علقت صحيفة “الوفد” المصرية عقب حادث سقوط الطائرة الروسية فوق سيناء في نهاية أكتوبر 2015 بقولها: “الخلاصة أننا نستطيع القول بأن مصر تتعرض لمؤامرة إجرامية جديدة تتطلب اليقظة التامة، والتحرك الإعلامي والسياسي والدبلوماسي الواعي والسريع على كل الأصعدة، من أجل إحباط هذه المخططات الشيطانية، واحتواء أضرارها”.
ولم تشذَّ معظم التعليقات في الصحف الحكومية والمستقلة والحزبية، وفي برامج التوك شو وعلى صفحات الفيسبوك وتويتر، عن تأكيد المضمون نفسه: “سقوط الطائرة مؤامرة تنضم لقائمة طويلة من المؤامرات السابقة واللاحقة التي تستهدف استقرار مصر”.
تفسير أحداث ووقائع تدور على المسارح المحلية والإقليمية والدولية على أنها محض مؤامرة ليس غريبًا ولا طارئًا على المنطقة العربية التي تزدهر فيها نظرية المؤامرة لأسباب غائرة في عمق التكوين الثقافي والعقلي لها.
وإذا ما سلمنا بأن نظرية المؤامرة تزدهر بشكل أكبر في ظروف غياب المعلومات المؤكدة عن حدثٍ ما، وخوف وترقب عام في أوساط الرأي العام من كوارث غير معروفة قد تقع في المستقبل القريب – فإن حادث سقوط الطائرة الروسية، وما تلاه من إعلان تنظيم “الدولة الإسلامية في سيناء” مسئوليته عنه، ثم اتخاذ بريطانيا قرارًا بترحيل مواطنيها من شرم الشيخ، كان من المحتم أن يدفع بالتفسيرات التآمرية للحادث داخل مصر إلى آفاق أبعد كثيرًا من تلك التي واكبت أحداثا أخرى شبيهة خلال العامين الماضيين على الأقل.
ولا يعتد من يتبنون تفسير الوقائع والأحداث وفق نظرية المؤامرة، بالفصل الضروري بين ما يُسمى (القرائن أو الشبهات) وبين (الأدلة الدامغة) الموثقة بالمعلومات والاعترافات، لذا فهم عادةً ما يفتشون عن جهات متهمة -من وجهة نظرهم- بالعداء التاريخي لمصر (اليهود، إسرائيل، الغرب، الدول الحليفة لأي من هذه الجهات) لوضعها في دائرة الاتهام، والملاحظ أن التحول في اتجاه تفسير سقوط الطائرة الروسية من حادث قد يكون قدريًّا (عطل فني مفاجئ) إلى أن وراءه مؤامرة قادتها استخبارات دول كبرى، قد أتى في أعقاب صعوبة رفض فرضية سقوط الطائرة بوضع قنبلة داخلها، خاصة مع قبول روسيا بهذه الفرضية كسبب محتمل يجب وضعه في الاعتبار بعد المعلومات التي قدمتها بريطانيا لهم.
ملامح التفسير التآمري
حدد أصحاب التفسير التآمري الجهات والأسباب التي تدفعها لتدبير حادث الطائرة الروسية على النحو التالي:
(*) أن الولايات المتحدة ومعها عدد من الدول الأوروبية لديهم الدافع والقدرة على التخطيط للحادث، فمن جهة تؤمن أجهزة أمن وقيادات هذه البلدان بأن بقاء الإخوان المسلمين خارج المعادلة السياسية في مصر، بل واستمرار مطاردة نظام الحكم بها للمنتمين إليها، يهدد بزيادة الإرهاب الذي يمكن أن يطال مصالح ورعايا هذه الدول حتى في أراضيها، ومن ثم فإن الحادث – بحسب التفسير التآمري- يمكن أن يكون قد تم التخطيط له لزيادة الضغط على الرئيس السيسي للقبول بالمصالحة مع الإخوان؛ اذ يعتقد عدد من مستشاري حكومات هذه الدول أن تداعيات الحادث وتأثيرها على الأوضاع الاقتصادية والسياسية في مصر هو الوسيلة الوحيدة لإجبار السيسي على الرضوخ لهذا المطلب. وعلى الجانب الآخر، فإن إسقاط طائرة روسية على يد داعش سيشكل أداة ضغط على الرئيس الروسي بوتين، وقد يدفعه إلى مراجعة سياساته المرفوضة في الغرب والداعمة لنظام الأسد في سوريا خوفًا من دفع التكلفة من دماء الجنود والمواطنين الروس في سوريا وفي العالم أجمع.
