الجيش السري لبوتين ورّط موسكو في حرب استنزاف

الجيش السري لبوتين ورّط موسكو في حرب استنزاف

رغم اختراقاته الاستخباراتية ووجود عملاء له داخل أجهزة الأمن الأوكرانية فإن الجيش السري للرئيس فلاديمير بوتين أقنع الكرملين بأن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا ستكون ناجحة وتنتهي في غضون أسبوع بالاستيلاء على كييف، لكن المقاومة الأوكرانية الضارية أفشلت هذه الحسابات ما صدم الروس والغرب على حد سواء.

لندن – يثير بعض المراقبين الأوروبيين سؤالا يبدو محرجا لقادة الاتحاد الأوروبي، بعد تقديم حزمة مساعدات عسكرية جديدة، يقول: ما نفع مواصلة دعم أوكرانيا عسكريا، إذا كانت أوكرانيا مخترقة بالكامل بعملاء يعملون لصالح الكرملين ويقدمون له المعلومات عن مواقع التجهيزات والأسلحة التي يتم إرسالها الى أوكرانيا؟

مئات الملايين من هذه المساعدات تبددت بضربات روسية موجهة الى مراكز تجميع الأسلحة الغربية، وكذلك مواقعها بعد نشرها قريبا من جبهات القتال.

إلا أن هذا الواقع ليس خافيا على أجهزة الاستخبارات الغربية. فهي تعرف سلفا أن أجهزة الأمن الأوكرانية تغرق بالموالين لروسيا، سواء كانوا عملاء رسميين في جهاز “كي جي بي” أم مجرد “أصدقاء” يعتبرون روسيا هي وطنهم “الأم”. وهؤلاء يؤدون دورهم كجيش سري للرئيس فلاديمير بوتين. وبالنظر إلى طبيعة بوتين الشخصية، فإن هذا الجيش هو القوة الأهم التي يضع رهانه عليها. وأعضاؤه في كل مكان هم زملاؤه الأقرب الى نفسه.

والصفة الرئيسية لهذا الجيش هي أنه جيش قائم على الولاء والمحاباة، ما يدفعه الى “تقديم النصف المناسب من الحقيقة”. وهو بهذا المعنى ليس جيشا محترفا يجرؤ على قول ما لا يرغب “القائد” بسماعه، خوفا من غضبه. وهذه الصفة قاتلة في كل مؤسسة. وعلى هذا الأساس، فقد جاز استخدمها من جانب أجهزة المخابرات الغربية، بحسب طبيعتها نفسها، لتساعد على تحويل الحرب الى ورطة، مما أدى الى إطالة أمدها، بسبب نصف الحقيقة الآخر الذي ظل غائبا عن تقديرات الكرملين.

الغرب سمح لروسيا بتحقيق تقدم على الأرض يكفي لنشر قوات بكثافة ضخمة نسبيا، لكي تصبح هدفا للقصف

فعلى الرغم من المكاسب المبكرة التي حققتها روسيا في شرق أوكرانيا وجنوبها، ومنها في مدينة خيرسون التي تم تسليمها بما يشبه تسليم اليد لليد، من دون قتال، في الأيام الستة الأولى للحرب، إلا أن هذه الحرب ما تزال مستمرة حتى بعد مرور ما يقرب من ستة أشهر. ولم تتمكن روسيا من إملاء شروطها على كييف، حتى بعد تقديم نحو 50 ألف ضحية بين قتيل وجريح من أصل القوة المهاجمة الأولى التي بلغ تعدادها 120 ألف جندي. وذلك الى جانب خسائر مادية شملت نحو ألف دبابة وعدة آلاف من الآليات العسكرية الأخرى.

وعلى وجه الإجمال، تتفق تقديرات البنتاغون ووزارة الدفاع البريطانية على أن روسيا خسرت ما لا يقل عن ثلث قواتها التي حشدتها للغزو. وهو الأمر الذي أجبرها على زيادة رواتب الجنود، ورفع مستوى أعمار المجندين من 40 إلى 50 عاما، والاستعانة بمجموعات قتالية خاصة مثل “فاغنر” ومقاتلين من الشيشان. وتقديم تعويضات تبلغ نحو 100 ألف دولار لأسر القتلى من الجيش الروسي لضمان صمتها.

“الجيش السري لبوتين” تمكن من إقناع الكرملين بأن “العملية العسكرية الخاصة” ستكون ناجحة وتنتهي في غضون أسبوع بالاستيلاء على كييف. وهو ما لم يحصل، بسبب المقاومة الضارية التي واجهتها القوات الروسية. هذه المقاومة لم تكن جزءا من حسابات الكرملين، ولا كانت ردود الفعل الغربية على الغزو متوقعة أيضا.

المقاربة الغربية، في المقابل، ذهبت إلى القول: بما أن مواجهة روسيا داخل أراضيها أمر مستحيل، لأنها ستؤدي إلى اندلاع نزاع نووي، فإن المكان الطبيعي الوحيد لخوض المعركة ضدها هو داخل الأراضي الأوكرانية. وهو ما يعني السماح لروسيا بتحقيق تقدم على الأرض يكفي لنشر قوات بكثافة ضخمة نسبيا، لكي تصبح هدفا للقصف، وباقي أشكال المقاومة الأخرى. وعلى هذا الأساس فقد تم تزويد القوات الأوكرانية بمضادات دبابات ودروع تزيد عن ثلاثة أضعاف الدبابات والدروع المهاجمة. وظل معظمها غير مستخدم بانتظار أن تستقر جغرافيا المعركة، قبل أن تفتح الباب لأعمال الاستنزاف.

ويقول الخبراء الغربيون إن الولايات المتحدة تحاول أن تستفيد من تجربتها في العراق، حيث تعرضت قواتها على مدى ثلاث سنوات، بين عامي 3003 و2006، إلى خسائر تجاوزت 50 ألف قتيل، بسبب أعمال مقاومة ظلت فردية إلى حد بعيد. مما اضطرها في النهاية إلى الانسحاب، وتغطيته بإقامة حكومة توفر لها الغطاء.

المقاربة الغربية تذهب أيضا إلى أن الأوضاع الميدانية يجب ألا تنطوي على هزيمة كاسحة للقوات الروسية. وهي الفكرة التي تدافع عنها فرنسا، والقائلة إنه لا يجب إذلال روسيا. والدافع الرئيسي لهذه الفكرة يقول إن هزيمة كاسحة قد تدفع روسيا إلى رد انفعالي باستخدام أسلحة نووية، تكتيكية على الأقل، ضد المناطق التي تنطلق منها القذائف والصواريخ الجديدة التي حصلت عليها أوكرانيا من حلفائها الغربيين.

وعلى غرار حرب الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، فإن الهزيمة يتعين أن تأتي تدريجيا، حتى ولو دامت لسنوات. ولا شيء يضر في أن تواصل روسيا الاعتقاد بأنها تحقق نصرا. فهذا الاعتقاد نفسه مفيد، لأنه يشكل بحد ذاته، حاجزا دفاعيا يمنع روسيا من استخدام أسلحة نووية. فبينما يمكن للمهزوم أن ينتقم بأكثر ما بوسعه من قسوة، فإن “المنتصر” يفترض ألا يكون مضطرا لخيار كاسح كالخيار النووي. وطالما أن الخسائر الهادئة والتدريجية مستمرة، فإن “حرب الاستنزاف” تؤدي الغرض منها.

التغييرات الأمنية الجديدة التي أقرها الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي، تعكس وضعا استراتيجيا جديدا، يستهدف الحد من نفوذ “الجيش السري لبوتين “، من ناحية لأنه حقق الغاية المضادة من وجوده، ومن ناحية أخرى لحماية المعدات العسكرية الجديدة التي تحتشد العشرات منها على مقربة من الحدود الأكرانية – البولونية، وتنتظر الإذن بالدخول، وكذلك بعد أن أتمت بريطانيا تأهيل وتدريب المئات من المجندين الأوكرانيين على استخدام هذه المعدات.

الرئيس زيلينسكي أوقف رئيس جهاز الأمن إيفان باكانوف، وهو صديق طفولة له، كما أوقف المدعية العامة إيرينا فنيديكتوفا، وهي صديقة مقربة له أيضا، بانتظار التحقيقات حول ما إذا كان جهاز الأمن الأوكراني يتحمل المسؤولية في الاختراقات الميدانية التي حققتها روسيا منذ الأيام الأولى للحرب. وشملت الإقالات والتحقيقات العشرات من المسؤولين من ذوي المراتب الأدنى.

وأحد الأسباب التي ذكرها زيلينسكي لهذه الإقالات هو أنه “محبط” من بقاء أكثر من 60 موظفا في جهاز الخدمة السرية ومكتب المدعية العامة في الأراضي الأوكرانية التي تحتلها روسيا، الأمر الذي يرقى إلى مستوى الخيانة. إلا أن السبب الرئيسي لا يكمن هنا. فـ”الإحباط” مجرد مؤشر على ما هو أعظم. وهذا السبب على وجه التحديد هو أن استراتيجيات المعركة تغيرت، وصفحة السماح لروسيا بالتمدد على الأرض انطوت، لتبدأ صفحة الاستنزاف.

فشل الحسابات

الحملة لتطهير أجهزة الأمن الأوكرانية لم تبدأ من دون ضغوط أميركية. فالبرغم من أن زيلينسكي ظل حريصا على أن تبتعد الملاحقات عن دائرة أصدقائه الشخصيين، إلا أن المخابرات الأميركية اضطرت لأجل الضغط عليه ودفعه إلى إجراء تغيير شامل، إلى الكشف عن بعض الأوراق التي ظلت خفية حول الأسباب التي أدت إلى الانسحاب من دون قتال من مدينة خيرسون الاستراتيجية.

ولكي تتحول المسألة إلى فضيحة تجبر زيلينسكي على اتخاذ خطوة شاملة، تبدأ من “أصدقائه الشخصيين”، سواء أكانوا معنيين باتهامات الخيانة أم لا، فقد حصلت صحيفة “بوليتيكو” الأميركية على معلومات تفي بالغرض. فنشرت قبل ثلاثة أسابيع من إقالة باكانوف، تقريراً يهاجمه بعنف. ويتهم وكالة أمن الدولة الأوكرانية التي يترأسها بالمسؤولية عن سقوط خيرسون في يد الروس. وقال التقرير “إن هروب بعض العاملين في الجهاز من مواقعهم ساعد على ما يبدو قوات الكرملين على تجنب الألغام الأرضية، وتوجيه طائراتها الهجومية لتفجير مدن أوكرانية”.

ولم يشأ المسؤولون الغربيون أن يبلغوا الرئيس زيلينسكي بأن الوقت قد حان لتغيير اللاعبين والملعب، فتركوا المسألة لما يتم الكشف عنه من حقائق.

كما أن مسؤولين غربيين على صلة بالسجال الأمني قالوا إن المسألة أكبر من باكانوف. ذلك لأنها تشكل جهازا يضم نحو 30 ألف موظف، يتفشى بينهم عملاء للكرملين، وهو ما يجعلهم بمثابة جيش سري قائم بذاته.

بعض الأمثلة التي أشارت إليها “بوليتيكو” قالت إن العقيد إيهور صدوخين، مساعد باكانوف ورئيس مركز مكافحة الإرهاب في المكتب المحلي، أبلغ القوات الروسية المتجهة شمالًا من شبه جزيرة القرم بمواقع الألغام الأوكرانية، وساعد في تنسيق مسار طيران للطائرات الروسية الأمر الذي انتهى باحتلال خيرسون بعد سبعة أيام من اندلاع الحرب. بينما هرب في قافلة من عملاء إدارة أمن الدولة المتجهة غرباً.

وفي مثال آخر، هرب مسؤول كبير سابق، يدعى أندري نوموف، وهو عميد ترأس قسم الأمن الداخلي للوكالة، وهي وحدة تشمل مسؤولياتها منع الفساد داخل إدارة أمن الدولة، إلى الخارج قبل بضع ساعات من الغزو الروسي في الرابع والعشرين من فبراير الماضي.

الصحيفة ذاتها تحدثت عن موقف حدث في مدينة تشيرنيهيف، حيث أُحرق مبنى وحدة إدارة الأعمال التابعة للوكالة بالكامل دون سبب، وبينما قال مسؤول وكالة أمن الدولة الأوكرانية “إنه ليس لديه وقت لإخراج جميع المستندات”، فقد قال مسؤول أوكراني آخر إن الشرطة وغيرها من وكالات إنفاذ القانون في المدينة كانت قد نجحت في إزالة الوثائق الحساسة من مكاتبها.

انطلاق صفحة استنزاف روسيا بعد ضغوط مارستها واشنطن على زيلينسكي لملاحقة متورطين في التخابر مع موسكو من المحيطين بالرئيس الأوكراني

ومن الواضح أن عملية حرق المكتب كانت تقصد إتلاف السجلات التي تشمل قائمة بالأعضاء المحليين في الجيش السري لبوتين.

المسألة في النهاية هي أن هناك الآن حرب مخابرات، لا تبدو معها حرب الدبابات والصواريخ سوى “الجزء الظاهر من جبل الجليد”. وهي حرب تتعلق بأدوات القتال الرئيسية التي راهن عليها بوتين في غزوه لأوكرانيا. وهي التي أقنعته بأن المعركة لن تطول، بينما كان الطرف الآخر يخطط لمناورة أبعد من أوكرانيا. بل أبعد من موسكو نفسها.

أجهزة الأمن الأوكرانية “المخترقة” كانت مخترقة من الجانب الآخر أيضا. الاختراق الأول يقدم نصف الحقيقة الذي يناسب الكرملين، والاختراق الثاني للأول كان يستعد للاستفادة من هذا النصف نفسه، لكي يحوّل الحرب إلى ورطة، لا تنتهي بستة أيام ولا بستة أشهر. وتمضي ببطء لكي تمتد إلى سنوات.

وفي الواقع، فإن الحرب التي تبدو وكأنها تلحق ضررا جسيما بالاقتصاد العالمي، وأن الوقت قد حان لوضع نهاية لها، ما تزال في بدايتها. بل ربما في بداية البداية أيضا. لاسيما وأن طرفي الحرب ليس لديهما أساس واحد مشترك للعودة إلى التفاوض.

كما أن التخطيط الاستراتيجي الأميركي المعلن ما يزال يقول إن الصين هي الهدف، لأنها هي التحدي الاقتصادي والاستراتيجي الأول.

والسؤال الذي ظل يشغل “مجتمع المخابرات” هو: كيف نواجه الصين، وهي مصدر رئيسي لسلاسل الإمداد في العالم؟

الجواب: في أوكرانيا.

السؤال: كيف؟

الجواب: الجيش السري لبوتين هو الذي سوف يضرب العصفورين بحجر واحد. فعندما تُكتب الهزيمة لموسكو، سوف تتلقى بكين الدرس المناسب.

العرب