فاز الفريق التونسي على فريق فرنسا وفاز قبله الفريق المغربي على فريق بلجيكا في مونديال قطر.
حدثان شكّلا واحدة من أهم المفاجآت الصادمة مثلها في مثل المفاجأة التي انطوى عليها فوز المنتخب السعودي على الفريق الأرجنتيني.
من حق المغاربة المقيمين في بلجيكا أن يحتفلوا بفوز فريقهم، ومن حق التونسيين المقيمين في فرنسا أن يحتفلوا بدورهم بفوز فريقهم.
ولكنّ الاحتفالين يقامان على أراضي الفريقين المهزومين وفي ذلك نوع شديد الضغط من الحرج. وإذا ما عرفنا أن المغاربة المحتفلين يحملون الجنسية البلجيكية والتونسيين المحتفلين يحملون الجنسية الفرنسية فإن الحرج يصل إلى ذروته.
جمهور كرة القدم يخلط المزاج الكروي بالمشاعر الوطنية. غالبا ما تُغني أعلام الدول عن اللغة. فالعلم هو في حد ذاته إشارة لغوية تنطوي على الكثير من الدلالات المعنوية.
◘ ما من أحد في أوروبا يحق له أن يمنعك من التعبير عن فرحك بفوز الفريق الرياضي الذي تناصره، ولكن فرحك سيكون ملغوما إذا انطوى على نوع من الشماتة بالبلد الذي يؤويك
وحين تمتلئ شوارع المدن البلجيكية بالأعلام المغربية وشوارع المدن الفرنسية بالأعلام التونسية فإن ذلك يشكل استفزازا صريحا لا لمشجعي الفريقين المهزومين وحسب، بل وأيضا لسلطات الأمن في البلدين.
غير أن المثير في الموضوع أن مشجعي الفريقين الفائزين هم من مزدوجي الجنسية والوجود الواقعي. مغاربة في بلجيكا وتونسيون في فرنسا. في الوقت نفسه هم بلجيكيون في المغرب وفرنسيون في تونس.
لعبة هي أكثر إثارة من لعبة كرة القدم لما تتضمنه من احتيال على الذات ومخاتلة مع الواقع غير أن خسائرها غير مرئية.
تلك الخسائر في حقيقتها غير مرئية بالنسبة إلى البسطاء الذين يغلّبون خرافة “موطني موطني” على الواقع الحي الذي هو واقع العيش المباشر.
لقد شعر البلجيكيون والفرنسيون بشيء من إنكار الحقيقة حين رأوا الشماتة في عيون المحتفلين بهزيمة فريقيهما. ربما بالغوا في تلك النقطة. فالعنصرية لا تحتاج إلى مَن يوقظها وبالأخص إذا ما تعلق الأمر بأبناء المستعمرات السابقة الذين يقيمون في الضواحي التي تدير ظهرها للمدن.
لم يكن منصفا أن يُنظر إلى تلك الاحتفالات باعتبارها أحداث شغب وفي المقابل كان على المحتفلين أن يتذكروا أن الفوز الرياضي ليس مناسبة لإعلان موقفهم الغاضب من البوليس مثلا.
في كل الأحوال هناك مفارقة وقعت لأنها كانت في انتظار الحدث الذي يكشف عنها. فمغربيو بلجيكا هم بلجيكيون وهم أيضا ليسوا كذلك وتونسيو فرنسا هم فرنسيون وأيضا هم ليسوا كذلك.
وتتسع المفارقة لتظهر بشكل هزلي حين يصطدم مغربيو بلجيكا بهويتهم الأصلية التي فارقوها ليكتشفوا أنهم غير قادرين على أن يكونوا مغربيين في الوقت الذي تقع فيه حياتهم الحقيقية في بلجيكا. يصح ذلك على تونسيي فرنسا الذين يزورون بلادهم الأصلية بين حين وآخر باعتبارهم سياحا.
وإذا ما أدركنا أن المادة البشرية هنا تتعلق بالجيل الثاني أو الثالث من المهاجرين يمكننا أن ندرك عمق المشكلة. فالهوية التي تُكتسب أوراقها مع الزمن لن يتمكن الزمن من فرض ثقافتها. والانتماء إلى الأرض هو شيء يقع خارج الموقف السياسي.
◘ جمهور الكرة يخلط المزاج الكروي بالمشاعر الوطنية. غالبا ما تُغني أعلام الدول عن اللغة. فالعلم هو إشارة لغوية تنطوي على الكثير من الدلالات.
مع تلك الاحتفالات العفوية انفتحت الأبواب من الجانبين على مشكلات الهجرة التي وضعتها الأحزاب اليمينية في أوروبا على قائمة مشاريعها لتصفية حساباتها مع الماضي وهي مهمة عسيرة لن يتمكن أحد من القيام بها إلا إذا تخلت أوروبا عن موقعها الرائد في احترام حقوق الإنسان. وذلك هو المستحيل بعينه.
غير أن ذلك المستحيل ينبغي ألاّ يكون بالنسبة إلى المهاجرين حبل الغسيل الذي يعلّقون عليه ثيابهم المتسخة. فشلت سياسات الاندماج التي اتبعتها الحكومات الأوروبية عبر الأربعين سنة الماضية. ذلك صحيح.
غير أن ذلك الفشل يقع جزء من مسؤوليته على المهاجرين الذين لم يسعوا إلا فيما ندر إلى اختراق المجتمعات الأوروبية وبالأخص في عالمي السياسة والاقتصاد وهما أكثر يسرا من عالمي الأدب والعلوم الإنسانية.
ما من أحد في أوروبا يحق له أن يمنعك من التعبير عن فرحك بفوز الفريق الرياضي الذي تناصره، ولكن فرحك سيكون ملغوما إذا انطوى على نوع من الشماتة بالبلد الذي يؤويك، وطنك البديل الذي منحك هويته وجعل منك كائنا حرا تتحرك بخفة وراحة واطمئنان حتى في بلدك الأصلي.
تلك هي الإشكالية التي حاول البعض أن يلبسوها ثيابا عنصرية مستفيدين من صعود اليمين المريض بقلق الهجرة إلى الحكم في عدد من الدول الأوروبية. في حقيقتها فإن تلك الإشكالية تسلط الضوء على الفخ الذي يمكن أن تمثله الهوية المزدوجة إذا لم يتم الفصل بين الخرافة والواقع.
العرب