أخيرًا، تمكنا في الأسابيع الأخيرة من قراءة قصة في صحيفة “نيويورك تايمز” تهم الروس -وإنما ليس الروس المتوحشين. ومع ذلك، إذا لم نكن نقرأ عن الروس المتوحشين وجيشهم الوحشي وهجماتهم الوحشية على المدنيين في أوكرانيا، فإننا نكون بصدد القراءة عن الروس الوحيدين؛ والروس المنبوذين؛ والروس الذين هجرهم وتخلى عنهم العالم.
لن نقرأ أبدًا عن الروس العاديين، والعاديين فقط، في صحيفة “التايمز” أو في بقية وسائل الإعلام السائدة التي تقلد “التايمز”. وهذا شيء يجب أن نقبله.
سافر فلاديمير بوتين إلى طهران يوم الثلاثاء، 19 تموز (يوليو)، للمشاركة في اجتماع قمة مع آية الله علي خامنئي، المرشد الأعلى لإيران. وكانت هذه مناسبة غير عادية: لم يكن الرئيس الروسي مهتما بالسفر إلى الخارج منذ اندلاع جائحة “كوفيد -19″؛ وكانت هذه ثاني زيارة دولة يقوم بها خارج روسيا الاتحادية منذ تدخل روسيا في أوكرانيا في شباط (فبراير) الماضي.
وهذا شيء كبير يستحق أن نوليه اهتمامنا. إنه يمثل خطوة أخرى؛ وخطوة مهمة، في تشييد البنية التحتية الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية التي -وأنا لا أعتبر هذا توقعًا جريئًا- ستُعرِّف القرن الحادي والعشرين. إننا نشاهد النظام العالمي الجديد الذي يتوقعه الكثير منا بينما يُبنى.
يحتل النظام العالمي الجديد الذي يتوقعه الكثير منا، إن لم تكونوا قد لاحظتم، مرتبة عالية بين الأشياء الكبيرة التي لا يمكن التعبير عنها في الخطاب الأميركي وبين وسائل الإعلام الأميركية.
كلا، إننا ما نزال عالقين في “نظامنا الدولي القائم على القواعد”، وهو رمز عديم الجدوى للهيمنة التي تدافع عنها أميركا. وقد أصبح الآن عتيقاً فاقد الرونق بطريقة ميؤوس منها عند هذه النقطة، لكنه ما يزال مدمراً إلى حد مميت.
بعيداً عن الإشارات المهمة على التزام موسكو وطهران بتعميق العلاقات بينهما، كان محور المناسبة هو مذكرة تفاهم متزامنة وقعتها “شركة النفط الوطنية الإيرانية” مع العملاق الروسي “غازبروم”.
وفي اتفاقية بقيمة 40 مليار دولار؛ حيث من المقرر أن يساعد مورِّد الطاقة الروسي في الجانب التقني، بينما تطور إيران حقلي غاز وستة حقول نفطية.
وعلاوة على ذلك، يشكل هذا جزءًا فقط من مشروع طويل الأمد سيربط روسيا وإيران والهند عن طريق البحر، والطرق البرية، والسكك الحديدية، وفي النهاية، خط أنابيب غاز مهم للغاية يمتد من إيران إلى الهند.
دعونا نقُل إن هذه خطوة عملاقة لروسيا وإيران، بل وخطوة أكثر ضخامة لغير الغرب بينما يمضي قدُماً نحو تحقيق التكافؤ مع الغرب.
لكن كل هذا غير مهم. عندما سافر بوتين إلى طهران، فإنه فعل ذلك ليجد العزاء عند “زميل منبوذ”، كما أرادت صحيفة “نيويورك تايمز” إيهامنا في تقريرها المنشور في 19 تموز (يوليو).
إن إيران وروسيا هما “دولتان معزولتان تضربهما العقوبات، والرابط الأساسي بينهما هو معارضتهما النشطة للولايات المتحدة وحلفائها وهيمنتها على النظام العالمي متعدد الأطراف”، كما قرأنا في مقال متابعة للزيارة في الصحيفة.
