يبدو أن تفجيرات باريس في 13 نوفمبر الجاري، ستدفع فرنسا نحو تبني حراك سياسي وعسكري تجاه التعاطي مع الأزمة السورية سواء في إتجاه الضغط على الأطراف الفاعلة، سواء الإقليمية أو الدولية، في الأزمة السورية للوصول إلى مخرج نهائي، أو في إتجاه تكثيف الضربات الجوية ضد تنظيم داعش سواء في سوريا أو العراق، أو حتى التنسيق مع دول عديدة من أجل توظيف قوات برية على الأرض تستهدف داعش، لاسيما في ظل وصف الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند الحادث بالحرب، وما قد يصحبه من عدة تداعيات محتملة تتعلق بكيفية التعامل مع أزمة اللاجئين ومواجهة العائدين الجهاديين من سوريا، إلا أن درجة انخراطها في الأزمة السورية مازال محكوما بعدة متغيرات.
خيارات عديدة
أكد الرئيس فرانسوا أولاند على أن التنظيم هو المسئول عن هذه الهجمات، واصفها بالحرب، بما يعني عمليا ضرورة بلورة رد فعل يتناسب مع طبيعة الهجوم، للتخفيف من حدة الضغوط الداخلية التي قد يتعرض لها جراء هذا الحادث. ويمكن استنتاج عدة خيارات قد تتبناها فرنسا، خلال المرحلة المقبلة، وهما:
1- الدفع نحو الوصول إلى تسوية سياسية للأزمة السورية، وهو ما أتضح عقب اجتماع فيينا، الذي طرح جدولا زمنيا لتشكيل حكومة انتقالية في سوريا خلال ستة أشهر وإجراء انتخابات خلال 18 شهرا، رغم أن فرنسا كانت من أكثر الدول الأوروبية تشددا تجاه نظام الأسد، حيث كانت تعتبره أساس الفوضى، في فترات سابقة، وكانت تصر على تخليه أو تنحيه عن الحكم، ولا يعد جزءا من مستقبل سوريا.
غير أنه بدا أن نجاح نظام الرئيس بشار الأسد في الحفاظ على تماسك “بقايا” الدولة السورية والتصدي للتنظيمات الإرهابية، يتلاقى مع المصالح الأوروبية، في ظل غياب أي بديل لنظام الأسد قادر على ملء الفراغ الذي سوف يتركه بعد رحيله في ظل الصراعات المتصاعدة بين القوى السياسية المختلفة، وعدم امتلاك المعارضة المسلحة سلطة فعلية على الأرض أو برنامج عمل قابل للتنفيذ. وبالتالي، سوف تعتبر باريس بشار أقل الأضرار في المرحلة المقبلة.
2- تعزيز الضربات الجوية ضد داعش، سواء بالتنسيق مع قوات التحالف الدولي أو دون التنسيق، وهو ما يتضح من تصريح وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس “أن أحد أهداف اجتماع فيينا هو تحديدا أن نرى بشكل ملموس كيف يمكننا تعزيز التنسيق الدولي في مجال مكافحة داعش”، ويتزامن ذلك مع تحركات فرنسية سابقة لاستهداف داعش في سوريا، لا سيما عقب إرسال حاملة الطائرات “شارل ديجول” للمشاركة في الغارات ضد داعش. وقد تسببت تفجيرات شارلي إبدو في دفع فرنسا نحو استهداف تنظيم داعش في سوريا.
وفي السابق، كانت تصًر فرنسا على توجيه ضربات عسكرية ضد نظام الأسد، باعتباره المسئول الرئيسي عن الأزمة السورية، ولكن بعد سيطرة داعش على مناطق عديدة في العراق ثم سوريا، تغيًر الموقف تدريجيا في ظل الانشغال بمحاربة الإرهاب فضلا عن محاولة تخفيف حدة التداعيات الناجمة عن انضمام عدد كبير من الأوروبيين إلى ساحة القتال في سوريا والعراق وكذلك تدفق عدد كبير من اللاجئين إلى فرنسا ودول أوروبية أخرى. وبالتالي تحولت الأولوية من محاربة الأسد إلى محاربة الإرهاب.
3- البحث عن إسناد قوات على الأرض، مع أي قوى ترغب في ذلك، أي دفع فرنسا حلفاءها للبحث بجدية حول مراجعة جهود التحالف الدولي الذي تشكًل في سبتمبر العام الماضي، لأن نتائجه على الأرض حتى الآن غير مجدية، في ظل عدم قدرتهم على استئصال التنظيم أو حتى ردعه عن استهداف الدول الأوروبية، وهو ما قد ينعكس من حديث أولاند أن هناك حرب ضد فرنسا. وهذا يعني عملياً أن فرنسا سترد رد شديد للغاية بحيث يتناسب مع تصريحه خاصة وأن فرنسا دولة كبرى وبالتالي لا يمكن تصور تراجعها عن هذا التصريح، وما قد ينتج عن “حرب مفتوحة” مع التنظيمات الإرهابية المختلفة.
