في الحادي عشر من يوليو/تموز 2022، وبينما كانت دول الخليج تضع لمساتها الأخيرة لاستقبال الرئيس الأميركي “جو بايدن” في أول رحلة له إلى المنطقة منذ توليه الرئاسة، فجَّر البيت الأبيض مفاجأة بإعلان وصول وفود روسية إلى طهران مرتين في الفترة الأخيرة، بهدف الحصول على طائرات مُسيَّرة إيرانية، وأرفق المعلومات بصور من الأقمار الصناعية أظهرت طائرة نقل تابعة للوفد الروسي على الأرض، فضلا عن صور أخرى لطائرات مُسيَّرة إيرانية من طراز “شاهد 191″ و”شاهد 129” وهي مُجهَّزة بصواريخ دقيقة التوجيه وتُحلِّق في مطار “كاشان” الواقع جنوبي طهران. وقال الأميركيون إن موسكو التي استهلكت الحرب الأوكرانية مخزونها من الصواريخ الدقيقة والطائرات المُسيَّرة غارقة في البحث عن سُبُل لجلب طائرات مُسيَّرة واستخدامها في أسرع وقت مُمكِن. ولم تُبدِ دولة استعدادها لتلبية رغبات موسكو أكثر من إيران، التي تمتلك إلى جانب إسرائيل أكبر ترسانة من الطائرات المُسيَّرة والصواريخ دقيقة التوجيه في الشرق الأوسط.
بعد عقود من العقوبات الدولية، أضحت إيرانمُنتِجا غزيرا للصواريخ والطائرات المُسيَّرة. على سبيل المثال، افتتحت طهران مؤخرا مصنعا للطائرات المُسيَّرة من طراز “أبابيل-2” في طاجيكستان المجاورة لها، وهي أول منشأة إنتاج عسكري إيرانية خارج الحدود. وقد جرَّبتطهران صناعاتها تلك في اليمن على يد الحوثيين الذين ضربوا البنية التحتية النفطية في المملكة العربية السعودية عام 2019، وفي لبنان وسوريا على يد حزب الله اللبناني، والآن يُمكِن للروس أيضا الاستفادة من الإنتاج العسكري الإيراني، إذ تستطيع طهران أن تزوِّد موسكو بطائرات مُسيَّرة قتالية لضرب الأهداف الأوكرانية بدقة أفضل.
بيد أن توقيت نشر المعلومات من جانب الولايات المتحدة كان مقصودا على الأرجح، إذ احتفظ الأميركيون بالمعلومات بالفعل منذ يونيو/حزيران الماضي، لكن لم ينشروها إلا قُبَيل جولة بايدن في الشرق الأوسط. ففي حين تُدرك واشنطن أن دول الخليج غير راضية عن الإدارة الديمقراطية لبايدن ونظيرتها السابقة برئاسة أوباما بسبب ما تعتبره تقاعسهما في مواجهة إيران، فقد بدا لها أن من مصلحتها أن تُسلِّط الضوء على طموحات إيران النووية وأنشطتها العسكرية، في محاولة لرفع وتيرة القلق المُعتاد من إيران، علاوة على إبراز الارتباطات الإيرانية بروسيا على وجه الخصوص، لا سيما أن بعض دول الخليج قد أبدت انحيازا إلى موسكو في الحرب الأوكرانية الجارية.
غير أن تلك الجولة الأخيرة من التعاون بين موسكو وطهران تُسلِّط الضوء على العلاقات المعززة بين البلدين، وتعاونهما المتنامي في العديد من الملفات وأبرزها الملف السوري، وهو تعاون من المرجَّح أن يتعزَّز بفعل الحرب الدائرة في أوكرانيا التي تدفع حليفَيْ اليوم، وخصمَيْ الأمس، نحو تجاوز خلافاتهما وتعزيز تعاونهما في مواجهة السياسات والعقوبات الغربية التي بات كلا البلدين هدفا رئيسيا لها.
