العراق المنهك.. مسرح الصراعات الإقليمية والدولية

العراق المنهك.. مسرح الصراعات الإقليمية والدولية

_66742_ii3

تفيد تجربة التاريخ الدولي أن ظاهرة الحراك الدولي، بمعنى ارتقاء الدول، بكافة مستوياتها المعروفة أو تراجعها حضاريا، تعد ظاهرة عالمية ممتدة عبر الزمان والمكان، جراء مخرجات العلاقة الطردية، الموجبة أو السالبة، بين نمو القدرات الموضوعية والذاتية لهذه الدول و تآكلها، وبين نوعية فاعليتها الداخلية والخارجية، سلبا أو إيجابا.

ويقدم العراق، بعد عام 2003 خصوصا، دليلا مضافا على مصداقية ظاهرة الحراك الدولي. فمخرجات السياسات، التي اعتمدتها سلطة الاحتلال الأميركي متفاعلة مع تلك التي انطلقت منها الحكومات العراقية المتعاقبة، أدت إلى اقتران الجسد العراقي باختلالات هيكلية متعددة ومتنوعة، وبالتالي إلى حالة غير مسبوقة في تاريخ العراق الحديث ما يمكن أن نعبر عنه بانتفاء الفاعلية الداخلية والخارجية.

إن امتداد تأثير هذا الواقع السلبي إلى المستقبل، وهو المشهد المرجح، سيفضي إلى أن يكون مستقبل العراق امتدادا لمعطيات حاضره، وبمخرجات قد تفضي به إما إلى أن يكون عمليا تابعا لإيران، وإما إلى بروز مدخلات داخلية تفضي إلى تقسيمه إلى دويلات متصارعة على الأرض والموارد ومنساقة وراء سياسات دول الجوار أو في أحسن الأحوال، إلى الأخذ بالنموذج اللبناني في العراق.

والسؤال المطروح، كيف يُحتمل أن تتصرف دول الجوار الجغرافي العراقي، ولا سيما المملكة العربية السعودية وتركيا وإيران فضلا عن إسرائيل حيال ديمومة واقع التردي في العراق؟

تفيد خبرة التفاعلات الإقليمية أن نوعية إدراك إحدى دول الجوار لمعطيات الواقع الداخلي لدولة مجاورة أخرى ينطوي على تأثير بالغ الأهمية في أنماط سلوكها حيال هذه الدولة. فالسلوك حيال الدول غير المستقرة و/أو الضعيفة هو غير ذلك السلوك الذي يتم الانطلاق منه حيال الدول المستقرة وذات القدرة على الفعل.

ومنذ احتلاله، استمر العراق دولة فاشلة وفاسدة داخليا، وضعيفة التأثير خارجيا. وقد كانت هذه الحقيقة الموضوعية هي الأساس الذي انطلقت منه الدول الإقليمية الأكثر تأثيرا في تعاملها مع العراق خلال سنوات 2003-2015. ولا يرجح، بعد عام 2015، أن تتغير أنماط السلوك السياسي الخارجي لهذه الدول حياله، إلا إذا تغير واقعه الداخلي، سلبا أو إيجابيا.

ضعف العراق وغرقه في المشاكل الداخلية يلغيان، ولفترة قادمة، إمكانية عودته إلى أداء دور فاعل ومؤثر إقليميا، مثلما كان يوما

المملكة العربية السعودية

منذ احتلاله، والعراق يعد إحدى الساحات الإقليمية التي استمرت، ضمنيا أو صراحة، محط تنافس استراتيجي بين مشروعين متناقضين من حيث الهدف، هما المشروع السعودي والمشروع الإيراني. فأما الأول فهو يرمي إلى ضمان أمن الخليج العربي، كجزء لا يتجزأ من الأمن القومي العربي. وأما الثاني فهو يسعى إلى تأمين إيران كقوة إقليمية كبرى، ومن ضمنه مد هيمنتها إلى الخليج العربي والبحر المتوسط تحقيقا لغاية قومية معروفة.

وجراء هذا التناقض، كان بديهيا أن تدرك المملكة العربية السعودية أن مخرجات احتلال العراق والانسحاب الأميركي منه نهاية عام 2011، فضلا عن الاتفاق حول البرنامج النووي الإيراني لاحقا، قد رفد الخلل القائم في ميزان القوى بين دول مجلس التعاون الخليجي وإيران لصالح الأخيرة، بعناصر مضافة.

لذا، ومثلما كان الحال بعد عام 2003، من المرجح أن يبقى الحد من تعاظم النفوذ الإيراني في العراق أحد أبرز أولويات السلوك السياسي الخارجي السعودي، وفق مدخلين:

أولهما، هو الحرص على أن لا يفضي النفوذ الإيراني المتزايد في العراق إلى تهديد هويته العربية بعنصر مضاف، لا سيما وأن عملية جعله فارسيا، وخاصة في محافظاته الجنوبية والوسطى، لم تهدأ منذ عام 2003. وقد تجسد هذا الحرص مثلا في توجه دول الخليج العربي، في أوقات مختلفة، إلى إعادة وتفعيل علاقاتها وتفاعلاتها الدبلوماسية مع العراق، وتوظيفها سبيلا لتشجيع عراق ما بعد الاحتلال على تبني سياسة إقليمية متوازنة، على الأقل.

وأما المدخل الثاني، فهو يكمن في أن وجود دولة طائفية على الحدود الشمالية للمملكة العربية السعودية يشكل تهديدا أمنيا جادا لها. ولا ينبع هذا التهديد من إمكانية اختراق مليشيات طائفية إيرانية التوجه والتبعية، لهذه الحدود فحسب، وإنما أيضا من إمكانية تأثر بعض مكونات المجتمع السعودي، ولا سيما في المنطقة الشرقية السعودية، بالحالة الطائفية السائدة في العراق، بسبب التداخل السكاني عبر الحدود.

تركيا

تفيد اتجاهات السلوك السياسي الخارجي التركي حيال العراق بعد 2003 أن تركيا تطلعت إلى بناء علاقة وطيدة مع العراق لتحقيق مصالح اقتصادية وسياسية وأمنية منشودة. لذا فإن لتركيا مصلحة في عدم تحول العراق إلى دولة غارقة في الفوضى والصراع الطائفي، فهذا يحول دون تأمين المصالح المنشودة.

ومثلما كان عليه الحال منذ عام 2003، ستستمر تركيا، على الأرجح في توظيف علاقاتها الوطيدة نسبيا مع المكونات الاجتماعية العراقية للإسهام في تشكيل مستقبل العراق، كما قال داود أوغلو، وزير الخارجية التركي سابقا، “إن الحرص على ديمومة المصالح المتحققة وتطويرها لا يلغي أن تركيا ستعمل، سواء منفردة و/أو مع دول عربية وغير عربية، من أجل ألا يتحول العراق إلى دولة تابعة عمليا لإيران”. هذا التحول من شأنه إعلاء المكانة الإقليمية لإيران على حساب المكانة الإقليمية لتركيا ومصالحها العليا. ومثلما كان العراق إحدى الساحات الأساسية للصراع بين العثمانيين والفرس في سابق الزمان، لا يزال كذلك بين الأتراك والإيرانيين، وسيبقى.

إيران

كأحد أهم أهداف استراتيجيتها بعيدة المدى حيال العراق، عمدت إيران بعد عام 2003 إلى ألا يشكل العراق مرة أخرى تهديدا إستراتيجيا لها. ومن هنا نبع حرصها على تأمين وصول حلفائها إلى قمة الهرم السياسي في العراق وديمومة تربعهم عليه، وذلك عبر تغذيتهم بالإمكانات من ناحية والتدخل للحد من تفاقم صراعاتهم البينية الكامنة من ناحية أخرى.

وقد أضحى معروفا أن إدارة العراق عبر حكومات موالية لإيران جعلت منه مرتكزا أساسيا لضمان مصالحها الاقتصادية، والثقافية-المذهبية، وعمقا استراتيجيا، كانت تفتقر له، هذا فضلا عن استخدام العراق كبوابة لاختراق دول الخليج والمشرق العربي.

وفي ضوء معطيات الواقع العراقي الراهن، نرى أن إيران ستعمد إلى توظيفها، لصالحها، وعلى ثلاثة مستويات متفاعلة.

المستوى الأول، يكمن في سعيها إلى ترسيخ النفوذ سبيلا لتكريس المكاسب المتحققة، عبر توظيف تلك الآليات التي أدت إلى أن تتمتع إيران بتأثير في العراق لم تحلم به قبل عام 2003. أما المستوى الثاني، فمفاده أن إيران ستعمل على ضبط تطور العلاقات العراقية–العربية وفق تطور نوعية علاقاتها مع دول الخليج العربي خصوصا، تعاونا أو صراعا، وهذا في إطار تأمين انسياق العراق وراء سياستها الخارجية.

وأما المستوى الثالث، فهو يعبر عن نزوع إيران إلى تجنب أي صراع حقيقي مع الولايات المتحدة الأميركية في العراق دعما لمخرجات علاقتهما الجديدة الناجمة عن توقيع الاتفاق حول برنامجها النووي.

من المرجح أن يبقى الحد من تعاظم النفوذ الإيراني في العراق أحد أبرز أولويات السلوك السياسي الخارجي السعودي

وفي ضوء ما تقدم، نرى أن توظيف إيران لمعطيات تفاقم التردي في العراق لصالحها، متفاعلا مع ضآلة التأثير الخارجي والرامي إلى الحد من تدخلها في العراق، ستجعل العراق ليس تابعـا فحسب، وإنما أيضا وكيلا بالنيابة لإيران.

إسرائيل

رغم أن إسرائيل ليست من دول الجوار الجغرافي المباشر للعراق، بيد أنها كلاعب ينطلق من مشروع إقليمي، يبقى، ومثلما كان الحال في الماضي، معنيا بالشأن العراقي، حاضرا ومستقبلا. ويعتبر ذلك سبيلا لضمان مصلحة إسرائيلية مهمة، وهي ألا يعود العراق مرة أخرى ليشكل تهديدا أمنيا جادا للأمن الإسرائيلي. ومن أجل ذلك، يرجح ألا تتردد إسرائيل عن توظيف آليات سرية لتكريس حالة الفوضى والصراع الطائفي والعرقي، وبالتالي الدفع بحالة التردي في العراق إلى التفاقم. فالعراق الضعيف والغارق في المشاكل الداخلية يلغي، ولفترة طويلة قادمة، إمكانية عودته إلى أداء دور فاعل ومؤثر إقليميا، مثلما كان يوما.

كذلك ينطوي مشهد ديمومة التردي في العراق على فرصة مهمة تساعد إسرائيل على توظيف نوعية علاقاتها مع الولايات المتحدة الأميركية وعلاقة الأخيرة بالعراق من أجل ترتيب تلك الظروف التي تدفع به إلى الاعتراف بها، كإحدى حقائق الأمر القائم في الشرق الأوسط. وغني عن القول أن اعتراف الدول العربية بإسرائيل وتبادل العلاقة العلنية معها يعدان من بين أولويات السياسة الخارجية الإسرائيلية.

ويتبع ما تقدم تطوير الوجود الإسرائيلي في العراق من طبيعته الراهنة غير المعلنة إلى أخرى معلنة. وقد سبق لفهمي هويدي أن تناول هذا الوجود بقوله “إن هذا الوجود كالفيل في الغرفة، الجميع يدرك وجوده، إلا أنهم لا يستطيعون رؤيته”.

د.مازن الرمضاني

صحيفة العرب اللندنية