على رغم أن التعايش القائم على تفاهم ضمني يحكم العلاقة بين الجيشين الأميركي والروسي في سوريا، فإن تلك العلاقة النادرة مهددة بسبب المواجهة غير المباشرة بين الجانبين في أوكرانيا، ففي عام 2014 تدخلت واشنطن في سوريا للقضاء على تنظيم “داعش” بعد سيطرته على مناطق واسعة من الرقة ودير الزور، في حين جاء الجيش الروسي إلى سوريا بعدها بسنة بطلب إيراني لمنع النظام السوري من الانهيار.
وكانت الصورة الجماعية لعناصر من الجيشين، السبت الماضي، في قرية القحطانية بريف القامشلي في محافظة الحكسة شمال شرقي سوريا مؤشراً على ذلك التعايش الذي تعكره بعض الحوادث التي تصاعدت خلال الفترة الأخيرة.
هجوم متبادل في مناطق النفوذ
ففي السادس من أكتوبر (تشرين الأول) الحالي نفذت مروحيات أميركية عملية إنزال ضد تنظيم “داعش” في منطقة تحت سيطرة الجيش الروسيبقرية ملوك في ريف القامشلي بمحافظة الحسكة.
وتُعد تلك المنطقة من القرى القليلة الواقعة تحت سيطرة موسكو في محافظة الحسكة التي تخضع للنفوذ الأميركي وتسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية المدعومة” أميركياً.
ويعد ذلك الهجوم الأول الذي تنفذه قوات أميركية في قرية خاضعة للنفوذ الروسي وسيطرة النظام السوري بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان.
وفي يوينو حزيران (الماضي) هاجمت طائرات حربية روسية مواقع لقوات “مغاوير جيش الثورة” المعارضة للنظام السوري، المدعومة أميركياً قرب قاعدة التنف العسكرية عند مثلث الحدود السورية الأردنية العراقية.
وقبل نصف ساعة من الهجوم أبلغ الجيش الروسي نظيره الأميركي عبر الخط الساخن بينهما بالهجوم على المغاوير بسبب “هجومها على الجيش السوري، وتشكيلها خطراً على أنشطة الجيش الروسي في سوريا”.
وقال الجيش الأميركي إن التحذير الروسي عبر الخط الساخن “ساعد في منع الاحتكاك مع القوات الأميركية، مشيراً إلى أن الهجوم الروسي “عطل روتين نشاط القوات”.
وليلة الهجوم الروسي على التنف اقتربت طائرات أميركية وروسية من بعضها في شمال شرقي سوريا عقب مداهمة قوات أميركية منزلاً واعتقال أحد قادة تنظيم “داعش”، حيث وصلت بعد ذلك طائرات حربية روسية إلى الموقع لمعرفة ما حدث قبل أن تصل طائرات الأولى وتنسحب الأخيرة.
وبحسب الجيش الأميركي فإن الحادثتين ليستا الوحيدتين خلال الآونة الأخيرة، في ظل مخاوف أميركية من تصاعد التوترات بين البلدين.
استفزاز وتصعيد
ووصف قائد القيادة الوسطى للجيش الأميركي (سنتكوم) الجنرال إريك كوريلا التحركات الروسية الأخيرة “بالاستفزازية والتصعيدية”، مضيفاً أن بلاده “تريد تجنب سوء التقدير، أو أي عمل قد يؤدي إلى مواجهة غير ضرورية”.
وفي فبرابر ي(شباط) عام 2018 قتل العشرات من القوات الروسية غير الرسمية وسوريين موالين للنظام في قصف جوي أميركي خلال محاولتهم السيطرة على حقل (كونيكو) للغاز الطبيعي بعد عبورهم الضفة الشرقية لنهر الفرات في دير الزور.
وبينما ينتشر الجيش الأميركي بعدد لا يتجاوز الألف جندي في شرق وشمال شرقي سوريا، فإن الجيش الروسي يحتفظ بالآلاف من قواته في قواعد غرب البلاد تصل إلى اللاذقية على البحر المتوسط.
روسيا تسحب قواتها إلى أوكرانيا
ودفعت الحرب الروسية في أوكرانيا موسكو إلى سحب بعض قواتها من سوريا، وترك فراغ سارعت طهران إلى ملئه، وزيادة عدد الهجمات التي تشنها ميليشيا قريبة منها ضد القوات الأميركية.
وتقدم القوات الأميركية الدعم اللوجيسيتي والاستخباراتي للميليشيات المتحالفة خصوصاً قوات سوريا الديمقراطية الكردية.
وترى الباحثة في الشأن السوري بـ”مجموعة الأزمات الدولية” دارين خليفة أن الوجود العسكري الأميركي في سوريا “يسهم في المحافظة على الاستقرار ويحافظ على توازن قوي يحمي ملايين السوريين شمال شرقي البلاد”. وأوضحت أن ذلك الوجود “يمنع القوات التركية من التقدم هناك لمحاربة القوات الكردية، كما أنه يمنع تقدم القوات الروسية والإيرانية والنظام السوري”.
وتقع معظم القواعد العسكرية الأميركية قرب الحدود السورية مع كل من تركيا والعراق، بينها قاعدة تل بيدر والشدادي والمالكية ورميلان في الحسكة وقاعدة خراب عشق جنوب مدينة عين عرب الحدودية مع تركيا، إضافة إلى قاعدة التنف، وتوجد معظم تلك القواعد شرق نهر الفرات عدا قاعدة التنف الواقعة في صحراء حمص على مثلث الحدود السورية الأردنية العراقية.
ويحيط بالقاعدة منطقة عازلة نصف قطرها يبلغ 55 كم، وأقيمت عام 2016 ضمن تفاهم أميركي روسي، ويمر عبرها طريق الإمداد الرئيس الواصل بين إيران وسوريا ولبنان عبر العراق.
وتتمتع معظم أراضي محافظات الحسكة ودير الزور والرقة بموارد الطاقة كالنفط والغاز الطبيعي، وبأراض خصبة ووفرة المياه، وتخضع لسيطرة (قوات سوريا الديمقراطية) المدعومة من الولايات المتحدة.
في حين يوجد الجيش الروسي الذي يعود حضوره في سوريا إلى عام 2015 في 75 موقعاً بينها 23 قاعدة عسكرية و42 نقطة وجود، و10 نقاط مراقبة.
وتنتشر نقاط المراقبة في محافظتي إدلب وحماة، فيما توجد القواعد العسكرية في محافظات دير الزور والحسكة والرقة وحلب واللاذقية وطرطوس وحماة وحمص ودمشق.
وتعد القوة العسكرية الروسية الأكبر في سوريا، بحيث تسيطر على معظم الأجواء في معظم المناطق التي لا تشهد وجودا أميركياً، وتحظى بنفوذ على القوات المحلية والأجنبية العاملة في المناطق المصنفة تحت سيطرة النظام السوري.
صراع بسط النفوذ
ويرى رئيس مركز “الشرق الأوسط والخليج للتحليل العسكري” رياض قهوجي، أن الوجودين العسكريين الأميركي والروسي في سوريا يحكمه تفاهم بين الجانبين منذ البداية لمنع التصادم”.
وقال قهوجي إن أميركا وروسيا “ليستا عدوتين، لكنهما تتنافسان على بسط النفوذ”، مشيراً إلى أن الجيش الروسي وسع نفوذها خلال السنتين الماضيتين ليصبح على نقاط تماس مع الجيش الأميركي بخاصة في محافظة الحسكة”. ورجح استمرار الجهود بين الجانبين لتجنب أي تصادم عسكري محتمل في ظل توتر العلاقة بين البلدين في أوكرانيا.
وحول أهداف واشنطن من وجودها العسكري في سوريا، أشار قهوجي إلى أنها تأتي “تحت عنوان محاربة تنظيم داعش، لكنها تتوسع لتشمل وضع حد لتوسع النفوذ الإيراني، إضافة إلى حماية حقول النفط والغاز الطبيعي في شمال شرقي البلاد”.
أما بالنسبة إلى روسيا، فأوضح أن وجودها العسكري يستهدف “حماية النظام السوري من السقوط، وتأمين حضور دائم على البحر المتوسط، وعلى الحدود مع الجنوبية لحلف ناتو”.
كما اتفق المحلل الاستراتيجي خطار أبو دياب مع قهوجي بشأن وجود حالة تعايش بين الجيشين الروسي والأميركي “قائمة على تفاهم ضمني بين موسكو وواشنطن بدأ مع الدعم العسكري الروسي للنظام السوري، وإنشاء قواعد عسكرية تحت أعين واشنطن”.
وقال أبو دياب إن سوريا أصبحت “مناطق نفوذ لقوى أجنبية عدة، فالولايات المتحدة تسيطر على المناطق الغنية بالنفط شمال شرقي البلاد، فيما تحتفظ تركيا بالنفوذ في شمال البلاد عبر الفصائل المتطرفة، في حين تتشارك روسيا مع النظام السوري في السيطرة على بقية المناطق.
ووصف أبو دياب التقاط قوات من الجيشين الروسي والأميركي صوراً جماعية في شمال شرقي سوريا “بالإهانة للشعب السوري”.
ومع أن أبو دياب أشار إلى أن الوجود العسكري الأميركي في سوريا محدود العدد، لكن واشنطن تستهدف استثماره حين تأتي لحظة الحسم، واستبعد إمكانية تأثير الحرب في أوكرانيا في التعايش الروسي الأميركي في سوريا في ظل عدم وجود تحولات جذرية في سوريا”. لكنه شدد على أن “واشنطن تبقى القوة العظمى الوحيدة في العالم، وبيدها معظم أوراق اللعب، في ظل عدم استعجال بكين لتشكيل قطبية ثنائية”.
وأضاف أبو دياب أن بكين لم تدعم موسكو إلا سياسياً في سوريا، وتمتنع عن دعمها اقتصادياً أو عسكرياً”، واختتم حديثه بالقول إن “نصف خسارة لروسيا في أوكرانيا ستنعكس على موقع سوريا الدولي، وعلى مستقبل وجودها في سوريا”.
اندبندت عربي