روسيا وإيران.. أعداء حينا وأصدقاء حينا
تاريخيا، خاضت روسيا حروبا متعددة ضد إيران، أو “فارس” كما عُرِفَت قبل الحُكم البهلوي في عشرينيات القرن الماضي، أشهرها الحرب التي اقتلعت جزءا من محافظة أذربيجان الإيرانية لتصير اليوم جمهورية أذربيجان كما نعرفها، علاوة على أرمينيا وجورجيا اللتين تأرجحتا بين السيادتَيْن العثمانية التركية والصفوية الفارسية حتى صعود القوة الروسية. أما آخر مواجهة صريحة بين البلدين فوقعت حين غزت روسيا البلاد مع بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية لتأمين طرق النفط والتجارة في حربهما ضد ألمانيا التي تعاطف معها شاه إيران “رضا شاه” في خضم سعيه للفكاك من الهيمنة الغربية، قبل أن يصعد ابنه “محمد رضا” إلى العرش بدلا منه ويصبح أقرب حلفاء الغرب في مواجهة الاتحاد السوفياتي الذي حاوط إيران من شرقها وغربها، حتى سقوط نظام الشاه عام 1979 وسقوط السوفيات أنفسهم مطلع التسعينيات..
وبعد أن دشَّن “آية الله روح الله الخميني” الجمهورية الإسلامية في أعقاب الثورة، فإنه دعا إلى عدم الانحياز إلى أيٍّ من الشرق الشيوعي أو الغرب الرأسمالي، والتمسُّك بالأفكار الإسلامية. وبعد أن توجَّس السوفيات من النظام الإسلامي الجديد رغم إسقاطه نظاما حليفا للولايات المتحدة، وقدَّموا الدعم لنظام صدام حسين العراقي ضد طهران أثناء الحرب العراقية-الإيرانية، فُتِحَت صفحة إيجابية بتوقيع إيران والاتحاد السوفياتي عددا من الاتفاقيات شملت صفقات أسلحة، وهو ما تلاه تعزيز لعلاقات البلدين بعد أن أصبحت روسيا “جمهورية فيدرالية” وابتعد خطرها المباشر عن الحدود الإيرانية باستقلال الجمهوريات السوفياتية المتاخمة لإيران، تركمنستان وأذربيجان، لا سيما وقد سارعت الأخيرة إلى التحالف مع الناتو، ومن ثمَّ باتت عدوا لموسكو وطهران معا منذئذ. وقد حصلت إيران على أكثر من 70% من وارداتها العسكرية من روسيا بين عامَيْ 1995-2005، كما استكمل الروس جهودهم بمساعدة المشروع النووي الإيراني في بداياته، وبدعم حق إيران في تطوير التكنولوجيا النووية للاستخدامات المدنية.
على صعيد التعاون التجاري، تعزَّزت العلاقات بين البلدين بمرور الوقت. وفي الآونة الأخيرة، ارتفع إجمالي التجارة الثنائية في الفترة 2020-2021 بنسبة 19%، مع زيادة طهران وارداتها من روسيا بنحو 43%، وهنا يمكن الإشارة إلى أن العقوبات والتحولات الجيوسياسية مهَّدت الطريق أمام المعاملات التجارية بين البلدين أكثر من ذي قبل. فمنذفَرْض العقوبات على روسيا عام 2014، منحت موسكو الأولوية لتوقيع المزيد من الصفقات التجارية مع جوارها غير الأوروبي في العديد من المجالات، ومنها “اللحوم الحلال” ذات السوق الواسع في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. وتعمل اليوم غرفة التجارة الإيرانية الروسية المشتركة (IRJCC) ومقرها طهران على تعزيز مصالح الشركات الإيرانية والروسية في مجالات البنية التحتية والتخطيط والمنتجات غير النفطية.
ومع ذلك، لا يمكن تجاوز حقيقة أن العلاقة بين روسيا وإيران تتَّسِم بالتحالف أكثر من العداء اليوم بسبب عدائهما المشترك الأشد للولايات المتحدة، وأن صداقتهما الوطيدة ليست خالية من الخلافات بخصوص قضايا جوهرية في نهاية المطاف. وقد ظهر ذلك مثلا في الملف السوري، إذ تدخَّلت موسكوعسكريا منذ عام 2015 من أجل التموقع جيوسياسيا في الشرق الأوسط، ولعب دور أوسع في السياسة بالمنطقة مع دعم حليفها الأبرز نظام الأسد، وهو هدف تقاطع تارة وتنافر تارة مع أهداف إيران بتحويل البلاد إلى مركز خاص للنفوذ، ونقطة انطلاق عسكرية لشن هجمات على جيران سوريا المناوئين لإيران، وأبرزهم إسرائيل التي امتلكت معها موسكو حتى وقت قريب علاقات جيدة لا سيما تحت إدارة بوتين.
لذلك، في الوقت الذي بدت فيه روسيا مهتمة بالحفاظ على علاقات ودية مع إيران، فإنها بادلت إسرائيل وحتى دول الخليج في الوقت نفسه سياسة إيجابية لم تُعجِب إيران، وخاصة حين ظهرت روسيا بوصفها مصدرا بديلا للصفقات العسكرية للدول الخليجية. أضف إلى ذلك أن محاولات روسيا التموضع في الشرق الأوسط على حساب الولايات المتحدة اعتمدت في جزء منها على اجتذاب حلفاء الولايات المتحدة التقليديين إلى مدار العلاقات والمصالح الروسية ولو جزئيا، ومن ثمَّ إضعاف متانة التحالف الأميركي في المنطقة، وهو ما لم يتفق مع رؤية طهران بطبيعة الحال.
ثمَّ حلَّت محادثات الاتفاق النووي بين طهران وواشنطن بوصفها أحد محاور العلاقة بين البلدين. ورغم رغبة موسكو في إبرام اتفاق نووي مع إيران، فإنها ربما تتضرَّر من انفتاح إيراني سريع على الاقتصادات الغربية، لا سيما مع رغبة دول أوروبا في الوصول إلى الغاز الإيراني، وهو ما يُخفِّف الضغط الروسي على الاقتصادات الأوروبية. بيد أن سياسة إيران تظل تنظر إلى روسيا بوصفها دولة موثوقة ضد الضغط الغربي رغم هشاشتها الاقتصادية، خاصة بعد أن طالتها العقوبات الغربية هي الأخرى، وهو ما يجعلها مرشَّحا للعمل مع طهران من أجل إنشاء منظومة فعالة تتجاوز العقوبات الغربية.
لذا، ومنذ توليه منصبه في أغسطس/آب الماضي، حرص الرئيس الإيراني “إبراهيم رئيسي” على أن يظهر مختلفا عن سلفه “حسن روحاني” الذي عني بإصلاح العلاقات مع الغرب، مُلبِّيا دعوة المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية “علي خامنئي” لتوثيق العلاقات مع روسيا والصين. وبينما تصدَّرت روسيا قائمة الدول التي زارها “رئيسي” هذا العام، نجحت روسيا بعد شهر واحد من تولي “رئيسي” منصبه في ضمِّ بلاده إلى منظمة “شانغهاي” للتعاون، التي تقودها روسيا والصين وتضمُّ دول آسيا الوسطى ذات الأهمية الإستراتيجية بالنسبة إلى طهران. وأخيرا، مع بدء الحرب الأوكرانية، كان الرئيس الإيراني من أوائل قادة العالم الذين اتصلوا ببوتين لإعلان الدعم، مُلقيا اللوم بالكامل على “استفزازات الناتو” والولايات المتحدة.
الحرب الأوكرانية تُعمِّق العلاقات الروسية الإيرانية
قبل أن يلتقط الرئيس الأميركي بايدن أنفاسه عائدا من جولته في الشرق الأوسط، فُرِشَت السجادة الحمراء لنظيره الروسي بوتين على أرض مطار “مهرآباد” بالعاصمة الإيرانية في 19 من يوليو/تموز الماضي، في ثاني زيارة له منذ اندلعت الحرب الأوكرانية في فبراير/شباط المنصرم. وقد التقى الرئيس الروسي نظيرَيْه التركي والإيراني ضمن اجتماعات عملية “أستانه” التي يتابع من خلالها الأطراف الثلاثة مصالحهم العسكرية والسياسية في سوريا. ومع ذلك احتلت الحرب في أوكرانيا صدارة محادثاتهم، وخاصة مسألة إنشاء ممر آمن للحبوب من أوكرانيا برعاية تركيا.
وهنا يُمكِن القول إن الغزو الروسي لأوكرانيا يُشكِّل نقطة تحوُّل مهمة عزَّزت العلاقات بين موسكو وطهران، فرغم أن إيران امتنعت في البداية عن دعم المبادرات التي قوَّضت الأساس القانوني الدولي لوحدة أراضي أوكرانيا منذ عام 2014، فإنها سرعان ما تحوَّلت إلى دعم المواقف الروسية بدرجة أكبر عام 2018، أي بعد انسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) المعروفة باتفاق فيينا.
وثمرةً لهذا التوافق المتنامي، أعلن القائمونعلى شركة “غازبروم” الروسية وشركة النفط الوطنية الإيرانية (NIOC) في حفل أُذيع على الإنترنت في يوليو/تموز الماضي توقيع مذكرة تفاهم بقيمة 40 مليار دولار، تشمل دعما تكنولوجيًّا روسيًّا لتطوير حقلَيْ الغاز الإيرانيين في “كيش” و”بارس”، فضلا عن ستة حقول نفط وغاز أخرى، بالإضافة إلى إنشاء خطوط أنابيب لتصدير الغاز. هذا ويُمكِن لمِثل تلك الاتفاقية أن تُمهِّد الطريق لتعاون جديد في مجال الطاقة، مما يساعد البلدين في تجاوز ضغط العقوبات الدولية عليهما. ويبدو إذن أن العقوبات المفروضة حديثا على روسيا ستساهم في تعزيز متانة العلاقات التجارية والاقتصادية مع إيران أكثر من عقوبات 2014 بالنظر إلى شِدة العقوبات الحالية، وهو ما تسعى طهران إلى استغلاله بكفاءة لتحسين وضعها الاقتصادي الذي تدهور هو الآخر في السنوات الأخيرة، بل وأشعل احتجاجات شعبية على ارتفاع الأسعار قبل أشهر قليلة.
علاوة على ذلك، من المُنتَظَر أن يؤدي دعم تركيا وإسرائيل لأوكرانيا وحلف الناتو إلى إحداث تباعُد نسبي بين موسكو من جهة وأنقرة وتل أبيب من جهة، وهو ما يعني تقاربا أكبر بين موسكو وطهران، خاصة في الملف السوري، على حساب التنسيق السابق بين روسيا وإسرائيل. ونتيجة لذلك، من المرجَّح أن تحصد إيران فوائد أمنية وجيوسياسية إلى جانب الفوائد الاقتصادية التي حصَّلتها جرَّاء الحرب الدائرة في أوكرانيا وما أحدثته من تحوُّلات في موقع روسيا السياسي والاقتصادي عالميا، ناهيك بأن انشغال الجيش الروسي بحرب أوكرانيا الآن يعني أنه سيصير بحاجة إلى الاعتماد أكثر على جهود طهران لحماية نظام الأسد، وهي فُرصة لإيران لترسيخ وجودها ونفوذها بشكل أكبر.
في نهاية المطاف، تبقى إحدى أهم صفحات التعاون بين روسيا وإيران هو التعاون العسكري، وبالأخص بعد أن ألحقت العقوبات الدولية ضررا بالغا بالاقتصاد الروسي، وحَدَّت من قدرته على بناء أو شراء التكنولوجيا للاستخدام العسكري، ومن ثمَّ جعلت روسيا في مأزق حقيقي بعد نحو خمسة أشهر من بدء الحرب، إذ تعاني القوات الروسية الآن من عدم وجود عدد كافٍ من طائرات الاستطلاع والقتال المُسيَّرة بعد أن استهلكت جزءا كبيرا من أسطولها، وهو ما دفعها إلى اللجوء إلى طهران لسد هذا العجز.
في النهاية، يبدو جليًّا أن العُزلة الدولية لروسيا وعلاقاتها المتوترة بالغرب قدَّمت لطهران حوافز إضافية لتعزيز العلاقات مع روسيا، كما أنها منحت في الوقت نفسه فوائد مهمة لروسيا لحماية دورها في سوريا والالتفاف على العقوبات بمساعدة بلد أصغر نسبيا لكنه خبير في الالتفاف على العقوبات. وكلما استمر أمد الحرب في أوكرانيا، من المرجَّح أن تتعزَّز فرص التعاون الروسي الإيراني، وهو ما يمنح إيران ثقلا سياسيا في المنطقة، ويجعلها شريكا ثقيلا في معسكر معاداة الغرب.