بريطانيا العظمى الآن بريطانيا المتوسطة

بريطانيا العظمى الآن بريطانيا المتوسطة

يتعين على بريطانيا تبني نهج أكثر رصانة وجدارة بالثقة، إذا ما أرادت إعادة صياغة دورها كقوة متوسطة “بنفوذ أكبر” على الساحة العالمية، كما ينصح محللون إستراتيجيون من طراز جون كامبفنر المدير التنفيذي لمشروع “المملكة المتحدة في العالم” لدى تشاتام هاوس البريطاني بناء على مناقشات دارت في هذا الإطار.

لندن – تشكّل مهمة وضع تصور لدور بريطانيا في العالم بحلول العام 2030 أساسا للمناقشات التي يجريها خبراء يتحدرون من 18 دولة، متطرقين إلى مسائل الأمن والعلوم و”القوة الناعمة” وأمور أخرى. وكان من بين هؤلاء وزراء سابقون من أميركا اللاتينية، ومعارضون من هونغ كونغ، وأوروبيون من مشارب شتى، وخبير مصرفي هندي، بالإضافة إلى شباب من جامايكا والسعودية، وصناع سياسة ومعلقون من الولايات المتحدة وفرنسا.

الخلاصة التي توصلت إليها المجموعة يمكن إيجازها في جملة واحدة تقريبا، وهي؛ إذا نظرت بريطانيا إلى نفسها في المرآة، وقامت بتغيير وتحديث بعض سلوكياتها، مازال يمكنها القيام بدور مهم على الساحة العالمية.

وجرى تداول مصطلحات من نوع “قوة متوسطة”، في وصف بريطانيا، حيث عقدت مقارنات مع دول مثل أستراليا، وكندا، واليابان، وكوريا الجنوبية، والمكسيك، وجنوب أفريقيا، وبولندا، إضافة إلى تركيا التي اضطلعت بدور أوسع في الشرق الأوسط وفي الصراع الروسي – الأوكراني.

ويستدعي هذا المصطلح فكرة سرعة التحرك والمرونة، وهو أمر يعشقه الوزراء في فترة ما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ”بريكست“، غير أنه ربما لا يعكس دور البلاد خلال حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، كعضو دائم في مجلس الأمن، ولا يمثل الاعتراف بها كقوة نووية، أو بدورها الرئيسي ضمن مجموعتي السبع الصناعية والعشرين، أو في الكومنولث البريطاني أو حلف شمال الأطلسي ”الناتو“. حيث أعطت هذه الأوضاع بريطانيا نفوذا أكبر بكثير مما كان يمكنها دونها، وهو ما يسمى “قوة متوسطة بنفوذ إضافي”.

ولكن أي أجندة، أمنية وخارجية عالمية تتسم بالقوة، تتطلب اقتصادا يستطيع أن يحمل ثقل طموحاته. وفي ضوء ذلك، يمكن القول إن التعهد بزيادة الإنفاق العسكري إلى 3 في المئة من إجمالي الناتج المحلي يبدو متذبذبا.

ويشير كامبفنر إلى “المراجعة الكاملة” التي تعدّها الحكومة كل خمس سنوات، والتي تحدّد السياسة الخارجية والأمنية وإستراتيجية الدفاع. وقد تنبأت المراجعة الأخيرة في مارس العام الماضي بالخطر الذي تمثله روسيا، ورغم ذلك اتسمت بالتفاؤل وشددت على نقاط القوة التي تتمتع بها بريطانيا، مع التركيز على العلم.

وخلال فترة الانتقال من فترة رئيس الوزراء الأسبق بوريس جونسون، إلى الحالي ريشي سوناك، عبر ليز تراس، يبدو أن شعورا أكبر بالواقعية قد بدأ.

وصارت القضايا الرئيسية في بريطانيا تتمحور حول تداعيات حرب أوكرانيا، والتحدي الإستراتيجي المتنامي الذي تمثله الصين، والهجرة، والصحة العامة، ومخاوف تفشي وباء جديد، والتحديات المزودجة التي تشمل طوارئ المناخ والقدرة على الصمود في مجال الطاقة.

ويؤكد كامبفنر أن هذه المشكلات تتطلب تعاونا دوليا، ولكنها ظهرت في وقت يتسم بتصاعد المنافسة بين القوى الكبرى. وقال إنه في بيئة يزداد فيها الاستبداد، وتمثل الشعبوية خطرا دائم الوجود، وتواجه الديمقراطية ضغوطا ضخمة، من المهم للمملكة المتحدة أن تحقق أكبر نفوذ وأعظم تأثير.

خفض موازنة التنمية الدولية من 7.0 إلى 5.0 في المئة من إجمالي الدخل القومي، ألحق ضررا إضافيا بمصداقية البلاد

لقد نال دعم بريطانيا لأوكرانيا الإشادة، ويقول دبلوماسي من شمال أوروبا إن المملكة المتحدة “تنتمي لاتحاد خاص بها” عندما يتعلق الأمر بالأمن في الشمال، ولكن يجب تحديد الدور الذي يمكن أن تقوم به البلاد خارج أوروبا بشكل أكثر وضوحا، حيث تتجه أنظار الغرب حاليا صوب الشرق.

ويتعلق مظهر انتقاد آخر لبريطانيا بعدم اتساق سياستها تجاه الصين، فعلى مدار العقد الماضي، تحولت بريطانيا من الترحيب بالصين، وتشجيع الاستثمارات، إلى النظر لبكين كتهديد عسكري ودبلوماسي واقتصادي محتمل.

ويقول كامبفنر إن أحد الوعود الوهمية لبريكست كان قدرة بريطانيا على عقد اتفاقيات تجارية سهلة وسريعة، ولكن ذلك لم يحدث مع الاتحاد الأوروبي، أكبر شريك للمملكة، ولا مع الولايات المتحدة، ولا حتى مع 11 دولة عضو في “الاتفاقية الشاملة والمتقدمة للشراكة عبر المحيط الهادئ”.

إلا أن التجارة ليست بالأمر الجديد على السياسة الخارجية، وهذا شيء جوهري بالنسبة إلى بريطانيا حاليا، حيث تمثل الاتفاقيات التجارية وسيلة لتعزيز النفوذ مع دول لم تكن لها أولوية لدى بريطانيا قبل بريكست.

ويعتمد الجزء الأكبر من حلم بريطانيا العالمي في حقبة ما بعد بريكست على إحياء علاقات أعمق مع الكومنولث البريطاني. ولكن حتى هذا يبدو أصعب مما كان يتصور أساسا. فعندما أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا بالإجماع يدين غزو روسيا لأوكرانيا، كانت هناك ثلاث دول من دول الكومنولث من بين الدول التي امتنعت عن التصويت. وأوضح ذلك أن النفوذ البريطاني يعاني من قيود واضحة للغاية.

كما ألحق خفض بريطانيا لموازنة التنمية الدولية، من 7.0 في المئة إلى 5.0 في المئة من إجمالي الدخل القومي، ضررا إضافيا بمصداقية البلاد، ولذلك لم يكن من قبيل الدهشة أن الدعوة لشركاء الكومنولث إلى خوض الحرب ضد الاستبداد، ومن أجل الديمقراطية، لم تجد آذانا صاغية.

وأعطت نقاشات الخبراء أهمية متزايدة للقوى الرئيسية في الجنوب العالمي، حيث أشاروا إلى أن دور بريطانيا في الكومنولث يعطيها نفوذا خاصا في هذا الإطار، ولكن ربما تراجع ذلك عقب وفاة الملكة إليزابيث الثانية، ويرى البعض أن ما سيكون مهما خلال العقد المقبل، هو تعبير مختلف عن الرمزية.

وكان هناك اقتراح مثير للاهتمام يتعلق بتقديم اعتذار برلماني عن الاستعمار البريطاني، بالضبط كما فعل الأستراليون. ولكن كامبفنر تبنى وجهة نظر مفادها أن ذلك مخاطرة سياسية لا يستطيع أن يقدم عليها زعيم حزب العمال أو المحافظين، ولكن رد البعض كان: قد يدفعهم الاقتصاد والسياسة الخارجية إلى ذلك.

وفي ما يتعلق بمقدرات بريطانيا الأساسية، اتفقت مجموعة الخبراء على مجالين: الدفاع والأمن، و”القوة الناعمة”. ولا تزال نقاط القوة لدى بريطانيا في المقام الأول تتمثل في تفوقها في العلوم والتكنولوجيا وقطاع الجامعات، والثقافة. والمفارقة أن الحكومة البريطانية قد فشلت في تقدير ذلك، وأدت إجراءات أخيرة إلى تقويض هذه القوة.

فعالية أخرى لمشروع المملكة المتحدة في العالم، سأل خلالها وزير الخارجية البريطاني الأسبق ديفيد ميليباند عن أفكاره بشأن كيفية تطوير بريطانيا طريقة جديدة للانخراط على المستوى الدولي. وقال ميليباند إنه يجب على البلاد أن تطور سبيلا يتحاشى إيهام النفس والنزعة التراجعية، وهو ما “يلخص الأمر على نحو جيد”.

ويختتم كامبفنر التحليل بقوله إن بريطانيا لا تزال تستطيع القيام بدور عالمي مهم في عصر الاضطرابات، ولكي تحقق ذلك، هي بحاجة إلى أن تشعر بارتياح تجاه واقعها: دولة أوروبية في حقبة ما بعد الاستعمار، لها دور عالمي بعينه، وليس هناك ما يشين في ذلك.

العرب