في السطور الأولى من مقدمة كتابه الأحدث، «القيادة: ستّ دراسات في الستراتيجية العالمية» والذي صدر صيف هذا العام ضمن منشورات بنغوين راندوم في نيويورك؛ يبدو وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر وكأنه – من دون أن يقصد، بالطبع – يُسلْم قارئه المناهض، المعادي لشخص كيسنجر وتسعة أعشار أفكاره وسياساته وسلوكياته، مفتاحاً استهلالياً بليغاً يؤكد صلاحية معارضة الكتاب أو حتى الإعراض عن قراءته. فهو يكتب التالي: «إنّ أيّ مجتمع، أياً كان نظامه السياسي، هو في حال انتقال دائم بين ماضٍ يشكّل ذاكرته ورؤية للمستقبل تلهم تطوّره. وعلى هذا المنوال، لا غنى عن القيادة: قرارات يتوجب أن تُتخذ، وثقة تُكتسب، ووعود تُوفى، وطريق إلى الأمام يُقترح».
ذلك لأنّ نقائض هذه كلها، وسواها أخرى كثيرة في الواقع، ظلت بمثابة سنن «القيادة» التي تولاها كيسنجر من مواقع بالغة الحساسية في السياسة الخارجية الأمريكية: مستشاراً للأمن القومي، ووزيراً للخارجية، ومهندساً للوفاق مع الاتحاد السوفييتي والصين، ومحرّكاً في مفاوضات باريس التي وضعت خاتمة/ مخرجاً لعقود من جرائم الحرب الأمريكية في فييتنام؛ فضلاً، بالطبع، عن هندسة الانقلابات العسكرية هنا وهناك في العالم خاصة تشيلي ضدّ الرئيس المنتخب ديمقراطياً سلفادور أللندي، والتواطؤ على المجازر الأشنع في باكستان وبنغلادش وهنا وهناك في العالم أيضاً، واستنفار الإنذار النووي الأقصى في البيت الأبيض من دون علم الرئيس للضغط على السوفييت وعكس اتجاه الحرب على الجبهتين المصرية والسورية سنة 1973، وما إلى ذلك كثير متنوع شائن…
ثمة بالتالي حاجة إلى منظور نقدي مبدئي يصلح عوناً لقارئ من طراز آخر، يعنيه الوقوف على زبدة ما يرى كيسنجر وما ينظّر ويستشرف وهو يتمّ 99 سنة من عمره، ويصدر الكتاب الـ19 من مؤلفاته في السياسة الدولية وفنون الدبلوماسية والتبشير بالحروب وفرض سياسة الأمر الواقع وسنوات الاضطراب والغليان والهياج والأزمات… صحيح أنّ فصول «القيادة» تتناول الألماني كونراد أديناور (ستراتيجية التواضع) والفرنسي شارل دوغول (ستراتيجية الإرادة) والأمريكي ريشارد نكسون (ستراتيجية التوازن) والمصري أنور السادات (ستراتيجية التعالي) والسنغافوري لي كوان يو (ستراتيجية التميّز) والبريطانية مارغريت تاتشر (ستراتيجية اليقين). ولكن هل يصحّ، عقلياً أوّلاً ثمّ نقدياً ثانياً وأخلاقياً ثالثاً، أن يتابع القارئ ما يتنطح له كيسنجر عن هؤلاء الستة، من دون التسلّح بمرشِّحات صارمة عالية التمييز والتدقيق، تُدرج آثام المؤلف إياه بحقّ الشعوب ذاتها التي يتناول ساستها بالتحليل؟
«في قلب المؤسسات الإنسانية، الدول والأديان والجيوش والشركات والمدارس، القيادة تقتضيها الحاجة لمساعدة الناس للوصول من حيث هم إلى حيث لم يكونوا قطّ سابقاً أو حيث لم يتخيلوا الوصول إلا نادراً أحياناً» هكذا يكتب كيسنجر في التوطئة لمفهومه عن القيادة؛ وغير بعيد يتوجب أن يبقى القارئ في استذكار ما بلغه صاحب هذه التمثيلات المجازية عندما قاد السياسة الخارجية الأمريكية في مشارق الأرض ومغاربها، وفي استعادة أكثر من «وصفة» قاتلة وآثمة وإجرامية لمعالجة الأزمات والمشكلات والصراعات. هنا ما لا يتوجب أن يُنسى من بنود لائحة كيسنجر:
ـ نصح دولة الاحتلال الإسرائيلي بسحق الانتفاضة الأولى، «على نحو وحشيّ وشامل وخاطف»؛ وهذه كلمات كيسنجر الحرفية كما سرّبها عامداً جوليوس بيرمان، الرئيس الأسبق للمنظمات اليهودية الأمريكية.
ـ الموقف «التشريحي» المأثور من الاحتلال العراقي للكويت، في دعوة بوش الأب إلى تنفيذ ضربات «جراحية» تصيب العمق الحضاري والاجتماعي والاقتصادي للعراق (البلد والشعب، قبل النظام وآلته العسكرية والسياسية).
ثمة حاجة إلى منظور نقدي مبدئي يصلح عوناً لقارئ من طراز آخر، يعنيه الوقوف على زبدة ما يرى كيسنجر وما ينظّر ويستشرف وهو يتمّ 99 سنة من عمره، ويصدر الكتاب الـ19 من مؤلفاته في السياسة الدولية وفنون الدبلوماسية والتبشير بالحروب
ـ الدعوة علانية إلى «نزع أسنان العراق من دون تدمير قدرته على مقاومة أي غزو خارجي قد يراود جيرانه المتلهفين على ذلك» في مقالة مدوّية بعنوان «جدول أعمال ما بعد الحرب» نشرها مطلع 1991.
ـ توبيخ فريق رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق رابين، لأنّ ما تعاقدوا عليه مع الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في أوسلو ثمّ في البيت الأبيض، ليس سوى «إوالية» Mechanism متحرّكة ستفضي عاجلاً أم آجلاً إلى دولة فلسطينية (وهي التي يرفضها كيفما جاءت، وأينما قامت، ويستوي لديه أن تتخلق من محض «إوالية» أو تنقلب الى أقلّ من بلدية).
ـ السخرية من بعض «الفتية الهواة» في البيت الأبيض، ممّن يخلطون «البزنس» بالأخلاق، والتجارة بحقوق الإنسان (في مثال الصين)؛ ولا يميّزون في حروب التبادل التجارية بين العصبوية الأورو ـ أمريكية وشرعة التقاسم الكوني لسوق شاسعة بقدر ماهي ضيقة (مواثيق الـ «غات» وأخواتها)…
وفي مقالة مسهبة بعنوان «دروس من أجل ستراتيجية مخرج» تعود إلى صيف 2005، باح كيسنجر بكثير ممّا كان مسكوتاً عنه، وإن ظلّ مفضوحاً عملياً منذ البدء، حول النظائر القائمة أو المحتملة بين التورّط العسكري الأمريكي في فييتنام، والاحتلال الأمريكي للعراق، من جهة أولى؛ ومآلات الهزيمة العسكرية هناك، وعواقب استعصاء المخرج الأمريكي هنا، من جهة ثانية؛ فضلاً، من جهة ثالثة، عن ذلك الدرس العتيق الكلاسيكي الصائب أبد الدهر: أنّ كسب أية حرب لا يعني كسب سلامها، أو إنجاز أيّ سلام ربما!
ولقد احتوت المقالة على تلك الفقرة الصاعقة: «مؤكد أنّ التاريخ لا يكرّر نفسه بدقّة. فييتنام كانت معركة تخصّ الحرب الباردة؛ وأمّا العراق فهو أحدوثة Episode في الصراع ضدّ الإسلام الجذري. لقد فُهم أنّ تحدّي الحرب الباردة هو البقاء السياسي للأمم ـ الدول المستقلة المتحالفة مع الولايات المتحدة والمحيطة بالاتحاد السوفييتي. لكنّ الحرب في العراق لا تدور حول الشأن الجيو ـ سياسي بقدر ما تدور حول صدام الإيديولوجيات والثقافات والعقائد الدينية. ولأنّ التحدّي الإسلامي بعيد النطاق، فإنّ الحصيلة في العراق سيكون لها من المغزى العميق أكثر ممّا كان لفييتنام». وما كان صاعقاً في هذه الخلاصة لم يقتصر على اختزال الغزو العسكري الأمريكي (ثمّ البريطاني، للتذكير المفيد) إلى تنميط سطحي وضحل حول الإسلام الجذري، فحسب؛ بل على عجز أستاذ التاريخ عن استيعاب دروس التاريخ، التي لن يطول الوقت حتى تتكشف وتترسخ، ويطول عمر كيسنجر ليبصرها بأمّ العين، حتى وهو يضع السطور الأخيرة في مخطوط كتابه الـ19.
ليس أقلّ إدهاشاً، بالطبع، أنه يختتم الفصل الخاصّ بالسادات على نحو مجازي ركيك يمزج بين رغبة الفرعون المصري أخناتون بترسيخ ديانة توحيدية على نقيض الآلهة المصرية، وبين شراكة السادات مع غولدا مائير وإسحق رابين ومناحيم بيغن؛ وكيف أنّ خطوات التطبيع الراهنة بين دولة الاحتلال وكلّ من الإمارات والبحرين والمغرب والسودان يعود الفضل فيها إلى مبادرة السادات، التي تظلّ مع ذلك «إرثاً ناقصاً» وغير مكتمل حسب تعبير كيسنجر نفسه. أكثر نقصاناً، وأشدّ فضحاً لمنهجيات الكتاب عموماً، أنّ الشعوب تظلّ الغائب الأكبر، المغيّب عن سابق قصد وتصميم، على امتداد 528 صفحة من مجلد يزعم
قراءة إشكالية القيادة عبر محورَين: الأوّل، بين الماضي والمستقبل؛ والثاني، بين القيم الثابتة ومطامح أولئك الذين يقودون. ذلك بعض السبب في أننا لا نقف على رأي كيسنجري، إذا جازت النسبة هكذا، حول مآلات القيادة في أمريكا نكسون، حيث فضيحة «ووترغيت» تنقل القائد إلى مصافّ المتلصص المتنصت؛ أو في بريطانيا ثاتشر، حيث القبضة القيادية لم تطرق بقوّة أكثر مما فعلت ضدّ النقابات والقطاع العام؛ وأمّا في مصر، فللمرء أن يحدّث ويفصّل ولا حرج.
وأياً كان الرأي في الستراتيجيات الستّ كما يشخصها كيسنجر، فإنّ استخدام المرشِّحات الصارمة لقراءة الكتاب تبقى ستراتيجية مسبقة لا غنى عنها، أولى أو سابعة… سيّان!
القدس العربي