لا يمكنك ببساطة أن تتغلب على “التايمز” في الهراء الاختزالي عندما لا يتطابق تطور كبير مع التخيلات الأميركية. والمهمة هي إبقاء رؤوس قرائها مدفونة حتى الآن في الرمال وألا يكون لهم أمل في إخراجها.
لكنني لا أستطيع أن أفعل ذلك، على أي حال.
قمة ثانية
بصرف النظر عن محادثات بوتين-خامنئي ومفاجأة اتفاق “غازبروم” و”شركة النفط الوطنية الإيرانية”، حضر بوتين قمة ثانية، هذه المرة مع إبراهيم رئيسي، الرئيس الإيراني، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
وتتقاسم طهران وموسكو مصلحة مشتركة في إعادة النظام إلى سورية الآن، بعد أن أعادت دمشق، بمساعدة روسية وإيرانية، تأكيد سيادتها على البلاد باستثناء مناطق في الشمال؛ حيث ما تزال تزال ميليشيات “داعش” وتفرعاتها نشطة، وحيث تواصل الولايات المتحدة سرقة نفط سورية كجزء من احتلالها غير القانوني.
كما قيل، كان القصد من القمة الثلاثية هو ثني الزعيم التركي الغادر بطبعه عن شن هجوم آخر ضد السكان الأكراد في المناطق القريبة من الحدود السورية مع تركيا.
وليس هناك ما يشير في الوقت الحالي إلى مدى نجاح بوتين ورئيسي في محادثاتهما مع أردوغان، الرئيس الرديء الذي “لا تشتري لك كلمته وربع أكثر من فنجان من القهوة”، كما اعتدنا أن نقول.
وأنا أحب بعض المشاكل التي حددها ستيفن إيرلانغر من صحيفة “التايمز” عندما كان يقوم بتحليل المسعى الروسي-الإيراني، ولا بد أن تكون هناك مشاكل إذا ما أريد لحدث بهذا الحجم أن يُساء فهمه كما ينبغي.
يخبرنا السيد إرلانغر بأن “روسيا لا تتقاسم مع إيران العداء تجاه إسرائيل ولا تريد أن تطور طهران سلاحًا نوويًا”.
وعندما تفقدت الأمر آخر مرة، وجد أن طهران تريد تسوية مع تل أبيب تضمن أمنها؛ العداوة تسير في الاتجاه الآخر. إن طهران، من حيث مبادئها الدينية، لا تريد أن تصنع سلاحًا نوويًا -كما أوضحت مرات لا تعد ولا تحصى.
وإليكم هذا أيضاً:
“كما تتنافس روسيا وإيران على بيع نفطهما الخاضع للعقوبات ومخفض السعر إلى الصين ودول أخرى. وعلى الرغم من أن جودة النفط الخام مختلفة في كلا البلدين، فإن من الصعب تخيل أنهما يشكلان نوعًا من الكارتيل لبيع النفط الخاضع للعقوبات، كما قال السيد شابيرو (موظف سابق في وزارة الخارجية)”.
من قال أي شيء عن نوع من الكارتيل سوى السيد شابيرو؟ لكنه يجب أن يقال، من يستطيع أن يتخيل وجود دولتين منتجتين للنفط تنسجمان معاً عندما تقوم كلتاهما بالتسويق دولياً -خاصة عندما لا تبيعان المنتج نفسه؟ أعتقد أنني أفهم.
لعل أفضل ما في هذا المحصول من التأكيدات السخيفة هو تحليل إرلانغر لخط الصدع الرئيسي في العلاقة بين طهران وموسكو. إنه لا يرتكز على “القيم المشتركة والديمقراطية”.
عذرًا. إنه “معاملاتيّ” ويقوم على تقارب المصالح. “لكن العلاقات المعاملاتية لا تؤدي إلى تحالفات دائمة، أو أنها تظل تخفي التوترات بداخلها”، كما كتب السيد ستيف (كما لو أن الولايات المتحدة ليست معاملاتية هي الأخرى في صفقاتها الدولية).
الترجمة: إن نظام بايدن عاكف بحزم على استبدال السياسة والتاريخ في العلاقات الدولية بالأيديولوجيا وثنائية “المستبدون مقابل الديمقراطيين” التي من المفترض أن تُعرِّف البشرية جمعاء.
وهنا، يجب أن أضع جانبًا من لياقتي المعتادة. اللعنة. إن التاريخ والسياسة والمصالح هي المحددات الصحيحة للعلاقات بين دولة وأخرى. أما الأيديولوجيا، حتى عندما يشار إليها باسم “القيم”، فليس فلها مكان فيها.
ستيفي، أنت لست جاك كينيدي.
تماسُك اللا-غرب
في ظل التناغم والتماسك المتزايدين لغير الغربيين، كانت هناك بضعة أيام في العام الماضي التي لم أستطع أن أخرج فيها من أفكاري أبدًا.
وجاءت هذه الأيام بعد أول مواجهة مهمة لنظام بايدن مع الصينيين. تذكُرون: المحادثات الكارثية في أنكوريج، ألاسكا، في آذار (مارس) 2021.
كان الجانب الصيني يتطلع بترقب إلى بداية جديدة مع الأميركيين؛ بداية علاقة جدية تقوم على الاحترام المتبادل، والمساواة، ولا شيء سوى المصالح المشتركة.
ولكن، بدلاً من ذلك ألقى فيهم أنطوني بلينكين، وزيرنا للعزف على الجيتار والدولة، محاضرات أيديولوجية معلبة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والنظام الدولي القائم على القواعد. كان ذلك كارثة.
بمجرد عودة وانغ يي، وزير الخارجية الصيني إلى بكين، طار وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف إلى العاصمة الصينية لإجراء محادثات.
وبمجرد انتهاء تلك المحادثات، سافر وانغ إلى طهران وأبرم اتفاقية مدتها 25 عامًا بقيمة 400 مليار دولار مع الجمهورية الإسلامية -لنقل التكنولوجيا، وتطوير البنية التحتية، ومبيعات النفط، وما إلى ذلك- والتي كانت في طور الحمل لسنوات.
إليكم الأمر، دينامية تلاحم اللا-غرب. إنها ليست خطوة معادية لأميركا أو لأي أحد، كما تصر الصحافة الغربية على القول. إن لدى القوى المعنية، تخيلوا هذا، من المصالح المشتركة أكثر من أن تنشغل بالعداوة والمنافسة، وهي تفضل، في الواقع، أن يتخلص الأميركيون وحلفاؤهم من العداء الأيديولوجي وأن ينضموا إلى الجهود المبذولة لبناء نظام عالمي جدير بهذا الاسم. وقد أعلن الرئيس بوتين والرئيس الصيني شي جين بينغ ذلك بوضوح في ذلك الإعلان المشترك الرائع الذي أدليا به عشية أولمبياد بكين الشتاء الماضي.
خلصت بكين إلى أن ما حدث في أنكوراج، والذي جعل منها لحظة مهمة للغاية، هو أن الصينيين يجب أن يتخلوا ببساطة عن محاولة العمل مع الأميركيين: لا يمكنك أن تحصل على أي منطق منهم. وكان هذا بالضبط ما خلص إليه الروس بعد 11 شهرًا من ذلك عندما تدخلوا في أوكرانيا.
كان تشييد البنية التحتية لخدمة النظام العالمي للقرن الحادي والعشرين جارياً منذ بعض الوقت.
وتشكل “مبادرة الحزام والطريق” الصينية جزءاً كبيراً منها. ثم لديكُم تحسُّن العلاقات الثنائية هنا وهناك: الاتفاقيات الاقتصادية الأخيرة بين الصين وكوبا، والصين مع إيران، وإيران مع فنزويلا، والصين مع فنزويلا، والهند مع روسيا، وما إلى ذلك. وتتكاثر هذه التفاهمات بينما نتحدث.
كل هؤلاء المنبوذين البائسين. يبدو أنهم موجودون في كل مكان، يتسكعون في الأنحاء ويكتنفهم اليأس.
كان التطور الروسي الإيراني جزءاً آخر من هذا، لكنه يبدو لي مهماً بشكل فريد. إنه يشير إلى أن العقوبات، التي لا تعمل على أي حال، ستفشل بالكامل في نهاية المطاف، وأن إيران تخرج تدريجياً من البرد والعراء.
على الجانب الدبلوماسي، أصبحت الجمهورية الإسلامية لتوها جزءًا من كتلة ثلاثية الأطراف مع روسيا والصين. ويأتي ذلك بعد عام من قبولها كعضو في منظمة شنغهاي للتعاون، وهي شراكة أوراسية بدأتها الصين في العام 2001.
وما يزال طلب طهران للانضمام إلى مجموعة “بريكس” -البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا- معلقاً، كما هو الحال مع طلب الأرجنتين.
عندما زار حسين أمير عبد اللهيان، وزير الخارجية الإيراني، نيودلهي في وقت سابق من هذا الصيف، كان ذلك يشير إلى ما تسميه صحيفة “دبلومات” إعادة ضبط للعلاقات. وكان نظيره الهندي، إلى جانب رئيس الوزراء ناهندرا مودي، منتشيَين بوضوح في احتفالاتهما بالعلاقة بعد ذلك.
فيما يتعلق بخط الصواميل والمسامير (السكك الحديدية)، اتفقت إيران مؤخرًا مع جارتها الشمالية أذربيجان -وهذه مذكرة تفاهم أخرى- على بناء ممر واسع لإنشاء خطوط السكك الحديدية، والطرق، والاتصالات والطاقة.
والآن يصبح الأمر ممتعًا ومثيراً للاهتمام. فإلى جانب صفقة “غازبروم”، يجلب هذا المشروع مع أذربيجان إيران أقرب إلى إنشاء خط نقل مباشر مع روسيا.
الآن دعونا نوسّع المشهد. تأتي هذه الصفقة مع افتتاح خط سكة حديد جديد بين روسيا والهند، عبر إيران.
ويأتي هذا كجزء مما يسمى “ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب” (INSTC)، الذي بدأته موسكو وطهران ونيودلهي في مطلع القرن. كلا، يغلب أنكم لم تقرأوا أي شيء من هذا.
وإليكم الجزء الذي يهمني أكثر ما يكون. مع تطور ممر النقل الدولي المذكور، قد يترتب عليه، بطبيعة الحال، أن يكون بإمكان الهند وإيران إعادة النظر في مشروع كان مجمداً منذ سنوات عديدة.
في السنوات الأولى من هذا القرن، اقترح الجانبان مد خط أنابيب غاز يربط الحقول الإيرانية بالموانئ الهندية. لكن الولايات المتحدة، التي كانت حريصة على جعل الجمهورية الإسلامية، ذلك المنبوذ الذي يريدنا ستيف إيرلانغر منا أن نعتقد أنه كذلك، عارضت المشروع بشدة وتم التخلي عنه.
والآن، تقترح التقارير أن مشروع خط الأنابيب، الذي له مغزى اقتصادي بارز، أصبح قيد الدراسة مرة أخرى.
ولم يتم الاتفاق على أي شيء محدد حتى الآن، لكن هذا يخبرنا بأنه في الوقت المناسب، لن تكون الأسواق الغربية التي كانت أداة رئيسية منذ وقت طويل للقوة القهرية للغرب، هي الأسواق الوحيدة.
وأنا أحب العدالة الشعرية: يمكنك أن تبطئ خطونا، ولكن لا يمكنك إيقافنا.
ويمكن قول الشيء نفسه عن التجميع اللا-غربي الذي يصبح أكثر وضوحاً، للقوى، والمصالح والترتيبات التعاونية.
ويجب أن أسأل: من هو الذي يقود العالم إلى الأمام في اتجاه بنَّاء معقول؟ ومن هو الذي يحاول أن يؤخر هذه العملية بكل قوته، وهو الشيء الوحيد الذي تبقى له؟
الغد