دفعت أزمة الطاقة التي تعيشها دول الاتحاد الأوروبي منذ اندلاع الحرب الأوكرانية، ومساعي إيجاد بدائل مناسبة للنفط والغاز الروسي، الدول الأوروبية لمحاولة إنقاذ الاتفاق النووي مع إيران. هذا الاتفاق كان شبه ميت منذ انسحاب الولايات المتحدة الأحادي منه في عام 2018 في عهد الرئيس دونالد ترامب. لم يكن من السهل تحقيق الأهداف الأوروبية التي تمخضت عن خطة توفيقية لتقريب المواقف بين الأمريكيين، المصرين على تقليم الأظافر الإيرانية، والإيرانيين الذين يعيشون في ظل عقوبات قاسية.
انعدام الثقة والتباين حول المطلوب من أي اتفاق جديد، وأيضاً اندلاع الحرب في أوكرانيا وانشغال العالم بها، جعل كل محاولات التفاوض السابقة والساعية لإحياء «الصفقة النووية» تبوء بالفشل، ما استفادت منه إيران في تسريع عملها على تحقيق مشروعها النووي، من دون التقيد بأي ضوابط. شملت محاولات التفاوض الأخيرة سلسلة طويلة من اللقاءاتـ التي عقدت في العاصمة النمساوية فيينا، واستمرت لأشهر طويلة متقطعة بداية من العام الماضي، قبل أن تليها مفاوضات أخرى غير مباشرة في العاصمة القطرية، الدوحة.
اجتياح روسيا لأراضٍ أوروبية، جعل كثيراً من الدول أقل عزماً على الضغط على إيران، التي زادت أهميتها كبديل محتمل لموارد الطاقة الروسية المهددة بالانقطاع
على الرغم من التحفظ، بدا أن الجانبين الأمريكي والإيراني يقبلان بالنص الأوروبي من الناحية المبدئية. المشكلة كمنت في التفاصيل، التي من بينها الخلاف الرئيسي حول «الحرس الثوري الإيراني» وضرورة رفع كل العقوبات والعقبات عنه. في هذا الشأن وفي حين يعتبر الأمريكيون أن هذا النقاش هو خارج سياق المفاوضات، يرى الإيرانيون، الذين يريدون تحقيق أكبر المكاسب الممكنة من وراء الاتفاق، أنه غير منفصل عنه. الإصرار على موضوع الرفع الكامل للعقوبات ظهر منذ بداية جولات التفاوض الأخيرة في فيينا، ففي الثامن من شباط/ فبراير الماضي، قبل أن تندلع الحرب، نشر علي شامخاني أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، تغريدة قال فيها، إن مهمة المفاوض الإيراني محددة في رفع العقوبات. كان رفع السقف بما ينحصر في الرفع الكامل للعقوبات مفهوماً في السياق التفاوضي، ومفهوما كذلك حرص المسؤولين الإيرانيين على التأكيد عليه بالقول، إن أي تفاوض لا يبدأ بهذه المسألة لن يكون محل التفاتهم. ما سنتأكد منه بعد أشهر من التفاوض هو أن هذه النقطة ليست مجرد مراوغة تكتيكية، وإنما هي موقف مبدئي يصعب تجاهله. في مقابل وجهة النظر الإيرانية، يفهم الأمريكيون مسألة رفع العقوبات على أساس أن المقصود بها العقوبات المرتبطة بالملف النووي وهذه أيضاً يرون أنها يجب أن ترفع بالتدريج وليس مرة واحدة. الداعمون للاتفاق يرون أن من المهم إقناع إيران بالعودة لنسب التخصيب التي حددت مسبقاً، والتي تجاوزتها منذ أمد. هذا وسط تحذير من قرب وصول إيران لهدفها النووي بالنظر لكمية اليورانيوم المخصب التي تملكها ولغير ذلك من المؤشرات.
في ظل الأزمة الروسية الأوكرانية الحالية يعود الموضوع النووي مجدداً إلى صدارة الأجندة الدولية، فالمحور الغربي من مصلحته التوصل إلى اتفاق مرضٍ، ليس فقط بسبب مسألة الطاقة، ولكن أيضاً لأن البديل سيكون إيران نووية وحليفة لكل من روسيا والصين. التصريحات الأوروبية الأخيرة المتفائلة قد تكون مضللة، فقد سبق أن أدلى المسؤولون الأوروبيون بتصريحات إيجابية حين تم التوصل للاتفاق في عام 2015، كما أنهم ظلوا محافظين على تفاؤلهم حتى بعد خروج الولايات المتحدة، وبدا لوهلة وكأنهم كانوا واثقين من أن الأطراف المعنية ستعود لا محالة للاتفاق. هي الثقة نفسها التي صاحبت المواقف الأوروبية، التي كانت تتحدث عن اتفاق وشيك بين إيران والولايات المتحدة، خلال المفاوضات الأخيرة في فيينا، التي رفعت سقف الحماس العالمي إلى أعلى مستوياته. تتجاهل هذه التصريحات حقيقة مهمة، وهي أن العقدة التي صاحبت الاتفاق النووي منذ أيام التفاوض الأولى ما تزال حاضرة، وهي أن أي نقاش حول المسألة النووية بين الجانبين الأمريكي والإيراني لا ينحصر حولها، بل يتعداها لقضايا أخرى.. من جهة تحاول الولايات المتحدة محاصرة الحرس الثوري ومؤسساته الاقتصادية والمالية، وأن تضمن تحسن السلوك الإيراني الإقليمي، وأن طهران لن تستخدم الانفتاح المقبل في ما يمكنه أن يهدد أمنها ومصالحها في المنطقة، أما من الجهة المقابلة، فتسعى إيران للحصول على تعهد أمريكي ملزم برفع جميع العقوبات، وعدم العودة إليها مع العمل على إعادة دمجها مالياً في الاقتصاد الدولي. حين تطرح الشواغل الإيرانية يرد الأمريكيون بالقول إن هذه أمور غير قابلة للتفاوض حالياً ولا يمكن التعهد بها، بل إنه، حتى إن تم تنفيذ بعضها، فإنها لن تكون أبدية وملزمة للإدارات المقبلة. التعقيد مشابه بالنسبة للإيرانيين الذين يعتبرون أن أي حديث عن قضايا مثل «تحسين السلوك» هو خارج عن السياق. هناك عامل جديد قد يساهم في تعقيد التفاوض حول «النص النهائي» وهو العامل الروسي، فالغرب يخوض حرباً سياسية وإعلامية واقتصادية ضد روسيا، منذ توغلها في أوكرانيا ولا يخفي رغبته في تحجيم قوتها وإضعافها بأي شكل ممكن. في الوقت ذاته لا يمكن تجاهل حقيقة أن روسيا كانت من الأطراف الموقعة على الاتفاق، كما أنها ظلت جزءاً من المفاوضات الساعية لإحيائه وإنقاذه، جنباً إلى جنب مع الصين ودول أوروبية. ليس هذا فقط، وإنما كان من المقترح أن يتم تخزين مواد انشطارية لازمة للصناعة النووية في روسيا، ريثما تكمل إيران فترة الاتفاق المنتظرة، اليوم أصبح هذا كله محل شك، بعد أن أصبح شركاء الأمس الذين كانوا يطلبون تدخل روسيا لتليين موقف أصدقائها الإيرانيين، في صراع معها. من جانب آخر، فإن التهديد الذي مثلته روسيا باجتياحها أراضٍ أوروبية، جعل كثيراً من الدول أقل عزماً على الضغط على إيران، التي زادت أهميتها كبديل محتمل لموارد الطاقة الروسية المهددة بالانقطاع. تتفاوض إيران على «النص النهائي» المقدم من قبل الأوروبيين وفي يديها ورقتي ضغط: الأولى هي خشية الجميع من اقتراب حصولها على القنبلة النووية، خاصة مع الغموض الذي يكتنف تجاربها ومنشآتها، والثانية هي احتياج الغرب لما تمتلكه من غاز، فبالنسبة لمعظم الدول الأوروبية لا يبدو هذا الوقت مناسباً لتصعيد العقوبات أو مقاطعة الموارد الإيرانية، خاصة بعد التأكد أن تطبيق هذه السياسة في الحالة الروسية لن يؤثر فقط في روسيا، وإنما في دول الاستيراد أيضاً. هذا كله جعل إيران تتمسك بمطلب الرفع التام والمسبق للعقوبات، على الرغم من علمها أن هناك عقوبات لا علاقة لها بالاتفاق النووي، وإنما ترتبط ببنود أخرى كحقوق الإنسان. في جانب كل هذا فإن هناك تحديا آخر يساهم في تعقيد التوصل إلى حل نهائي، وهو المتعلق بالوضع الداخلي في كل من واشنطن وطهران، ففيما يتعلق بالأولى، لا يحظى موضوع العودة إلى الاتفاق النووي بالشعبية الكافية، حيث يرى كثيرون أن الاتفاق كان خطأ، أما بالنسبة للداخل الإيراني، فالحرس الثوري وغيره من الأجنحة المتشددة ما تزال عند رأيها الذي يرى أن الاتفاق النووي يقود إلى التنازل عن كثير من المكتسبات ومظاهر القوة.
هل يمكن أن يتجاوز الجانبان كل هذه الثغرات ويتوصلا إلى اتفاق نهائي خلال أيام، كما تروّج بعض التصريحات؟ هذا ما ستكشفه الأيام المقبلة.
القدس العربي