(*) أن الحادث وقع بعد إجراء المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية المصرية، والتي تُعتبر الاستحقاق الثالث في خارطة نظام الحكم الذي أفرزته ثورة الثلاثين من يونيو عام ٢٠١٣، وأن تمرير هذا الاستحقاق سيقوّي من وضع الرئيس السيسي داخليًّا وخارجيًّا، بما يزيد من صعوبة استجابته للضغوط الإقليمية والدولية الهادفة إلى إعادة الإخوان المسلمين إلى الساحة السياسية مجددًا، ومن ثمّ فإن أصحاب التفسير التآمري يَرَوْن أن وقوع الحادث في هذا التوقيت يُشير بوضوح إلى وجود مؤامرة تستهدف تركيع النظام الحاكم في مصر.
(*) بدت بعض الدول الغربية -وعلى رأسها بريطانيا- متعجلة بشكل غير منطقي في طلب إجلاء رعاياها من شرم الشيخ، ووضع المطار هناك ضمن المواقع التي يحظر على المواطنين البريطانيين التوجه إليها، في الوقت الذي تعترف فيه بريطانيا والولايات المتحدة خاصة بأن سيناريو وضع قنبلة داخل الطائرة مجرد فرضية لا يمكن التأكد من صحتها أو إثباتها إلا بعد انتهاء التحقيقات، والتي يُمكن أن تمتد إلى أكثر من عام. ويعني هذا أن هذه الدول ربما تكون قد دبرت الحادث لخلق الوضع الذي يمكنها من تحقيق هدفها الرئيسي وهو معاقبة مصر وروسيا معًا، وإجبارهما على تغيير سياستهما في المنطقة وخاصة في الداخل المصري وفي العلاقات مع نظام الأسد.
(*) كان سقوط طائرة روسية أخرى في السودان بعد أقل من أسبوع من سقوط الطائرة الروسية فوق سيناء، سببًا آخر لازدهار نظرية المؤامرة، إذ بدا أن هناك تركيزًا غير مفهوم على حادث سيناء في مقابل تجاهل تام للحادث الذي وقع في السودان.
(*) ظهر بوضوح أن الإعلام الغربي قد ركز على ضرب كل المعادلات التي تجعل من نظام الرئيس السيسي مقبولا في الداخل (ضرب السياحة في شرم الشيخ يؤدي إلى مزيد من الضغوط على مصر اقتصاديًّا، فتغدو ضعيفة سياسيًّا وأكثر استعدادًا لدمج الإخوان في السياسة)، فعلى سبيل المثال ركزت مجلة “الإيكونوميست” في عددها الصادر في ٧ نوفمبر 2015 على مقولة “إن تباهي الجيش المصري بأنه قضى على الإرهاب في سيناء، وتدليله الدائم على نجاحه ببقاء شرم الشيخ خارج المناطق المهددة بالعمليات الإرهابية؛ قد بات محل شك كبير”، وتخدم نفس الحجة التيارات الرافضة في الدول الغربية لما يسمونه بسياسات المهادنة مع نظام السيسي، والتي تتبعها بلدانهم بحجة أن نظامه يحارب الإرهاب. فعلى سبيل المثال كتب المحلل السياسي البريطاني باتريك كوكبيرن في “الإندبندنت” قائلا: “أثبت الحادث بطلان ادعاء الرئيس المصري بأنه قضى على الإرهاب في سيناء، كما أن سياسته التي تضطهد الإخوان المسلمين هي التي أدت إلى زيادة فرص انتشار الإرهاب في مصر”.
الحقائق لن تُغيِّر القناعات المسبقة:
يتصف التفكيرُ عبر نظرية المؤامرة بأنه مثل “النظم المفتوحة open – loop control systems” حيث لا يوجد أي اتصال بين المدخلات (in-puts) والمخرجات (out-puts)، وبالتالي فإن من يتبنون هذه الطريقة في التفكير لا يستمعون إلى الحجج المضادة لحججهم، وإذا ما أخذوها في الاعتبار أحيانًا فإن الهدف لا يكون فحصها، بل للتشكيك فيها، سواء أكان ذلك ممكنًا من الناحية المنطقية أم لا.
أيضًا يدفع الخوفُ العام في أوساط غالبية المصريين من أن تقع بلادهم في أتون الفوضى والحروب الأهلية الضاربة في المنطقة، الكثير منهم إلى تبني التفكير التآمري؛ حيث يعتقدون أن هناك محاولات حقيقية لإسقاط نظام الحكم في مصر، وأن نجاح هذه المحاولات مرتهن بنجاح بعض الجهات في التشكيك في كفاءة الجيش المصري عامة والرئيس السيسي خاصة، وأن نقد السلبيات والإهمال في المجال العام قد يسهل من هذه المهمة في نهاية المطاف، الأمر الذي لا يمكن المغامرة به إذا ما تم تقبل فرضية أن هناك احتمالا بأن يكون أحد من جندتهم داعش قد وضع قنبلةً على الطائرة، مستغلا إما وجود متعاطفين مع هذا التنظيم داخل المطار، أو عدد من الفاسدين الذين قبلوا بأداء المهمة مقابل أموال، أو وجود إهمال وتراخٍ غير متعمد ولكنه يسيء إلى مكانة مصر ونظامها الحاكم.
ومن المتوقع أن يظل هذا الحادث مثار قلقٍ للمصريين فترةً ليست بالقصيرة، في ظل واقع أن التوصل إلى أسباب وقوع الحادث قد يستغرق عامًا أو أكثر، وأيضًا في ظل ربط البعض من المؤمنين بوجود مؤامرة واسعة تستهدف إسقاط الحكم في مصر، وعودة الإخوان إلى المجال السياسي، بين توقيت الحادث وبين ما بدأته بعض القوى والتنظيمات في مصر حيث الدعوة للحشد والتظاهر ضد النظام في الذكرى الخامسة لثورة ٢٥ يناير.
وأخيرًا إذا كان احتمال التوصل إلى الأسباب التي قادت لإسقاط الطائرة الروسية موجودًا، فهناك احتمال أقل بأن تقوم جهات التحقيق في الحادث بالإعلان عن النتائج التي توصلت إليها، فالأمر لا يخص مصر أو روسيا وحدهما، بل يخص العالم بأكمله الذي تتوقف العديد من أنشطته الاقتصادية على زيادة نمو حركة الطيران المدني، وليس إخافة الناس منها. كما أن تأكيد سقوط الطائرة الروسية بفعل عمل إرهابي لو حدث فسوف يضع كافة أجهزة الاستخبارات الكبرى في مأزق؛ لأن تهمة التقصير ستلحق بها أيضًا، خاصة مخابرات الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل اللتين تعتبران الأكثر استهدافًا من قبل الإرهاب الأصولي، على حد قول الصحفي والمحلل السياسي الإسرائيلي تسيفي برئيل في صحيفة (هآرتس) ٧ نوفمبر الجاري.
سعيد عكاشه
المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية