تحولت قضية رجم شابة إلى قضية رأي عام في السودان، وبالإضافة إلى أنها أثارت موجة من الاستياء داخل السودان وخارجه، فهي تجدد المطالبة بتعديلات قانونية للتشريعات المنتهكة لحقوق المرأة وتفتح معركة جديدة لمواجهة التمييز ضد النساء.
القاهرة – طفت قضية الفتاة العشرينية “أمل” في السودان على السطح مرة أخرى، بعد أن تداول نشطاء قبل أيام أنباء عن رفض محكمة الاستئناف طلبًا بإلغاء حكم الرجم حتى الموت الصادر بحقها إثر اتهامها بممارسة “الزنا”، ورغم أن الأنباء المتداولة بشأن التنفيذ جرى نفيها، إلا أن المجتمع السوداني استفاق على صدمة إمكانية تنفيذ الحكم بعد أن حصلت المرأة على مكتسبات تشريعية مهمة عقب الإطاحة بنظام الرئيس السابق عمر البشير الذي ضيّق الخناق عليها.
يعد السودان من بين سبع دول فقط في العالم تستخدم الإعدام رجماً، وأغلبية قضايا الزنا وأحكام الرجم فيها فُرضت على سيدات، ويشكل قانونه الجنائي وقانون الأحوال الشخصية أبرز القوانين التي تقيد حريات المرأة، ومازال الطريق طويلاً لتعديلها بعد الردة التي حدثت مع الانقلاب على السلطة المدنية في أكتوبر من العام الماضي.
ويتفق السودان مع دول عربية تفرق بين الرجل والمرأة في العقوبات الخاصة بجرائم الزنا، وإن كان التمييز صارخاً في الدولة التي ظلت لأكثر من ثلاثين عاماً تحت حكم جماعة الإخوان، إذ تُعاقب المرأة المتزوجة على فعل الزنا إذا ارتكبته مع أي شخص سواء أكان متزوجاً أم لا، بينما يعاقب الرجل المتزوج إذا ارتكب الزنا مع امرأة متزوجة فقط، وفق المادتين 432 و433 من قانون العقوبات.
وهذا ما يتناقض أساسا مع الشريعة الإسلامية التي لا تفرق في عقوبة الزنا بين الرجل والمرأة.
وتصل عقوبة الزنا إلى الرجم حتى الموت بموجب المادة 146 من القانون الجنائي السوداني التي تنص على الإعدام رجماً لمن يرتكب الزنا إذا كان محصناً (متزوجاً)، في حين تكون عقوبة غير المحصن الجلد مئة جلدة.
وتكتفي غالبية الدول العربية بعقوبة السجن فترة زمنية تتراوح ما بين ستة أشهر وخمسة أعوام، ويبرز التمييز في فترة العقوبة بين الرجل والمرأة ومكان وقوع الجريمة، ففي مصر تعاقب المرأة المتزوجة على فعل الزنا أياً كان مكان وقوعه (في منزل الزوجية أو خارجه)، لكن القانون لم يعترف بذلك للزوج، “فإذا زنا في غير منزل الزوجية، فلا تتحقق بالنسبة إليه جريمة الزنا إلا إذا كان قد زنا بامرأة متزوجة، أما إذا ارتكب الزنا خارج منزل الزوجية مع امرأة غير متزوجة فلا تقوم في حق أي منهما جريمة الزنا”.
ردة مجتمعية للمرأة
لا يتمثل التمييز في قضية “أمل”، وهو اسم مستعار أطلقه ناشطون على الفتاة، في نصوص القانون الجنائي فقط، غير أن الواقعة الأخيرة كانت شاهدة على عدد من الممارسات التي برهنت على أن المرأة السودانية قد تكون أمام ردة مع عودة عناصر من نظام البشير إلى مواقعها في مؤسسات حكومية وقضائية على مدار العام الماضي.
وتضمنت العريضة التي تقدمت بها “الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان” قبل أيام للمطالبة بوقف إعدام أمل العديد من المخالفات شابت تلك القضية، على رأسها أن محاكمة الفتاة بدأت دون شكوى رسمية من الشرطة في منطقة “كوستي” بولاية النيل الأزرق في الجنوب.
وأكدت العريضة أن الفتاة حُرمت من التمثيل القانوني في إحدى مراحل المحاكمة، على الرغم من ضمانات التمثيل المنصوص عليها في المادة 135 من قانون الإجراءات الجنائية السودانية، ولفتت إلى أنه منذ أن أصدرت محكمة الجنايات قرارها تقاعست السلطات عن إحالة الملف إلى المحكمة العليا للبت فيه.
واعتبرت أن معظم أحكام قضايا الزنا تصدر في السودان ضد المرأة، ما يبرز التطبيق التمييزي للتشريعات في انتهاك صارخ للقانون الدولي الذي يضمن المساواة أمام القانون وعدم التمييز على أساس الجنس.
ومنذ أن صدر الحكم الأولي ضد “أمل” في يونيو الماضي حدثت ضجة كبيرة في السودان، ونشطت منظمات عديدة لإلغائه، لأنه “ينتهك الحق في الحياة وفي محاكمة عادلة”، كما تقدم عدد من المحامين بطلب لاستئناف الحكم، لكن لم يتم البت فيه إلى الآن ما أدى إلى شكوك حول تأخر الحسم، وسط توقعات بأن يتم وقف تنفيذه أسوة بأحكام أخرى صدرت ولم تجد طريقها إلى التنفيذ.
وأطلقت تيارات سياسية ومنظمات نسوية في الخرطوم، الشهر الماضي، حملة لمناهضة عقوبة “الرجم”، ونفذت وقفة احتجاجية أمام مقر المفوضية السامية لحقوق الإنسان في الخرطوم، مطالبة بإلغائها، باعتبارها نوعاً من التعذيب والعنف ضد المرأة.
وقالت رئيسة مبادرة “لا لقهر النساء” أميرة عثمان، في إفادات صحفية من أمام مقر المفوضية، إن “الوقفة الاحتجاجية رفض لعقوبة الرجم باعتبارها غير إنسانية ومنتهكة للحياة، كما أنها تتعارض مع المواثيق الدولية والوطنية”. وطالبت بـ”إلغاء العقوبة من الأساس، والإفراج عن الفتاة التي صدر بحقها حكم الرجم، وإلغاء كل القوانين المقيدة للحريات، والقوانين التي تهين النساء”.
وقالت المحامية انتصار عبدالله، التي تتولى الدفاع عن “أمل”، إن القضية تأخذ مساراتها في التقاضي وأن الدفاع عن المتهمة في انتظار قرار الاستئناف على الحكم الأول، وأن الموعد لا يكون معروفاً بالنسبة إلى المحامين، لكن المهم أننا تأكدنا من أن المحكمة لم تصدر قرارها برفض طلب إلغاء الحكم.
وأضافت في تصريح لـ”العرب” أن “حالة “أمل” شاذة وليس هناك انتشار لقضايا الزنا في السودان خلال العشر سنوات الماضية، وما أصدره القاضي الأول جاء لتنفيذ القانون من وجهة نظره، ولا يمكن القول إن هناك تربصا لدى الجهات القضائية تجاه القضايا الخاصة بالمرأة، ما يجعلنا أمام معركة لتعديل الكثير من القوانين التمييزية أو التي تحد من الحقوق الشخصية للمرأة”.
مطالب المرأة السودانية تتركز على ضرورة تعديل قانون الأحوال الشخصية الذي جاء ضمن مشروع خاص يقوم على وضع النساء تحت وصاية الذكور
وأدانت المحاكم السودانية سيدات بتهمة الزنا خلال السنوات الماضية، وحكمت عليهن بالإعدام رجماً، لكن الأحكام شُطبت في مراحل الاستئناف، وآخر قضية معروفة بحق امرأة حُكم عليها بالرجم بسبب الزنا كانت في ولاية جنوب كردفان عام 2013، قبل أن يتم إلغاء الحكم.
وتبقى المرأة السودانية بشكل مستمر أمام هواجس انتهاكات حرياتها الشخصية، ولم تنجح أي وقفة من الوقفات الاحتجاجية التي نظمتها مبادرات تدافع عن حقوق المرأة، كذلك المطالبات التي تصدر بين حين وآخر عن منظمات دولية في دفع السلطة الانتقالية نحو التطرق إلى قانون العقوبات الجنائية أو الاستجابة لمطالب إلغاء عقوبة الجلد على وجه التحديد.
وتركزت مطالب المرأة السودانية على ضرورة إدخال تعديلات على قانون الأحوال الشخصية الذي وضع في عهد البشير عام 1991، وجاء ضمن مشروع خاص يقوم على وضع النساء تحت وصاية الذكور والتحكم في الجسد الأنثوي، بالتقييد، والستر، والحراسة.
وجاء بعدها إقرار قوانين “النظام العام” المطبقة منذ العام 1996، وقيدت الحريات العامة والفردية للمرأة وتنص على عقوبات مشددة مثل الجلد والسجن لفترات تصل إلى خمس سنوات وغرامات مالية كبيرة بحق نساء أدنّ بارتداء ملابس غير محتشمة، وحقق المجتمع السوداني انتصاراً مهماً بعد أن نجح في إلغائها قبل عامين.
ذكرت الصحافية والناشطة السودانية شمائل النور إن الوضع التشريعي الحالي بالنسبة إلى قضايا المرأة أفضل بقليل مما كان عليه في فترة البشير، والعديد من القوانين جرى تعديلها وإلغاء بعضها، لكن الأزمة تكمن في أن الانتهاكات والمضايقات اليومية التي تتعرض لها المرأة حتى الآن، وعلى النقيض فإن حوادث القتل تحت مبرر رد الشرف في الولايات المختلفة تأخذ في التصاعد، كما أن استمرار عقوبات الرجم واستخدامها في مواقع محددة يضع السيف دائما على رقاب الفتيات.
وحذر ناشطون سودانيون من ارتفاع الجرائم بذريعة الشرف في البلاد، وتشمل عادة رجالا يقتلون قريبات لهم بسبب ارتكابهن أو ظنهم أنهن ارتكبن أفعالا يعتبرونها غير أخلاقية، وتمثل الحالات المبلغ عنها قمة جبل الجليد، على حد قول إحدى الناشطات.
ونقلت صحيفة “الغارديان” البريطانية عن ناشطين، إن 11 امرأة وفتاة قتلن على أيدي أقاربهن هذا العام، أي أكثر من ضعف العدد المبلغ عنه في عام 2021.
وضجت مواقع التواصل الاجتماعي في السودان بحادثة مقتل الطفلة سماح الهادي التي قال مدونون إن والدها قتلها بالرصاص عقب تغيبها عن مدرستها لنحو أسبوع بغية الضغط على والدها لإقناعه بنقلها إلى المدرسة التي انتقلت إليها صديقاتها، فيما أكد جد الطفلة أنها لقيت مصرعها بسبب عيار ناري أطلق عن طريق الخطأ في أثناء تنظيف السلاح.
وأوضحت شمائل النور في تصريح لـ”العرب” أن الوضعية السياسية الراهنة للبلاد التي يتزايد فيها نفوذ فلول النظام السابق تجعل هناك ردة على مستوى المكتسبات التي حققتها المرأة، وأن القوانين التي جرى إلغاؤها مثل “النظام العام” يتم استبدالها بلوائح محلية في الهيئات والمؤسسات الحكومية والتعليمية، تظهر بوضوح في بعض الجامعات التي تحظر لبس “البنطال” للفتيات.
المرأة السودانية تبقى بشكل مستمر أمام هواجس انتهاكات حرياتها الشخصية، ولم تنجح أي وقفة من الوقفات الاحتجاجية في دفع السلطة الانتقالية نحو التطرق إلى قانون العقوبات الجنائية
وشددت على أن الخطورة تتمثل في عودة الكثير من الخطابات التي استخدمتها عناصر تنظيم الإخوان في السابق والترويج لأفكارها في الكثير من المؤسسات، وأن الانقلاب العسكري على السلطة المدنية في أكتوبر 2021 منحها بعض القوة للظهور مجدداً بشكل علني مع عودتها إلى مناصبها، وهو ما ستكون له انعكاسات مجتمعية واضحة على نحو أكبر في الفترة المقبلة. وأجهضت ضغوط نشطاء المجتمع المدني ومناشدات دولية في عام 2016 إبان حكم الرئيس المعزول عمر البشير عقوبة الرجم ضد فتاة.
وصادقت الحكومة الانتقالية المقالة في 2021 على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) وتحفظت على بعض البنود، إلا أن قرارات قائد الجيش الفريق أول عبدالفتاح البرهان في أكتوبر من العام الماضي قطعت الطريق أمام إجازتها رسمياً في المجلس التشريعي المؤقت ومجلسي السيادة والوزراء.
وتطالب المجموعات النسوية بتعديلات على قانون الأحوال الشخصية، ومن بينها المواد التي تسمح بتزويج الإناث من سن 10 سنوات.
وأشارت الصحافية شيرين أبوبكر إلى أن غياب الاستقرار السياسي يجعل هناك صعوبة لإدخال تعديلات على قوانين الأحوال الشخصية والقوانين الجنائية التي تحد من حرية المرأة السودانية، وأن حصول المرأة على حقوقها يرتبط بإنهاء الظروف الاستثنائية الراهنة وتوفير حالة الاستقرار الأمني وتشكيل مجلس تشريعي يمكن أن يعيد النظر في القوانين ويقر أخرى لتحقيق المطالب المجتمعية.
وأكدت في تصريح لـ”العرب” أنه نتيجة الظروف الراهنة يعد تنفيذ عقوبة الإعدام رجمًا بحق “أمل” أو غيرها أمرا صعبا، لأن هناك درجات للتقاضي تبدأ بالحكم الأولي ثم النظر في القضية أمام محكمة الاستئناف، ثم المحكمة العليا، وصولاً إلى المحكمة الدستورية التي لم يتم تشكيلها حتى الآن.
وأدان المركز الأفريقي لدراسات العدالة والسلام استخدام عقوبة الإعدام في جميع الحالات وقال في بيان، إن “تلك القضية تؤكد الحاجة الملحة إلى إصدار السلطات السودانية تعليقاً فورياً لجميع عمليات الإعدام تمهيداً لإلغاء تلك العقوبة ومراجعة جميع التشريعات التي تهدف أو تؤدي إلى التمييز ضد المرأة”.
العرب