورو والدولار.
كذلك تراجع اليورو بحوالي 0.1٪ مقابل الجنيه الاسترليني، مع تراجع زوج اليورو / إسترليني 2٪ حتى الآن هذا الشهر. كما ارتفع الإسترليني بنسبة 0.2٪ مقابل الدولار عند 1.19055 دولار.
وقال بعض المحللين إن أغلب أسعار الطاقة في السوق العالمية مسعّرة بالدولار، وبالتالي فإن ارتفاع أسعار الطاقة يؤدي آلياً إلى زيادة الطلب على الدولار، ونتيجة إلى كل ذلك أصبح الدولار ملاذا آمنا في السوق وزاد الطلب عليه.
الاقتصاديون والخبراء أكدوا، ان نزول قيمة اليورو، هو أيضا بسبب ضعف النشاط الاقتصادي في منطقة اليورو وضعف النمو في أوروبا، وخاصة المؤشرات السلبية الأخيرة التي ظهرت في ألمانيا وعدة دول أوروبية كبرى، والتي تغذي فرضية أن أوروبا ستدخل في حالة من الركود الاقتصادي، وهو ما سيؤدي الى إضعاف قيمة اليورو وسعره”.
إن هذا الهبوط كان متوقعا، لأن العقوبات الاقتصادية على روسيا أدت مباشرة إلى هذا الانكماش والانتكاسة في الاقتصاد الأوروبي، وكانت البداية مع الأزمة التي يشهدها الاقتصاد الألماني، وهذا طبعا يؤثر مباشرة على العملة الأوروبية.
إن ارتفاع أسعار الطاقة وأزمة إمدادات الغاز من روسيا إلى أوروبا، تجعل من الظرفية الاقتصادية أحسن في الولايات المتحدة منها في أوروبا، لأن واشنطن ليست فقط منتجة للغاز والنفط، وإنما هي تصدرهما أيضا، وبالتالي ليس فيها أزمة طاقة.
وتتزايد المخاوف من حصول الانكماش والركود الاقتصادي بشكل كبير ، في ظل ارتفاع التضخم وتزايد عدم اليقين بشأن استمرار إمدادات الغاز الروسي، حيث يصبح الوضع “دقيقا جدا” للدول الأوروبية، باعتبار أن قرابة 50% من واردات هذه الدول مقومة بالدولار، فهل يمكن أن نتوقع انهيارا أكبر لليورو في قادم الأيام، وما آفاق العملة الأوروبية في ظل الأوضاع المربكة وغير المستقرة لسوق الطاقة؟.
رغم التقلبات الكبيرة والضغوط التي تتعرض لها العملة الأوروبية، وتراجع نسبة النمو في منطقة اليورو، وارتفاع نسبة التضخم إلى مستويات قياسية لم تشهدها أوروبا منذ عقود، لم يتحرك البنك المركزي الأوروبي، الذي أعلن سابقا أنه سيجتمع يوم 21 يوليو/تموز الجاري، ولم يقم برفع سعر الفائدة منذ 11 عاما، أو اتخاذ إجراءات وقائية من شأنها أن تشجّع الاستثمارات الخارجية أو تقلل من نسبة التضخم.
وكان مصرف فرنسا المركزي اعتبر نهاية مايو/أيار الماضي، أن ضعف اليورو قد يعرقل جهود البنك المركزي الأوروبي في السيطرة على التضخم، وفي الوقت الذي يرى فيه مراقبون إمكانية أن يشكّل هبوط اليورو فرصة جيدة للاستثمار في أوروبا، استبعد آخرون أن يكون هذا الهبوط لليورو هدفا لأي مستثمر وفرصة جيدة للاستثمار، لأن المناخ الاقتصادي يتجه إلى أجواء قاتمة وغامضة خاصة مع التهديدات الجدية بقطع الغاز عن أوروبا، وهذا برأيهم يبشر بحالة كبيرة من الركود الاقتصادي، لأن البيئة غير آمنة وغير مشجعة على الاستثمار.
في الختام ، آفاق اليورو في المستقبل غامضة وسوداوية ما لم يتدخل البنك المركزي الأوروبي أو الفدرالي الأميركي، لأن قوة الدولار راجعة بالأساس إلى قوة تدخل البنك المركزي الأميركي، عكس البنك المركزي الأوروبي الذي لا يتدخل كثيرا في اليورو وبالتالي نجده يتعرض للمشاكل والهبوط.
وحدة الدراسات الاقتصادية / مكتب شمال امريكا
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية