يعتبر تلوث الماء من اول الموضوعات التي اهتم بها العلماء والمختصون في مجال البيئة، وذلك لسببين: اولهما أهمية الماء وضرورته، وكما قال رب العزة “وجعلنا من الماء كل شيء حي…” فهو يدخل في كل العمليات البيولوجية والصناعية، ولا يمكن لأي كائن حي –مهما كان شكله أو نوعه أو حجمه– أن يعيش بدونه، فالكائنات الحية تحتاج للماء للبقاء.
وثانيهما: أن الماء يشغل أكبر حيز في الغلاف الحيوي، إذ تبلغ مساحة المسطح المائي حوالي 70.8% من مساحة الكرة الأرضية، مما دفع بعض العلماء إلى أن يطلقوا اسم (الكرة المائية) على الأرض بدلا من الكرة الأرضية. كما أن الماء يكون حوالي( 60-70% من أجسام الأحياء الراقية بما فيها الإنسان، كما يكون حوالي 90% من أجسام الأحياء الدنيا) وبالتالي فإن تلوث الماء يؤدي إلى حدوث أضرار بالغة ذو أخطار جسيمة بالكائنات الحية، ويخل بالتوازن البيئي الذي لن يكون له معنى ولن تكون له قيمة إذا ما فسدت خواص المكون الرئيسي له وهو الماء.
ويتلوث الماء عندما تفسد خواصه او تتغير طبيعته، سواء برمي المخلفات في مجاري الماء والآبار والأنهار والبحار والأمطار والمياه الجوفية مما يجعل ماءها غير صالح للإنسان أو الحيوان أو النباتات أو الكائنات التي تعيش فيها، او عن طريق المخلفات الإنسانية والنباتية والحيوانية والصناعية التي تلقي فيه أو تصب في فروعه، كما تتلوث المياه الجوفية نتيجة لتسرب مياه المجاري إليها بما فيها من بكتريا وصبغات كيميائية ملوثة. وقد عرفت منظمة الصحة العالمية تلوث المياه بأنه تغير يطرأ علي العناصر الداخلة في تركيب المياه بطرق مباشرة او غير مباشرة، مما يجعل المياه اقل صلاحية للاستخدام بسبب التغيرات التي تحدث في خصائص المياه الطبيعية والبيولوجية والكيميائية.
وفي العراق فان مسببات التلوث متعددة، منها طرح مياه الفضلات البشرية غير المعالجة، أو المعالجة جزئيًا، إلى المياه السطحية مباشرة، وتكون أحيانًا ممتزجة بفضلات صناعية مثل النتروجين والفسفور والمواد العالقة والعناصر الثقيلة، لتتسبب بارتفاع أعداد وأنواع البكتيريا المرضية، ومن تزايد ما يطرح في المياه من فضلات صناعية وعناصر ضارة، من مواد متدفقة من مصانع النسيج والمدابغ والمسالخ، كالرصاص والزئبق والكادميوم والنحاس والزنك والسيانيد، وغيرها، ومن تسرب زيت جوفي وسطحي وغازات مختلفة من المنشآت النفطية خصوصًا في البصرة، ومن انبعاث المواد السامة من محطات الطاقة والمولدات إلى الماء والهواء، ومن فضلات المستشفيات وما تحوي من مواد مشبعة بالجراثيم الخطرة والجزئيات الكيمياوية والبلاستكية وغيرها، من ما يصل إلى الأنهار أو يجف في التربة من المياه الزراعية التي تستخدم فيها الأسمدة والمبيدات، من تسرب مياه المجاري ومياه البرك في المدن إلى مياه الشرب، ومن إشعاعات اليورانيوم المخضب الذي ينتقل تأثيره من التراب إلى الهواء ويتصف بالاستدامة لأزمان طويلة جدًا.
كما يعاني قطاع مياه الشرب من مشاكل ترجع الى تآكل شبكات انابيب نقل المياه الصالحة للشرب، وفقدان التنظيم والتنسيق في العمل، والحروب والصراعات والفساد وتدمير البنى التحتية، خصوصًا مؤسسات تصفية ومعالجة المياه والمؤسسات الصحية، ويشكل نقصان التعاون الإقليمي والدولي الذي أدى إلى شح كبير في مياه دجلة والفرات والروافد الأخرى الى تراجع منسوب المياه. يكمله ضعف القوانين والتشريعات المهتمة بسبل حماية مصادر المياه العراقية من التلوث.
وعليه يعاني نهر دجلة اليوم من كارثة بيئية يومية، بسبب رمي ما يقارب من مليون متر مكعب من مياه الصرف الصحي فيه بدون معالجة، من محطات الكاظمية ومحطة مدينة الطب والجادرية، ومن مشروع مجاري الكرخ ومشروع الرستمية، ووفقا لدراسة علمية منشورة؛ يمر العراق بمرحلة انحدار وتردي متعلق بنوعية المياه فيه، حيث وصلت نسبة ارتفاع الملوحة في مياه الانهار عام 2006 الى 1.5 بمقدار ما كانت عليه عام 2002 بموجب المواصفات العراقية، وبلغت نسبة التلوث بالكبريت لنفس الفترة 20 % اما نسبة الملوحة في نهر الفرات فقد كانت 600 جزء بالمليون عام 2007 ويتوقع ان ترتفع الى 1250 جزء بالمليون لعام 2015.
كما تعد المياه السطحية في جنوب العراق بشكل عام غير صالحة للأنشطة البشرية المباشرة، مثل الشرب الاغتسال والسباحة حيث وجد فيها زيادة كبيرة في نسبة المواد الكيمياوية، وبشكل خاص زيادة في تركيز الرصاص والزئبق، ففي الفرات الأوسط اكتشف أثار الرصاص في حليب الأمهات.
ولاشك في ان اضرار التلوث في العراق كثيرة، مفزعة فمياه الشرب سيئة وتسبب امراض ذات تأثير مباشر، يحدث خلال ساعات أو أيام، وينتج عن شرب كمية قليلة جدًا من الماء، كالأوبئة والأمراض الناتجة عن بكتيريا salmonella و shigella، وأمراض طويلة الأمد ناتجة عن المعادن الثقيلة والمبيدات والملوثات الكيمياوية، التي تؤدي إلى أمراض خطيرة كالسرطان أو تلف أعضاء في جهاز الهضم أو التنفس.
ولم تتخذ الحكومة العراقية اجراءات حقيقة وناجعة لحل هذه المشكلة، حيث سبق وان تسلم رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، مطالعة من الجهات المختصة حول تلوث مياه نهر دجلة، وبقي الموقف على ما هو عليه، وهو ما يكشف عن نقص في الخبرة، وتخبط في ادراك اهمية الأولويات الانسانية والحياتية والبيئية والاستهانة بحياة البشر.
كما تعكس من جانب آخر الفشل في اختيار المسؤولين في منظومة المحاصصة الطائفية والعرقية، ليكون جزء كبير منهم يعمل بارتجال وعشوائية، تغلب عليها أجواء البيروقراطية والفساد، وما ترتبط بها من مشاريع وهمية كلفت خزينة الدولة مليارات الدولارات.
ويضاف إلى ذلك عدم كفاءة المؤسسات المعنية بقضايا البيئة، وعجزها عن التخطيط والمتابعة والتنفيذ، وعدم كفاءة القوانين والتشريعات البيئية والآليات اللازمة للتنفيذ، وضعف استجابة السلطات المحلية والمسؤولين لمتطلبات البيئية أو عدم تنفيذ التعاليم والقوانين البيئية العالمية واعتبارها قضية ثانوية، ضعف الوعي البيئي لدى قطاعات المجتمع، وعدم وجود خطط جادة للتثقيف البيئي، والذي يجب أن يشمل الجميع. ولا ننسى الجانب السياسي الدولي في معضلة البيئة، المتمثل في غياب أي تعاون إقليمي، وفي اندلاع تسابق للاستحواذ على الموارد المائية في دول المنابع والمصدر يؤدي إلى أضرار فادحة في الطرف المرتبط طبيعيًا وتاريخيًا بمجاري الأنهر، كما أن غياب الأمن يحول دون معالجة قضايا البيئة المتشعبة.
تلوث المياه واحدة من محطات فشل حكومة المالكي، ومعالجة هذا الملف يتطلب جهدا علميا وفنيا واداريا وقانونيا ومجتمعيا، بغية تقليص تأثيرات التلوث الضارة على الصحة وحياة البشر والثروة العامة.
الكلمات المفتاحية: تلوث المياه، العراق، المالكي، مياه الصرف الصحي
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية