منذ شهور مضت أصبح معلوما أن الولايات المتحدة الديمقراطية ليست عازمة فقط، بل متعجلة وجاهزة لترضية إيران وتلبية شروطها الابتزازية من أجل العودة إلى الاتفاق النووي القديم، ولكن بصيغة جديدة لا تختلف عنه إلا بأقل القليل.
فقد دأبت على تسخين الرأي العام الأميركي وتحضيره لاستقبال الطبخة على مراحل. ولا يَتوقع خبراءُ السياسة الأميركيون أن يرفضها الكونغرس. وحتى لو حصل، فالرئيس له حق الفيتو.
المهم أن هذه الاتفاقية ستدخل بعد شهرين من التوقيع عليها مرحلة التنفيذ. أي أن على العراق ولبنان وسوريا واليمن ودول الخليج العربية أن تتهيأ لاستقبال مرحلة إيرانية جديدة سيُضطر فيها الحرس الثوري إلى تفعيل قبضته الحديديّة العسكرية والاقتصادية بهدف معاقبة خصوم الدرجة الأولى، وتحييد خصوم الدرجة الثانية، ومحاسبة الولائيين الذي حاولوا أن يُخففوا ولاءَهم، أو يلونوه بالوطنية المحلية، حتى لو كانوا من عظام الرقبة، أو من الذين كانوا إلى الأمس القريب أحبَّهم إلى قلب المرشد الإمام.
◙ ينسى المتفائلون أن العقوبات لم تفرض على إيران بسبب اعتداءاتها علينا، ولا تدخلاتها في حياتنا، وحروبها في المنطقة، بل بخصوص برنامجها النووي، فقط لا غير
وأسوأ ما في الاتفاقية الجديدة أمران، الأول أن الولايات المتحدة ستبدأ برفع العقوبات الإضافية المفروضة على شركات إضافية، فور التوقيع، وقبل التأكد من صدق نوايا إيران. والثاني سيكون عليها، بعد ستة أشهر، أن تَرفع باقي العقوبات التي فرضها الرئيس السابق دونالد ترامب، وتسمح بالتجارة معها، وتفرج عن أموال طائلة مجمدة في دول حليفة مقابل أن تقوم إيران بإزالة “فائض” البنية التحتية للتخصيب.
ومن باب تهدئة الخواطر طلبت الإدارة الأميركية الديمقراطية من المفاوض الإيراني أن يقبل ببقاء الحرس الثوري على قائمة الإرهاب، وذلك لحاجتها إلى هذه “المكرمة” الإيرانية لتبريد سخونة الجمهوريين في مجلس النواب ومجلس الشيوخ، ولو إلى حين، مع معرفة الولايات المتحدة وحلفائها بأن الحرس الثوري شغال أربعا وعشرين حبة، منذ أول أيام العقوبات وحتى اليوم، بشركات ومؤسسات وسيطة فاعلة تعمل لحسابه وتمده بالمال الذي يحتاجه لتمويل “جهاده” المقدس في داخل إيران وفي دول الجوار، وفي بعض دول العالم ذات العيون النائمة.
وبعد كل هذا الكلام الفاضي أعلن الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في مؤتمره الصحافي الأخير، بالقلم العريض، أن إيران لن تتخلى عن طموحها النووي. أما نفيُه أن يكون السلاح النووي من إستراتيجية وليّه الفقيه الدفاعية، فهو المبدأ الإيراني المعروف باسم “التقية” الذي تستخدمه إيران للتعمية على حقيقة نشاطاتها، من أول قيام النظام قبل أربعين سنة، وحتى اليوم، وإلى نهاية الزمان.
ثم إن الثابت، عمليا وملموسا، أن من رابع المستحيلات أن تتمكن قوة على الأرض، مهما كان جبروتها التجسّسي وقدراتُها التفتيشية، من ضبط تحرّكاتها السرية، بعد رفع العقوبات، وتدفق الأموال عليها من كل جانب، خصوصا بعد أن تصبح الولايات المتحدة، بعد حصول إيران على كامل حريتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية، عاجزة عن فعل شيء أكثر من الشجب والمناشدة والاستنكار، في لعبة القط والفار القائمة بينهما من زمن طويل.
وما يعنينا، في العراق ودول الخليج العربي وسوريا ولبنان واليمن، هو أن الاتفاقية الجديدة خيبت آمالنا، وبينت أنها لن تكون بردا وسلاما على بلادنا وشعوبنا، بعد أن صدقنا، طيلة سنوات القهر السابقة، أن الولايات المتحدة ستفي بوعدها وتتولى الدفاع عن أمن حلفائها، فتقوم، بجبروتها العسكري والتكنولوجي والمالي والسياسي، بإجبار إيران على وقف اعتداءاتها علينا مقابل اتفاقية إلغاء العقوبات، لتعود الحياة في بلادنا إلى طبيعتها الآمنة السابقة المنشغلة ليس بمقاومة الحرس الثوري الإيراني وصواريخه ومسيَّراته وميليشياته، بل بالبناء والتعمير وصنع السلام.
ولمعرفة حقيقة رؤية الإيرانيين ووكلائهم العراقيين واللبنانيين والسوريين واليمنيين للاتفاق الإيراني – الأميركي الجديد يكفي أن نتابع فضائيّاتهم ونستمع إلى محلّليهم ومعلّقيهم المنهمكين بالتهليل والتكبير للنصر الرباني الذي تحقق بفضل حكمة الولي الفقيه وشطارته. فهم جميعا يخلطون عسل أفراحهم الغامرة بعودة الدعم المجزي الإيراني لأحزابهم وحُسينياتهم وميليشياتهم، بسُمّ تهديداتٍ مبطنة موجهة إلى خصوم إيران العائدة من مفاوضات فيينا منصورة ظافرة، بعد سنوات مضنية من الصبر والانتظار.
وتبقى الغفلة من نصيب عرب النوايا الحسنة الذين يروجون لفكرة “عدم وجود ما يهدد الأمن القومي العربي في الاتفاقية الجديدة”، ويدعون إلى تشجيع العودة إلى مفاوضات إعادة جسور السلام القديمة مع إيران الجديدة.
◙ من باب تهدئة الخواطر طلبت الإدارة الأميركية الديمقراطية من المفاوض الإيراني أن يقبل ببقاء الحرس الثوري على قائمة الإرهاب
ولا أحد، إلا الأحمق والشرير، لا يتمنى أن تهدأ الخواطر بين العرب وإيران، وأن تستفيق العقلانية في المجانين، وأن يتوب المذنب، وأن يستغفر ربه وعباده، وأن تولد في أعماقه الرحمة والعطف والحق والسلام، بعد خراب البيوت، على أساس ما من محبة إلا بعد عداوة، وعلى طريقة “من ضربك على خدك فاعرض له الآخر، ومن أخذ رداءَك فلا تمنعه ثوبَك”، ولكن إلا مع إيران وحرسها الثوري وأحزابها وميليشياتها وجواسيسها وخلاياها النائمة في مجتمعاتنا، فهي أصعب من هداية الشيطان الرجيم وإقناعه بأن يسجد لآدم كما تفعل الملائكة.
وينسى هؤلاء المتفائلون أن العقوبات لم تفرض على إيران بسبب اعتداءاتها علينا، ولا تدخلاتها في حياتنا، وحروبها في المنطقة، بل بخصوص برنامجها النووي، فقط لا غير.
ومغفل أو منافق من يحلم بأن النظام الإيراني يستطيع، أو يريد، أو يجرؤ على تغيير دمه، وتبديل لحمه وعظمه، وهو يعلم بأن أي إرخاءٍ لقبضتهِ النارية الدموية الضاربة هو انتحار أكيد.
والصعب الذي لا يمكن هضمه هو أن يكون لدى إدارة جو بايدن أمل في أن اتفاقا، من أي نوع، وبأية صيغة، يمكن أن يجعل النظام الإيراني يتغير، في يوم من الأيام.
ثم، هل هو فعلا يريده أن يتغير؟ هذا هو السؤال.
العرب