ومع ذلك، يتطلب هذا الخيار التنسيق مع روسيا والولايات المتحدة، وربما إيران، بعد أن باتت روسيا الدولة الوحيدة القادرة على حل الأزمة السورية، وربما تستغل فرنسا إعلان بوتين في وقت سابق عن إقامة تحالف دولي جديد يضم الولايات المتحدة و بعض الدول الأوروبية والعربية ونظام بشار الأسد لمحاربة تنظيم داعش، لتنشيطه من جديد. فضلا عن أن هناك توجه فرنسي مفاده أن التدخل العسكري في بعض الأزمات على غرار الأزمة في مالي، كان أحد الأسباب الرئيسية في تنامي ظاهرة الإرهاب.
التداعيات المحتملة
في ظل الخيارات آنفة الذكر، يبدو أن فرنسا ستزيد من انخراطها وتفاعها مع الأزمة السورية، وهو ما قد يفرض عدة تداعيات محتملة، يمكن إجمالهما في التالي:
1- انتشار خلايا نائمة في أوروبا، لا سيما في ظل التغير النوعي في طبيعة العمليات الإرهابية، وانتقالها من الذئاب المنفردة lonely wolf””، بعد الاعتداء على المتحف اليهودي في مدينة بروكسل، في مايو العام الماضي أو حتى أحداث شارلي إبدو في يناير الماضي إلى ممارسة أعمال العنف العشوائي بعد استهداف أكثر من مكان في وقت واحد، وهذا يعني اتساق نطاق العمليات الإرهابية، خاصةً وأن عدد المتطرفين الأوروبيين في سوريا تجاوز مختلف التوقعات. وقد أشارت عدة تقارير أوروبية إلى تحول فينيا على سبيل المثال إلى “قبلة المجاهدين” الأوروبيين، وتحوُّل ستوكهولم إلى مركز مالي واقتصادي لتمويل التنظيمات الإرهابية.
2- تشديد الإجراءات الأمنية ضد اللاجئين، خاصة بعد الحديث عن وجود جواز سفر سوري في أماكن الهجمات، وبالتالي مزيد من سياسات التشدد تجاه اللاجئين، فضلا عن الحديث عن اندلاع النيران في مخيم كالييه للاجئين شمالي فرنسا، وقرار بولندا عدم استقبال أي لاجئ، ورفض حصتها من المهاجرين الواصلين إلى الاتحاد الأوروبي، وهو ما قد يدفع دول أوروبية أخرى لاتخاذ نفس الخطوة، خاصة وأن هذه الدول تتعامل مع هذه الظاهرة بقدر تأثيرها على أمن الدول الغربية، وليس تأثيرها على الصراع في سوريا أو على أمن منطقة الشرق الأوسط.
3- صعود اليمين الأوروبي المتطرف، وارتبط ذلك بصعود الأحزاب المعادية للهجرة، التي ستدفع الدول الأوروبية نحو إعادة تغيير سياساتها، وهي أحزاب معروفة بتوجهاتها المعادية تجاه المسلمين ومعادية للوحدة وبالتالي التشديد في استقبال أي لاجئ، و طالبت زعيمة الجبهة القومية اليمينية ماريان لوبان السيطرة على حدودها بشكل نهائي من الاتحاد الأوروبي والقضاء على التطرف الإسلامي”، ودعا الزعيم اليمني المتطرف المعادي للإسلام، خيرت فيلدرز، الحكومة الهولندية إلى إغلاق الحدود بشكل فوري.
4- استهداف المليشيات مصالح الدول الغربية، وتحولها إلى بؤرة مستقرة للإرهابيين، وبالتالي تكوين دويلات جهادية عابرة للحدود تستهدف مصالحهم في دول المنطقة، مما قد يسبب في حرب استنزاف لفرنسا في حالة مشاركتها في أي عمل عسكري.
5- الانتشار الجغرافي للتحالف ضد داعش، وما قد يترتب عليه من عودة الاستباق الوقائي، وهو ما ينعكس من الرد الأمريكي باستهداف زعيم تنظيم داعش في ليبيا، أبو نبيل العراقي، وهي أول ضربة أمريكية جوية تستهدف التنظيم في ليبيا، وقد أشار المتحدث باسم البنتاجون، بيتر كوك، “رغم أن هذه الضربة ليست أول ضربة أمريكية تستهدف إرهابيين في ليبيا، إلا أنها أول ضربة أمريكية ضد أحد قادة “داعش” في ليبيا، وتظهر أننا سنلاحق قادة داعش في أي مكان يتحركون فيه”.
خلاصة القول انفجارات باريس ستفرض على الدول الغربية التعامل بجدية مع الأزمة السورية نحو إيجاد مخرج نهائي، وضمان إعادة التفكير في التحالف الدولي ضد داعش، لا سيما وأن هذا التحالف لم يحقق نتائج فعلية، ويتوقف ذلك على رد فعل فرنسا، ومدى استعدادها لمواجهة كافة المخاطر الناجمة عن أي خطوة ستتخذها فيما يتعلق بمسائل الأمن وسياسات الهجرة.
ريهام مقبل
المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية