في مسعى منها لإظهار أوروبا موحدة في وجه روسيا، أعلنت دول الاتحاد الأوروبي في الـ26 من يوليو (تموز) الماضي، توصلها إلى اتفاق يقضي بخفض استهلاكها من الغاز بنسبة 15 في المئة بين أغسطس (آب) الحالي ومارس (آذار) المقبل، مقارنة مع متوسط استهلاكها للفترة نفسها بين عامي 2016 و2021، خفض يراد منه إظهار التعاضد الأوروبي في تجنب أزمة تدفئة هذا الشتاء، وكذلك الحد من قدرة روسيا على ابتزاز أوروبا بورقة الغاز.
في ظاهر الأمر تقدم القارة العجوز باتفاقها هذا دليلاً إضافياً على وحدتها التي حافظت عليها إلى حد كبير منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، لكن الحقيقة أن هذا الخفض غير ملزم وعديد من الدول الأعضاء تم استثناؤها، إذاً ما الجدوى من هذه الصفقة، لا سيما أن نقص الغاز سيؤثر في بعض الدول أكثر من غيرها!
بعد مرور ستة أشهر على الغزو الروسي لأوكرانيا، يبدو أن علامات الإعياء قد بدأت تظهر على أوروبا جراء مضيها قدماً في مسار حرب تزداد تكلفتها يوماً بعد يوم، فمع ارتفاع التضخم واشتداد أزمة الطاقة وتنامي مخاطر الركود، ارتفعت أصوات القادة الأوروبيين بالحديث عن التداعيات الاجتماعية والاقتصادية للصراع، وكذلك آثاره السياسية والجيوسياسية، كما انكشفت مظاهر التوتر المتسترة تحت غطاء الاستعراض الخارجي للإجماع الأوروبي بشأن كيفية التعامل مع الحرب.
ففي ألمانيا على سبيل المثال برز تقاعس لافت إزاء شحنات الأسلحة الموعودة إلى أوكرانيا، وفي إيطاليا حيث سقطت الحكومة الائتلافية لرئيس الوزراء ماريو دراغي، علت أصوات سياسية معارضة للدعم العسكري لكييف في صفوف الأحزاب الشعبوية في البلاد.
أما بشأن العقوبات فلربما كان قد وافق الأوروبيون سريعاً على فرض خمس حزم منها على موسكو، إلا أنهم أمضوا أسابيع طويلة في مشاحنات ضارية بشأن حزمة سادسة تستهدف النفط الروسي كان مصيرها الإيقاف بعد رفض رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان لها، المستبد الوحيد في كنف الاتحاد الأوروبي.
ووسط كل هذه التحديات، يلوح في الأفق سؤال أكبر مفاده: إلى متى ستظل الوحدة الأوروبية قائمة تجاه الحرب وما الذي قد يتسبب في انهيارها؟ في الواقع، قد لا يكون انعدام التقدم باتجاه وضع حد نهائي للعنف المستشري في أوكرانيا هو التهديد الأكبر للتحالف الأوروبي، كما كانت عليه الحال حتى الآن، إنما في الهدوء النسبي الذي قد يخيم على الصراع فيتيح لموسكو استدراج بعض الدول الأوروبية للضغط على كييف من أجل تقديم تنازلات، وبالأخص إذا استمرت أزمة الطاقة في التفاقم، ومن باب المفارقة أن استسلام أوروبا والغرب لوهم السلام قد يطيل أمد الحرب على حساب الجميع.
عودة الشعبويين
خلال المرحلة الأولى من الحرب، أبدى الاتحاد الأوروبي تصميماً لافتاً، فبروكسل التي لم تعرف قط بسرعة استجابتها للأمور السياسية، استطاعت وخلال أسابيع قليلة فرض عقوبات كانت الأشمل على مر تاريخها، وسرعان ما تحركت الحكومات الأوروبية بعدها لتعزيز دفاعاتها، مع إعلان ألمانيا زيادة مذهلة في إنفاقها العسكري وبمقدار 100 مليار يورو، وكذلك موافقة الاتحاد الأوروبي على تسهيل عمليات نقل الأسلحة إلى طرف ثالث للمرة الأولى.
بموازاة ذلك وافقت أوروبا على تقديم الحماية المؤقتة لملايين المواطنين الأوكرانيين، ناهيك عن حرية التنقل والعمل في أنحاء الاتحاد الأوروبي كافة. وفي يونيو (حزيران)، قرر المجلس الأوروبي منح أوكرانيا ومولدوفا بشكل رسمي صفة “مرشح” لعضوية التكتل، وكذلك منح جورجيا صفة “مرشح محتمل” بانتظار إتمامها بعض الإصلاحات، لمعظم فصل الربيع بدا أن هذه الدينامية الجديدة تتفق مع ادعاء المستشار الألماني أولاف شولتز بأن الغزو الروسي هو نقطة تحول تاريخية، وبأن الأوروبيين كانوا ولا يزالون على أهبة الاستعداد لمواجهة التحدي.
بيد أن الزخم في بروكسل انحسر مذاك، فعلى الرغم من موافقة دول الاتحاد الأوروبي في النهاية على فرض حظر على النفط الروسي على سبيل المثال، إلا أن موعد دخول هذا القرار حيز التنفيذ سيمنح موسكو الوقت الكافي لاستيعاب الوضع الجديد والتكيف معه! أما في ما يخص اتفاق الغاز الأخير بشأن توفير الطاقة في أوروبا، فإن حظراً فعلياً للغاز الروسي لا يبدو وارداً أبداً في القريب العاجل، في الواقع إن موسكو هي من تقوم بإيقاف ضخ غازها إلى أوروبا مع قطع إمداداتها تماماً عن ست دول هي بلغاريا والدنمارك وفنلندا ولاتفيا وبولندا وهولندا، وخفض تدفق الغاز بشكل كبير إلى بقية دول القارة.
ففي يوليو (تموز) الماضي، أغلق “نورد ستريم1” خط الأنابيب الأكبر لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا الذي تمتلك أغلبيته شركة “غازبرم” مؤقتاً بحجة الصيانة، تمت إعادة فتحه منذ ذلك الحين لكن بخفض ما نسبته 20 في المئة عن الكميات المتفق عليها، مع ما قد تحمله قادم الأيام من اضطرابات وانقطاعات أخرى، والحال كذلك لا يتركز سعي الاتحاد الأوروبي اليوم على فرض عقوبات جديدة على روسيا بقدر ما هو متركز على معالجة مشكلة تخزين الغاز وتقنين استخدامه في عدد من دول أعضائه، ومن أجل تنويع إمداداته نراه يسعى خلف شراكات جديدة في مجال الطاقة مع كل من الولايات المتحدة والشرق الأوسط وإفريقيا والقوقاز، فبحسب “صندوق النقد الدولي” قطع الغاز الروسي بشكل كامل عن أوروبا قد يفضي إلى انكماش اقتصادات بعض الدول، بما فيها جمهورية التشيك والمجر وسلوفاكيا وإيطاليا، بأكثر من خمسة في المئة، كما أن حدوث هذا السيناريو سيعني شتاء قارساً ومكلفاً للقارة الأوروبية.
وبالفعل بدأت الضغوط الاقتصادية المتعاظمة بخلق ظواهر مقلقة في السياسة الأوروبية، ففي دول كإيطاليا وفرنسا تقوم الأحزاب الشعبوية والقومية اليمينية باستخدام آثار الحرب الاقتصادية كوسيلة لحشد الدعم الشعبي، فوفقاً لحججها اعتناق حكومات أوروبا ومؤسسات الاتحاد الأوروبي للأجندة الخضراء وفرضها العقوبات على روسيا هما السبب في تغذية التضخم وتفريغ الصناعة وتدمير الوظائف، وهذه رسالة ضخمتها وسائل الإعلام الرئيسة حتى ألقت بظلالها على الانتخابات الرئاسية الفرنسية في أبريل (نيسان) الماضي، إذ كان أداء الأحزاب اليمينية واليسارية المتطرفة قوياً، أداء تكرر أيضاً في الانتخابات البرلمانية في يونيو (حزيران)، لكن الحدث الأكثر دراماتيكية كان في يوليو (تموز) الماضي مع سقوط رئيس الوزراء دراغي في إيطاليا على خلفية سحب الأحزاب الثلاثة التي تتمتع بروابط وثيقة مع الكرملين دعمها للحكومة الائتلافية التي كانت جزءاً منها.
قد تكون هذه الأحداث مجرد إرهاصات لما قد يخبئه المستقبل، فعديد من الأحزاب الشعبوية اليوم تستقي إرشاداتها من كتاب قواعد اللعبة الخاص بالكرملين وتتبنى خطاباً يناقض نواياها الفعلية، فعوضاً عن مجاهرة قادتها برغبتهم في التضحية بأوكرانيا، هم يؤكدون تأييدهم للسلام والتسوية والدبلوماسية، وفي مقدمة هؤلاء الإيطالي ماتيو سالفيني، فبعد الانتكاسة المؤقتة التي واجهها الشعبويون خلال جائحة كورونا وتشكيكهم بجدوى اللقاحات المضادة لها، الأمر الذي ترك الأوروبيين غير راضين بشكل كبير، لكن الحرب في أوكرانيا مصحوبة بأزمة طاقة، جاءت لتمنحهم فرصة مثالية للعودة إلى الواجهة، ومع مرور الوقت يمكن لهذه الدينامية أن تخلق طفرة جديدة في الشعبوية القومية، ومن شأن طفرة كهذه أن تهدد ليس فقط الوحدة الأوروبية بل وجود الاتحاد الأوروبي ككل، فالقومية الأوروبية ممكنة، إنما قومية الاتحاد الأوروبي غير ممكنة ويصح وصفها بالتناقض اللفظي.
الانقسامات القارية
الأمر الأكثر إثارة للقلق بالنسبة لأوروبا هو عودة الانقسامات الجيوسياسية القديمة، ولعل أولها الشرخ المتزايد بين شرق القارة من جهة، وتحديداً الدول المجاورة للحدود الأوكرانية كدول البلطيق وبولندا، التي تطالب بإحقاق العدالة من خلال فرض العقوبات على روسيا وتوفير الدعم العسكري القوي لأوكرانيا، وبين دول غرب القارة من جهة أخرى، وعلى رأسها إيطاليا وفرنسا وألمانيا التي تميل إلى المساومة مع روسيا، وخير مثال على ذلك التصريحات الجدلية التي أطلقها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في يونيو (حزيران) الماضي بشأن أهمية عدم إذلال روسيا، في الوقت الذي كانت فيه المدفعية الروسية تقصف أوكرانيا، إضافة إلى ذلك وعلى وقع استشراء أزمتي الطاقة والاقتصاد، من المحتمل أن تمارس الدول البعيدة عن خط المواجهة كل أنواع الضغوط من أجل إيقاف الحرب، أما قادة دول أوروبا الشرقية فعلى الرغم من معاناة بلدانهم من التداعيات الاقتصادية للصراع الروسي – الأوكراني، فهم على قناعة راسخة بأن السلام لا يمكن أن يتحقق إلا إذا دحرت أوكرانيا القوات الروسية عن أراضيها وتحمل الرئيس فلاديمير بوتين مسؤولية عدوانه.
أما الانقسام الثاني فهو ما بين شمال أوروبا وجنوبها، وهو نفسه الانشقاق الذي كاد يمزق أوصال منطقة اليورو أثناء أزمة الديون السيادية قبل عقد من الزمن، ففي الوقت الحاضر وبينما تتزايد احتمالات حدوث انكماش اقتصادي أو ركود تضخمي على المدى القريب، تتسع الفجوة في تكاليف الاقتراض بين الدول الأعضاء في شمال وجنوب الاتحاد الأوروبي، وعلى الأخص بين ألمانيا وإيطاليا، وفي مواجهة ذلك تطالب كل من فرنسا وإسبانيا وإيطاليا التي لا تملك هامش المناورة المالية الكافي للتصدي للركود، بمبادرة جديدة من بروكسل، الغاية منها زيادة موازنة صندوق التعافي من الجائحة في أوروبا والتعامل مع التكاليف الاقتصادية للحرب، بخاصة التكاليف الباهظة للتحول نحو الطاقة النظيفة، لكن في المقابل ستكون ألمانيا التي شهدت ارتفاعاً بواقع ثلاثة أضعاف في أسعار الطاقة، وبسبب اعتمادها بشدة على الغاز الروسي هي أكثر عرضة لابتزاز روسيا في هذا الموضوع من أعضاء آخرين كثر، بالتالي من غير المرجح أن تدعم مثل هذا المشروع، إذا كان هنالك من شيء تفعله ألمانيا، فمن المرجح أن تلتمس المساعدة من أقرانها في الاتحاد الأوروبي للتخفيف من أعباء أزمة الطاقة التي تثقل كاهلها، لا أن تسخر مواردها المالية الخاصة لانتشال الأعضاء المنكوبين من محنهم، لا عجب إذاً أن أيدت ألمانيا بقوة اتفاق الاتحاد الأوروبي لتوفير الغاز في يوليو (تموز).
هذه الانقسامات هي بالضبط ما كان يصبو إليه بوتين، ومن فرط اقتناعه بضعف الديمقراطيات الليبرالية في أوروبا وفساد أخلاقها، افترض أن وحدة الغرب في تضامنه مع أوكرانيا ستتزعزع ومن الممكن أن تتهاوى خلال الأشهر المقبلة، فمن خلال اتباعه للعبة القط والفأر في موضوع الغاز وخلق أزمة غذاء عالمية عن طريق منع تصدير الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود، وكذلك اتباع استراتيجية الأرض المحروقة في أوكرانيا، قد يراهن بوتين على أن تفكك الغرب، بدءاً بأوروبا تحت وطأة ضغوط المنافسة هو مسألة وقت وحسب، فبنظر موسكو لدى الديمقراطيات الليبرالية عتبة ألم منخفضة، بمعنى أنها غير قادرة على تحمل مشقة التورط في لعبة طويلة لقاء ثمن اجتماعي أو اقتصادي مرتفع.
ولا يخفى على موسكو فداحة الخسائر التي تصيب روسيا، لطالما أن سبق لبوتين الإقرار بهذا الأمر علناً، كما أن الكرملين على يقين بأن الأضرار ستزداد بمرور الوقت، وفي الوقت الراهن فعلى الرغم من تسبب انقطاع الطاقة بين أوروبا وروسيا بأكثر الأزمات من نوعها حدة منذ حظر النفط العربي عام 1973، فإن روسيا سعيدة بالارتفاع الحاد الذي سجلته أسعار النفط والغاز، لكن فيما تحاول أوروبا فطم نفسها عن الوقود الأحفوري الروسي، من خلال تنويع مصادر طاقتها وتسريع تحولها إلى الطاقة النظيفة، فإن الأزمة لن تقضي عليها وستخرج منها في النهاية أشد صلابة وأقوى عزماً، في المقابل وأمام العلاقات الجديدة والمتبجح بها بين بكين وموسكو ستحتاج الصين لسنوات طويلة كي تحل محل أوروبا كسوق للهيدروكربونات الروسية، ولأسباب شتى من المستبعد أن تكون الصين مربحة لموسكو بالقدر الذي كانت عليه القارة العجوز، إضافة إلى ذلك فمن الصعب أن تستثمر الصين في تحول الطاقة في روسيا، مستقبل قاتم هو ما ينتظر الاقتصاد الروسي على المدى الطويل.
وهذه حقيقة لا بد أن يدركها بوتين ولا بد أن تدخل في حساباته التي تفترض انكسار أوروبا أولاً جراء هشاشة وحدتها، نعم يعتقد بوتين أن الضغوط الداخلية التي تستعر فيها القارة ستتيح له تحقيق أهدافه الحربية في أوكرانيا، وربما عاجلاً أم آجلاً العودة إلى نهج العمل المعتاد مع أوروبا، أو مع بعض الدول الأوروبية على الأقل، وبحسبما يراه الكرملين فإن الانقسامات ومواطن الضعف في أوروبا هي التي ستمنع حدوث سيناريو طويل الأمد يحمل روسيا التكاليف الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية لغزوها.
خطر التوقف
مع كل شهر إضافي يمر على الحرب يتزايد خطر الانقسام الأوروبي، ولقد ظهرت بالفعل أولى البوادر المقلقة لهذا الانقسام، لكن يبقى تحقق كثير منها منوطاً بمسار الصراع نفسه، بمعنى آخر إذا ما واصلت روسيا حملة الفظائع والدمار التي طبعت الأشهر الستة الماضية، فستكون للقادة الأوروبيين فرصة الاتكال على بوتين للإبقاء على وحدتهم، وبصرف النظر عن أزمة الطاقة وما استتبعها من ألم اقتصادي، وما يمكن أن تفضي إليه من توترات سياسية وجيوسياسية، من غير المحتمل أن يتخلى الأوروبيون عن أوكرانيا في أزمتها هذه، عند هذا المستوى الحالي من العنف ومع إعلان روسيا نيتها الاستيلاء والاحتفاظ بمزيد من الأراضي الأوكرانية، لن يمنع الأوروبيون الأسلحة والدعم الاقتصادي عن كييف، ناهيك عن رفع العقوبات في مقابل الهدنة بطريقة أو بأخرى، لطالما تواصل روسيا هجماتها الوحشية، سيستمر الأوروبيون في مسيرهم إلى النهاية مهما كان الثمن.
أما إذا غير بوتين تكتيكاته في أوكرانيا اضطراراً لا اختياراً، فسيكون الأمر أكثر صعوبة بالنسبة إلى أوروبا، فبحلول الخريف قد تنفد قدرة روسيا على استكمال العمليات العسكرية المتواصلة في أوكرانيا منذ ستة أشهر، وبالفعل تعتقد بعض وكالات الاستخبارات الغربية أن موسكو تكبدت أثماناً باهظة في العدد والعتاد، وبحسب “وكالة المخابرات المركزية” و”جهاز الاستخبارات البريطاني” تحديداً فإن أكثر من 15 ألف جندي روسي لقوا حتفهم خلال المعارك الدائرة منذ بدء الغزو في الـ24 من فبراير (شباط) الماضي.
ومن المتوقع أن تزداد هذه الخسائر مع تلقي القوات الأوكرانية أسلحة غربية متطورة، وهذا لا يعني بأي شكل من الأشكال بأن أهداف الكرملين قد تبدلت، فالرجوع عن مشروع أيديولوجي ليس بالأمر السهل، والزعيم الذي يقارن نفسه بالإمبراطور بطرس الأكبر من غير المرجح أن يقتنع باليسير من المكاسب الإقليمية في دونباس، لكن مع ازدياد الأعباء على الجيش الروسي أكثر فأكثر، قد يضطر الكرملين إلى تكييف استراتيجيته التي قد تشمل تقليص عملياته العدائية بصورة مؤقتة، مع تنفيذ عدد أقل من الهجمات الصاروخية على المدن الأوكرانية، أو تقليل نيران المدفعية على نطاق أوسع، للسماح لقواته بإعادة تجميع صفوفها، ومثل هذا التغيير لو حدث لا شك سينعكس على وتيرة الحرب في الأشهر المقبلة، بمعنى أن اتجاه الحرب قد يتغير وفقاً للاستنفاد النسبي وإعادة تشكيل القوة العسكرية الروسية.
وعليه فإن الخطر الأكبر الذي يواجه القادة الأوروبيين هو خطر خفي وقد يقعون ضحيته، فإذا ما قلصت موسكو من عملياتها في أوكرانيا وبدأت تلمح إلى نوع من التسوية أو الهدنة، فإن ما قد سيبدو هنا فرصة سانحة لا ينبغي تفويتها، قد ينطوي أيضاً على تهديد خبيث، بالنسبة إلى موسكو سيكون ذلك مجرد وسيلة لكسب مزيد من الوقت استعداداً لجولة جديدة من القتال، ربما بعد بضعة أشهر! أما لو نال هذا المقترح تأييداً من بعض الدول فقد يؤجج هذا الانقسام بين الأوروبيين ويطيل أمد الحرب.
يجب على الغرب في اللحظة التي ينحسر فيها العنف أن يظهر مرونته الحقيقية ويضاعف دعمه لكييف، ليس من أجل ضمان خسارة روسيا لهذه الحرب فحسب، بل لضمان انتصار أوكرانيا الفعلي من خلال تأمين دولة تملك مقومات البقاء إقليمياً واقتصادياً وتحوز ضمانات أمنية، إضافة إلى مسار محدد نحو إعادة الإعمار وتوطيد الديمقراطية داخل الاتحاد الأوروبي، لكن دوافع السعي إلى إبرام تسوية مع روسيا ستكون قوية أيضاً، خصوصاً مع احتمال تزامنها مع موجة متنامية من الضغوط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والجيوسياسية على القارة، وتخيلوا لو تصادف تضاؤل الأعمال العدائية في أوكرانيا مع أزمة طاقة متصاعدة في أوروبا، حينها لن يتجادل القادة الأوروبيون أو يترددوا فحسب، بل قد ينفصلون عن بعضهم بعضاً بشكل كامل.
ألم أكبر مكاسب أكثر
عندما قرر المضي قدماً بعدوانه على أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022، وبطرق ما كانت لتصدق قبل الحرب، جمع بوتين شمل الاتحاد الأوروبي ووحده، مثلما فعل أيضاً مع حلف “الناتو” والغرب بوجه عام، وهذا التعبير الصريح عن التماسك والعزم بين أوروبا وعبر الأطلسي هو الأول من نوعه منذ عقود، لكن من غير الواضح ما إذا كان سيدوم طويلاً، لا سيما مع تغير الحرب وتقلبها بشكل متزايد، وفيما يبدو مؤكداً بأن الصراع بين موسكو وكييف سيستمر، فمن غير المحتمل أن يسير في خط مستقيم، وفي لحظات الركود والهدوء المؤقت سيصطدم القادة الأوروبيون بتحديات جديدة في ممارسة ضغوط مستديمة على روسيا، ولن يكون بمقدورهم التعويل على التأثير الموحد المرافق للتهديد الخارجي الخطير.
أما بالنسبة إلى بوتين فهو يؤمن بالتأكيد أن المرونة هي فقط القدرة على تحمل الألم، وأن الديمقراطيات الليبرالية، وفي مقدمتها ديمقراطيات أوروبا الغربية، هي كيانات ضعيفة جداً في القيادة وليس لديها ما يلزم للوقوف وقفة المتفرج حتى انتهاء الحرب، أما بالنسبة إلى الأوروبيين فالمرونة تتجاوز القدرة على تحمل الألم لتشمل القدرة على التكيف والرد والتعافي من الأزمة، يعلم الأوروبيون أن مؤسساتهم وأنظمتهم الديمقراطية بطيئة وفوضوية، لكنها في الوقت نفسه قوية.
ويظهر ذلك جلياً في الخط الذي انتهجته أوروبا في رحلة تصديها للأزمات المتسلسلة التي عصفت بها على امتداد العقود القليلة الماضية، بما في ذلك أزمة الديون السيادية والهجرة وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وجائحة كورونا، ومن الممكن جداً أن تكون حرب أوكرانيا والطريقة التي ستختبر بها دفاعات أوروبا واقتصاداتها وأنظمة الطاقة لديها، فضلاً عن النسيج الاجتماعي لنظامها الديمقراطي، أصعب اختبار على الإطلاق، ومن أجل اجتياز هذا الاختبار، سيكون على الأوروبيين التحلي بالإصرار والقوة بدل الاعتماد على بوتين للقيام بالمهمة.
اندبنذت عربي